في وداع علي الجندي.. «شيخ المتمردين»
عاشق المرأة، نديم الحانات، قمر المجالس، سيد الرفض، شيخ المتمردين وأول الخاسرين... وضع الوطن في قلبه، كتب الشعر بدمه، عاش بكل خطوط الطول والعرض، ولما اعترته الشيخوخة غاب في الهامش، وحين ناداه الموت ترجّل عن صهوة الحياة دون ضجيج، ورحل حاملا معه غصة الفقر وصليب العزلة ووجع الإهمال وتعب السنين... ومن عرفه ذات يوم سوف يدرك أن المقصود بالعبارة هو الشاعر السوري علي الجندي الذي غادرنا قبل قرابة الشهرين.
هكذا كان يراه أصدقاؤه الكثر، وهكذا رسمته ذاكرتهم بين دفتي كتاب حمل عنوان «علي الجندي الأمير الضليل بودلير العرب» من إعداد وتوثيق معاون وزير الثقافة الدكتور علي القيّم، والكتاب تم توزيعه مؤخرا في حفل تأبين الشاعر علي الجندي، وهو عبارة عن مجموعة من الدراسات النقدية والشهادات الحميمة التي ترسم ملامح السيرة الذاتية والشعرية للراحل.
جاء تقديم الكتاب بقلم وزير الثقافة السوري الدكتور رياض نعسان الآغا، نقرأ فيه: «بعدت بي المسافة عن علي الجندي سنين طويلة، فلما عدت إلى سوريا وتسلمت مسؤولية وزارة الثقافة، سألت عن علي الجندي، ما أخباره وأين يعيش؟ قيل إنه شبه منعزل في اللاذقية، فسعيت إليه في بيته، وفوجئت بالشيخوخة تعتلي الفتى الوسيم الأنيق الذي عرفته في مطلع السبعينيات، وقد سُررت بلقائه، وراودني إحساس بأن هذا اللقاء مع الجندي سيكون الأخير، وحين بلغني نبأ وفاته، شعرت أن لبنة أخرى هوت من صرح ثقافتنا».
أما الدكتور القيّم فقد كتب في مادته النقدية «بودلير العرب»: «كان علي الجندي متأثرا بالفلسفة والفلاسفة وبخاصة نيتشه وأوسكار وايلد الذي كثيرا ما ردّد قوله الشهير: إذا أردت أن تكتب فاكتب بدمك، وبالفعل كتب علي الجندي بدمه، بعد أن ملأ الغبار أيامه وأحلامه» (ص7).
الدكتور جوجيت عطية إبراهيم التي ربطتها بالشاعر الراحل علاقة صداقة قوية ومديدة، والتي قامت بطباعة أعماله الكاملة في النصف الثاني من التسعينيات، كتبت في كلمتها: رحل علي بعد مرض وغربة ووحدة قاتلة ... علي الذي عرفته في العام 1969 في جريدة البعث، حيث كان أخي جورج يعمل. كانت هذه الجريدة تضمنا يوميا بعد عودتنا من الجامعة طلاباً وبعثيين ونقاشات ثورة ووطنية واشتراكية ونزوحاً ومقاومة وخوفاً من الآتي». وكتبت أيضا: «إن الجهد الذي بذلته في جمع وطباعة أعمال علي، يعادل طباعة ونشر مئة كتاب، الديوان الأول مفقود تماما، وقد طُبع في بيروت في العام 1962، ذهبت إلى المطبعة، وجدت انها قد أغلقت، أما الناشرة فقد حملتني إلى بيتها قائلة. مكتبتي احترقت في الحرب، لذا فإنك ستبحثين في مستودع بيتي، وبعد جهد دام أياما وجدت نسخة يتيمة، وقد احترقت أطرافها، أما باقي الدواوين فحدّث ولا حرج».
