خازن المحرقة: غازي أبو عقل يطلق النار على جهاد الخازن
الجمل - غازي أبو عقل: اقتنعتُ دائماً بما حدَّثونا عن وجود جهاد أصغر وجهاد أكبر في ثقافتنا، وعن أنواع بينهما كجهاد البناء على سبيل المثال. وأرى لزاماً عليَّ اليوم أن أضيف إلى ما سلف من أنواعٍ، "جهادَ المحرقة" الذي يخوض غماره بلا هوادة الأستاذ جهاد الخازن في عيون وآذان "الحياة". أحصيت في الأسابيع القليلة المنصرمة عددَ المرات التي زاول فيها الأستاذ الخازن هذا الجهاد التطوعي، وتوصلت إلى هذه النتيجة، باستثناء السهو والغلط:
ففي 7/5/2009 رفضَ حقَّ الرئيس نجاد في إنكار المحرقة "فهي حدثت وقُتل فيها ستة ملايين يهودي".
وفي 8 أيار ذكّرنا بها في تناوله خطاباً "للفيلسوف الفرنسي المأفون ب. هـ. ليـﭭـي.
وفي 12 أيار عاد إلى الرئيس نجاد "الذي نصب نفسه محامياً للغرب المسيحي الذي قتل ستة ملايين يهودي ثم أرسل الناجين إلينا".
وفي 29 أيار ورد اسم المحرقة مرتين والهولوكوست مرة في سياق الدفاع عن ترشيح وزير الثقافة المصري إلى الأمانة العامة لليونسكو.
وفي 13 حزيران حين نَدَّد "بالكاهن الأحمق" باتريك ديبوا الذي يريد أن يزيد على رقم الملايين الستة الذي أعلنه اليهود أنفسهم".
وفي 15 حزيران في سياق رسالته إلى فخامة الرئيس أوباما، مُذَكّراً بأن الأمريكيين "لم يدفعوا ثمن قتل الغرب المسيحي ستة ملايين يهودي وإنما تركونا نحن ندفع الثمن".
وفي 17 حزيران عاد إلى الرئيس أحمدي نجاد، وكرّر اعتراضه على إنكاره المحرقة.
وفي 20 حزيران معلقاً على كلام مايكل غيرسون على خطاب الرئيس أوباما "الذي لم يهمل المحرقة وقال إن إنكارها لا أساس له وجهل، وكرُه".
أُقدّر للأستاذ الخازن اعترافه في 21/6/: "بأن عنده على ما يبدو ميول سادومازوخية فأنا أقرأ ما يكتبون لأعذب نفسي ثم أنقل بعض ما أجد – من كتابة الإسرائيليين – إلى القراء وأعذبهم معي"... المأساة أن الأستاذ الخازن في كل ما يتصل بالمحرقة لا ينقل عن الإسرائيليين بل يعود إلى ذاكرته التي ملأها بالملايين الستة، وراح يفيض علينا ببعض ما عنده.
لا أخفي إعجابي بما يكتبه الأستاذ الخازن في زاويته اليومية، لأن هذه الوتيرة من الكتابة من أصعب أنواعها، ولا ينقص إعجابي بما يكتبه إلا حين يأتي على ذكر رحلاته إلى الصيد مع المُصَنّفين V.I.P وعندما يتحدث عن "المحرقة" اليهودية... هنا ينقلب إعجابي إلى غضب حيناًُ وإلى رثاء أحياناً.
عَوَّدنا الأستاذ جهاد على ألا يهرف بما لا يعرف، لكنه يكتب في مسألة المحرقة كمن لا يستوعب المسألة نهائياً مكتفياً – كالصيد – من الغنيمة بالإياب ومعه ستة ملايين ضحية، أو أنه لا يريد نشر ما يعرفه، تقيداً منه بقانون غايسو الذي مَنع في فرانسا ثم في الغرب كله الحديث الموضوعي عن المحرقة، لا بل البحث التاريخي الموثق حتى في محكمة نورنبرﭺ وهنا نأخذ عليه جناية كتم معلومات، لا في قضية غير ذات أهمية، بل في مسألة تاريخية مهمة جداً، أدت إلى نتائج أكثر فداحة ومأساوية من المسألة الحقيقية.
كنتُ في عام مضى قد كتبت رداً على ما نشره الأستاذ الخازن عن "تمنياته لو أن العرب شاركوا في يوم الاحتجاج العالمي على مجازر دارفور"... وعن مسارعته إلى القول "أرجو ألا ينسى العالم المحرقة النازية وستة ملايين يهودي قضوا... ولما أحس بأنه "زادها" أضاف: وأرجو أن يذكروا مرة في السنة صبرا وشاتيلا".
استعنتُ لإقناع الأستاذ جهاد بضرورة البحث في أمور أخرى، وترك المحرقة لمن يرتزق منها، بشهادة المغفور له مناحم بيـﭽن بشأن ضحايا المحرقة، كما وردت في كتاب صحافي اسرائيلي معروف شيمون شيفّر عن "أسرار التدخل الإسرائيلي في لبنان". فتجاهل الأستاذ الخازن جوهر الموضوع وتعلق بأعداد الضحايا، وفضَّل الاستمرار في خوض جهاد المحرقة، طلباً للثواب في الآخرة، رغم كون ثواب مجاهديها يُعطي أُكْلَه في هذه الدنيا الفانية.
ولما طفحَ كيلُ التروّي بما يسكبه الأستاذ الخازن يومياً تقريباً فوق رؤوسنا من كلام لا لزم له على الأقل، جئت هذه المرة بصحبة صهيوني عريق آخر ولكنه نقيض المرحوم مناحم، ثقافة وشعوراً إنسانياً، هو السيد أبراهام بورﭺ، الذي كان مستشاراً لرئيس وزراء إسرائيل لشؤون الشتات، ورئيساً للوكالة اليهودية، وللحركة الصهيونية العالمية ونائباً لرئيس المؤتمر اليهودي العالمي وأخيراً رئيساً للكنيست في إسرائيل. نوهت بمسيرة هذا الرجل بهذا التفصيل الممل لأؤكد للسيد الخازن أن "أبراهام" لا ينطق عن الهوى أو الهواية كغيره.
نشر بورﭺ في 2007 بالعبرية كتاباً عنوانه "التغلّب على هتلر"، تُرجم إلى الفرنسية في 2008، وهي الطبعة التي أستعين بها لنقل بعض ما كتبه بورﭺ عن واقع إسرائيل اليوم وعن المحرقة – إياها – أيضاً.
الكتاب مهم فعلاً وكاتبه أيضاً، رئيس الكنيست السابق يبدي رأيه بصراحة نحسده عليها، ويقول: "إن البلاد أصبحت مملكة بلا نُبُوَّة... وأن السفينة تبحر ولكن ما هي وجهتها؟ ويحكي في مقدمة الطبعة الفرنسية، عن شخص اعترض طريقه وقال له: بورﭺ أنا غاضب منك فعلاً. سألته لماذا؟ ردَّ: بسبب كتابك.
وماذا في كتابي؟ - لقد كتبتَ ضد "المحرقة" – قلت له: أنت تدهشني هل كنتَ أنت ستكتب في "مصلحة المحرقة"؟
لماذا لم يُضِفْ بورﭺ: "كما يفعل بعض جيراننا"...؟
مع أن بورﭺ عَنونَ الفصل الثاني من الكتاب: "داء المحرقة" إلا أنه أتى على ذكرها في فصول أخرى من كتابه المهم... قال: صناعةُ المحرقة التي انتابت إسرائيل في السنوات الأخيرة هي غريبة عني... يوجد في الواقع أساسٌ آخر تستند إليه الهوية اليهودية المعاصرة بكل وزنها هو "المحرقة".. وتبدو لي صدمة المحرقة مثل المرض لا شفاء منه... أنا أحترم تعاليم التراث التي تقول: البطل الحقيقي هو الذي يجعل من عدوه صديقاً.
يتساءل بورﭺ في الفصل المعنون "داء المحرقة": من أين ينبغي لي أن أبدأ؟ وكيف أتصرف لكي أتسلَّق هذا الجبل الوعر المسالك، هذه الهملايا؟
أسأل بدوري السيد بورﭺ: لماذا لا تتعلم ممن يتسلّق هذه الهملايا عَدْواً وعدة مرات شهرياً؟ بعد أن ينتقد بورﭺ الأنظومة المدرسية الإسرائيلية، ويبدي استياءه حين يسمع طلاب "البكالوريا" يقولون: "سنجتاز امتحان المحرقة الإجباري" كأننا جعلنا من أولادنا "ناجين بالتفويض". يضيف: الأمم كلها لديها نُصب الجندي المجهول الذي يرمز إلى تضحية الفرد، نحن وحدنا عندنا نُصب جماعي لنا كلنا "اليد الموشومة" - يادﭭـاشيم – الذي يُشكّل جزءاً من طقوس الدين الجديد اليهودي. أود – ولو أطلتُ – نقل هذا المقطع حرفياً من الصفحة 54:
"دول قليلة في العالم كله تحصي مواطنيها بمثل هذه المثابرة: مليون ونصف، مليونان، ثلاثة، أربعة، خمسة... ولكن حذار، دولتنا تحصي مواطنيها على حدة ويهودها على حدة. عشية كل سنة جديدة، وأحياناً بين يوم ذكرى "المحرقة" ويوم عيد الاستقلال، لنتأكد مما إذا كنا أدركنا الرقم السحري – ستة ملايين – ذلك أن إسرائيل مستمرة في استملاك ضحايا المحرقة كل عام، هؤلاء الضحايا الذين اختفوا قبل إنشائها بسنوات طويلة. وهي تضيفهم وتضمهم وتستوعبهم في "دولة إسرائيل الثالثة"، هذه الدولة التي ما كانوا سيلتحقون بها ربما، لو تُرك الأمر لهم، ليس هذا إلا القسم المرئي من عبادة الهاوية التي لا قرار لها والسائد في إسرائيل: تقديس الموت"...