المقدمة التي كتبها الراحل ممدوح عدوان في الأعمال الكاملة لعلي الجندي، والتي اندرجت أيضا بين دفتي الكتاب، توضح علاقة علي الطهرانية بالشعر عموما وبشعره بشكل خاص. نقرأ: «قياسا الى حجم ما كتب من شعره، هو أقل الشعراء العرب نشرا وانتشارا، وأقلهم تداولا، وما يُعرف عنه من شاعر هو الشائعة التي خلقها سلوكه وعلاقاته، أكثر مما عُرف من خلال نشاطه أو إلقائه للشعر أو نشره، وليس لأنه غير قادر على المتابعة فقط، بل لأنه يرى ذلك في المرتبة الثانية من الأهمية، ألا يكفي أننا كتبنا؟ ما تبقى من الوقت نحن في حاجة إليه للعيش، وليس لأن نتحول موظفين عند قصائدنا، فمعظم الشعراء العرب- في رأيه - يتحولون بعد كتابة الشعر إلى موظفي علاقات عامة، يبحثون عن التسويق والمقايضة والمبارزة... وسأعترف الآن أنني كنت أخاف منه، أعني كنت أحسب حسابا جديا لرأيه، دائما كنت أقول لنفسي ماذا سيقول علي عن هذا الذي فعلته، وحتى عن هذه القصيدة التي كتبتها، بل حتى عن المكان الذي اخترت ان أنشر القصيدة فيه، وكان يرينا من دون جهد كبير أن الإنسان يستطيع بتلقائية شديدة أن يكون نظيفا ومتعففا ورخو الارتباط بما هو يعيق، كأنما هو مرتبط بالمبدأ الصوفي القائل: ما أملكه يملكني» (ص27).
وكتب صديقه الشاعر علي كنعان: «لم يكن علي الجندي رائد الحداثة الشعرية في سوريا، وحسب وإنما كان رائدا حتى في حياته العاصفة، وزواجه الدرامي، وتصرفاته المتحررة من أعباء التقاليد وبؤس المجاملات وزيفها، ويوم كان مديرا للدعاية والأنباء قبل استحداث وزارة خاصة بالإعلام، لم يشأ أن يحبس نفسه في رتابة الروتين الرسمي، لكنه ظل على نهجه الذي اختطه لنفسه، وإن كانت تلك المديرية التي كان مسؤولا عنها في تلك الأيام لا تقل أثرا عن وزارة الإعلام والثقافة معا، خصوصاً إذا تذكرنا أهمية الإذاعة وعدد الصحف والمجلات في أوائل الستينيات من القرن العشرين، كان لقاؤنا الأول في ربيع 1964 في مطعم (حانة الصفاء) على الضفة اليسرى من جسر فيكتوريا، وكنت طالبا جامعيا مثقلا بالخجل الريفي، لكنه فاجأني بطيبته وبساطته، وإن لم يفلح في تشجيعي على التعلق بالعصير المعتق... كانت هزيمة حزيران قاسية على جيلنا كله وعلى أمتنا جمعاء، وكان الجندي الشاعر سباقا كدأبه في التلقي والاستجابة والإبداع، فقد نشر ديوانه «الحمى الترابية» قبلنا، وأذكر أني قلت له يومئذ: لقد احترقت عنا جميعا يا أبا... اللهب (ص36).
وكتب الشاعر شوقي بغدادي: «أتذكره الآن بكامل أوصافه زميلا في كلية الآداب في جامعة دمشق، شابا وسيما أنيقا ساخرا ضاحكا باستمرار، أتذكره الآن محاطا بزميلاته المفتونات به، اتذكره الآن وقد غدا موظفا في دولة البعث الجديدة مديرا للدعاية والأنباء، وقد اجتمعنا في مكتبه لتأسيس اتحاد الكتاب العرب، أتذكره الآن في السهرات العامرة كيف كان يسيطر على الجلسة بمنادمته الحلوة المثيرة دائما» (ص104).
أما الشاعر سهيل ابراهيم فقد ودّعه بقوله: «أيها الصديق الراحل، سلام على ثراك الطيب، ففي ثراك يرقد طفل مديد القامة، اخضر العينين، كان قنديلا للشعر، تجوّل في ليالي دمشق أكثر من ثلاثين عاما، فأبصرنا في ضوئه ما أبصرنا، وكتبنا ما كتبنا، وإذ ودّعناه فقد ودّعنا معه أجمل فصول عمرنا البيضاء» (ص100).
حول علاقة الراحل بالشعراء كتب راسم المدهون: «جعلني أتوقف دائما أمام صداقاته الكثيرة للشعراء ومن كل الأجيال، وهي صداقات وضعته طوال حياته قريبا من التجارب الشعرية الجديدة، ليس بمعنى الرعاية والمساعدة فحسب، لكن أيضا بالمعنى الذي يجعله على الدوام شاعرا شابا لا تنقطع صلاته بالتجريب والمغامرات الفنية ... في قراءات الشاعر أسماء كانت تتردد كثيرا لشعراء أَحبّهم، كنا نلتقطها ونغادره للبحث عن أشعارهم، من أولئك الياس أبو شبكة، ومنهم أيضا ميشيل طراد وسعيد عقل وطرفة ابن العبد والملك الضليل امرؤ القيس والسياب ومحمد الماغوط.. علي الجندي ذائقة بالغة الانتقائية، يتردد كثيرا قبل قراءة الشعر مترجما، على الرغم أنه مارس الترجمة عن الفرنسية في بواكير حياته، فهو كما كان يردّد يعشق الشعر كما كتبه أصحابه، وهو بذلك لا يتبع المقولة السائدة عن خيانة الترجمة فحسب، ولكنه يشفق على بصمة الشاعر التي سوف تنمحي حتما في كلمات المترجم واللغة الجديدة».
في السياق اياه كتب خليل صويلح عن علي: «صديق السياب منذ أول زيارة له إلى دمشق كان دليله إلى الحانات والبهجة، إذ كانت قصائده قد سبقته إلى بيروت وبغداد، يُروى أن سليم بركات حين أتى دمشق ذهب إلى مكتبه متهيبا، وقبل أن يدخل المكتب خلع حذاءه عند الباب، وصافح الشاعر بارتباك، لكن الجندي أخذه بالأحضان، ودعاه توًّا إلى حانة قريبة لإعجابه بقصيدة له، كان قد أرسلها بالبريد» (ص42).
وكتب اسكندر حبش: «هو فعلا قمر المجالس، كما كان يطلق عليه منذر المصري، إذ ما من جلسة إلا وكان بطلها بدون استثناء، بالأحرى كان يكفينا فخرا ونحن في مطلع شبابنا أن نجلس إلى الطاولة التي كانت تضمه» ( ص88).
وكتب حسين عبد الكريم: «علي الجندي وفايز خضور ومطعم الشرفة في اتحاد الكتاب، شركاء وندماء وأصدقاء وشعراء دائما، وعشاق فاشلون، ويجيدون الحفاوة والترحيب بزوّار كثيرين» (ص53) وتساءل: لماذا نسهب إلى حد كبير في تغييب المبدعين وأصحاب الخبرات الروحية والفنية والفكرية؟.
وعادت ذاكرة خضر الآغا إلى لقائه الأول بعلي فكتب: «كان علي الجندي ثاني شاعر أراه وألتقيه على وجه الأرض بعد فايز خضور، كنت للتو أتعرف على الشعر، وأحاول كتابته في منزل أخته أم حسين في السلمية الذي كان محتشدا بأصدقاء الشاعر الذين يناقشون سياسة الكون برمتها. قال لي: نحن شعراء ولا تهمنا هذه الأحاديث، عندما غادرت قال عد غدًا لنجلس كشعراء، قال نحن شعراء، ولم يقل يا بني افعل ولا تفعل، قال ذلك لي أنا الذي عندما أتيت إليه كنت أتعثر بظلي، وأتذكر قول محمود درويش عندما كان قادما إلى حبيبته (حلقت ذقني مرتين/ ومسحت نعلي مرتين) إذ إنني حلقت ذقني بالفعل مرتين مع أنها لم تكن نبتت، ولبست ما كنت أتصوّر أنه أجمل ثياب اخوتي، إذ إنني ذاهب إلى الحضرة، إلى الشاعر، وأن يكون الشاعر هو علي الجندي وفي السلمية وفي الثمانينيات، فذلك أمر يعني ما يعني، ويصعب تخيله...آنذاك بعد أن خرجت منتشيا من لقاء الشاعر، لم أذهب للعب ومطاردة النساء مع شباب الحارة، بل ذهبت لأكتب الشعر بصرف النظر عن النتيجة» (ص64).