أعرف مساويء الاجتزاء والاختيار من نص كتاب كامل، إلا أن الانطباع الذي يريد بورﭺ إعطاءه – بعيداً عن إنكار المحرقة – يلخص بثلاث كلمات كتبها: كثير من المحرقة يقتلها... ربما لهذا السبب يكثر الأستاذ الخازن من ذكرها، بعد أن تناسى ما وعد به قراءه ذات يوم حين خاض جهادَ الهولوكوست – كما كان يُسمَّى حينئذ – وتلَقَّى بريداً غزيراً سَبَّب له الصداع، فآلى على نفسه ألا يعيد الكرة، فلماذا لم يلتزم بما وعد به؟ وهو الذي يرجو قراءه أن يذكروا صبرا وشاتيلا... مرة في السنة، ويذكّرهم بالمحرقة مرات في الشهر؟
كنت أتمنى ومازلت، لو يخوض الأستاذ الخازن غمار الأسباب الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة، التي أجَّجّتْ الصراع الهرتزلي – الهتلري، قبل الإصرار على تذكيرنا بالرقم المقدس، ثم ينتقل بعدئذ إلى العوامل "الثقافية"، فإذا استوعبنا الدرس وعرفنا الظالم من المظلوم، يكون قد أدّى قسطَه "للعُلى".
كما أود لفت انتباه مجاهد المحرقة إلى نقطة مهمة يعرفها من اهتم يوماً بمتابعة مراحل إقامة الدين اليهودي الجديد، هذا الدين الذي لم يهبط الوحي على أنبيائه المزيفين دفعةً واحدة، بل طال أمد تصنيعه. أقول تصنيعه بسبب وجود "روايتين" لتاريخ هذه "المحرقة". الأولى تستند إلى البحث التاريخي الموثَّق، الذي عكف عليه عشرات من المؤرخين ومن غيرهم، والثانية MADE IN ISRAEL، وفيها عناصر كثيرة مُضافة بل ومُقحمة كي لا أقول مزورة... هذه الرواية الثانية هي التي "ينكرها" كثيرون بحق، لكن سيف الإرهاب الفكري يتهدد رقابهم، وكلنا يعرف كم انبرى هولوكوستيون "عرب" مُستَجدّون إلى النيل من مدرسة المراجعة التاريخية التي أنشأها هاري ألمر بارنز في الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الأولى، لكي تخلّص التاريخ من تضليل المنتصرين، ولما واصلت دراساتها للحرب العالمية الثانية، واكتشف مؤرخوها ما يزعج أضاليل المنتصرين، أحرقَ الصهيونيون مكتبتَها المركزية في لوس أنجلس. ربما كان الأمر "مفهوماً" حين يقوم به الصهيونيون، أما الغريب العجيب فهو تَنَطُّح عدد من الإعلاميين الهولوكوستيين العرب المستجدين، للهجوم على مؤرخي تلك المدرسة يوم عزمت منذ عدة سنوات على عقد مؤتمرها السنوي في بيروت، بما لهذا الأمر من مغزى، إعلاميونا – الذين لا يفقهون شيئاً لا في التاريخ ولا في غيره، يهاجمون – لسبب ما – مؤرخين غربيين لمجرد أنهم يبحثون عن حقيقة ما جرى، فكيف نسوّغ للهولوكوستين العرب هذه الخطيئة؟ وهل أسميهم "محرقيين" أم "محارقة" بعد أن صرف الصهانية مصطلح هولوكوست من الخدمة؟ أترك الأمر إلى حكمة الأستاذ الخازن، الذي أستأذنه بكلمة أخيرة ينبغي أن يعرفها كل محب للسلام والعدل والحقيقة، على نسبية هذه المفاهيم...
يوم يقف الصهيونيون الغُلاة من أمثال جماعة إسرائيل بيتنا وعصابة ﭽـوش إمونيم، ويقدمون اعتذارهم علناً عن جرائمهم التي طال أمد ارتكابها، وينحنون بتواضع غير مُصطنع على قبور ضحايانا، لا في دير ياسين وأخواتها، ولكن في مدرسة بحر البقر وقانا وحيث دَفَنوا مئات من جنود مصر في العريش بعد اغتيالهم وهم في الأسر، وعلى أضرحة شهداء لبنان قبل عدوان تموز 2006 وأثناءه وبعده، وعلى الشهداء الفلسطينيين في غزة وفي كل مكان، يوم يعلنون ندمهم على جرائمهم ضد الإنسانية، لا قبل ذلك، ربما – أقول ربما – نوافق على التغاضي عن أساطيرهم المعاصرة.. ذلك أن بعض أصحاب الضمائر منهم، قد بدؤوا يدحضون ما سلف من أساطير وما هو قيد التصنيع.
ولمجاهد المحرقة ملء الحرية – طبعاً – في أن يكتب ما يريد، لأننا نؤكد له أننا لن "نقبض" كلامه ولن نحمله على محمل الجِدّ... وهذا أضعف الإيمان...
إضافة تعليق جديد