وبخصوص البرنامج الإذاعي الذي كان الشاعر الراحل يعدّه ويقدمه كتب عادل محمود: «ذات يوم قال لي اسمع برنامجي اليوم، واستمعت إليه وهو يقرأ بصوته المنفعل والشجي مقاطع شعرية وقصائد مختارة لي، وعندما انتهى البرنامج تلفنت له، وقلت ممازحا علي لمن هذه الأشعار؟ كان صوته وطريقته في الإلقاء يجعل أي شيء شعرا (ص106). وفي حديث صحفي معه سأله نبيل صالح: أستاذ علي أنت الآن في الستين ألم تنته من اللهو بعد؟ فأجاب: أنا أكبر من أن يرضيني اللعب واللهو، وأصغر من ان أحيا بلا رغبات، كلما تقدمنا في العمر تعلقنا بالحياة أكثر وعرفنا قيمتها، وأنا لا أستطيع ان أعزف عنها عندما تهتز امامي بكعب عال وساقين ممشوقتين، كلما ابتعدت عن الماء عرفت قيمته أكثر يا صديقي الشاب (ص115).
وفي مكان آخر قال علي: أنا لا أخاف الموت، لكني أرتعد من الشيخوخة، الشيخوخة عار (ص40)، وكأنه كان يدرك كم سوف يكون أفوله جارحا.
وقد أشار أنور بدر إلى عزلة الشاعر في سنواته الأخيرة بقوله: «عاش شعره وقناعاته كجيل، بل عبّر عن جيل بأكمله في العشق والثقافة وحب الوطن، لكنه مات مفردا في مدينة اللاذقية، حتى ان اتحاد الكتاب الذي أسسه لم يكلف نفسه في هذه المناسبة وفي حضرة الموت أكثر من نعي في الصحف الرسمية، علمًا أن معرض الكتاب الدولي في دمشق كان مناسبة لتكريم هذا العلم في الشعر العربي وفي الحداثة الشعرية، لكنهم ضيّعوا هذه الفرصة التي كان يمكن أن يكّبروا بها، لو كانوا يعلمون».
■ ولد في سلمية في العام 1928، تخرج في جامعة دمشق قسم الفلسفة 1956، عمل في الصحافة الثقافية بين دمشق وبيروت وله بعض الترجمات الشعرية عن الفرنسية، عمل مديرا عاما للدعاية والأنباء، من مؤسسي اتحاد الكتاب في العام 1969، عضو جمعية الشعر، صدرت له الدواوين التالية: (الراية المنكسة 1962، في البدء كان الصمت - بيروت 1964. الحمى الترابية - بيروت 1969. الشمس وأصابع الموتى - بغداد 1973. النزف تحت الجلد - اتحاد الكتاب - دمشق 1973. طرفة في مدار السرطان - اتحاد الكتاب - دمشق 1975. قصائد موقوتة - بيروت 1980. صار رماداً - اتحاد الكتاب - دمشق 1987. سنونوة للضياء الأخير - شعر - بيروت 1990).
توفي في آب (اغسطس) 2009.
بطاقة
الكتاب: «علي الجندي/الأمير الضليل/ بودلير العرب» في 184 صفحة من القطع الكبير
الإعداد والتوثيق: الدكتور علي القيم
الناشر: وزارة الثقافة/دمشق 2009
تهامة الجندي
المصدر: الكفاح العربي
إقرأ أيضاً:
إضافة تعليق جديد