عبــد الرحمــن منيــف ينــادي الطوفــان
تعرفت الى عبد الرحمن منيف مطلع الستينيات من القرن الماضي. كنت انضممت الى حزب البعث العربي الاشتراكي خلال الدراسة في بريطانيا والأحرى الى جناح يساري داخله. وكان عبد الرحمن واحد اثنين او ثلاثة يمثلون اليسار في القيادة القومية للحزب. لعلني قابلته مرة او مرتين في تلك الفترة 1961ـ1962. واحدة اقلها في دمشق. لم اعد اذكر تفاصيل ما دار في تلك النقاشات. لكني اخمّن انها تناولت مواضيع الساعة آنذاك: انفصال الوحدة المصرية ـ السورية، الموقف من النظام الناصري، موقع الاشتراكية من الأهداف القومية، والخلاف الذي نشب في الحزب خلال مؤتمره الخامس في حمص وبعيده، وهو الزمن الذي قذف بنا نحن الاثنين خارج الحزب مع فارق سنة او سنتين بيننا.
بالرغم من ذلك، اذكر بوضوح انطباعين. الاول، هو مبلغ دهشتي، أنا القادم من مدينة مانشستر الصناعية العمالية التي لا تزال عابقة بدخان المصانع، ان اكتشف ان القائدين الرئيسين لليسار في الحزب هما من اصول بدوية: عبد الرحمن القادم من الجزيرة العربية وفيصل حبيب خيزران، ابن شيخ قبيلة في البادية العراقية.
أما الأمر الثاني فهو التعرّف الى ثقافة المقاهي في العاصمة السورية. واذكر مقهى أكثر تواضعاً وانزواء تؤمه جماعة تسمي نفسها «المصطفلين» يحيونك وتحييهم بتحية «اصطفل» قبل ان تستجلس الى طاولتك وتشرع في تصفح جريدتك. هم قوم لا يكتمون شيئاً من السخرية تجاه الذي يؤمون المقهى من قبيل الفضول لا «الاصطفال».
مضى نحو ربع قرن قبل ان أعود فألتقي عبد الرحمن في منفانا الباريسي المشترك في النصف الثاني من الثمانينيات. يعود الفضل في وصل ما انقطع الى الصديقين الباهي محمد وطلال شرارة. سرعان ما انتظمت جلساتنا الأسبوعية نمارس خلالها ألواناً مختلفة من أدب الصداقة الذي يعلمنا اياه عبد الرحمن بذلك المزيج من النخوة والدماثة والعبوس والوفاء والخيبة والأمل في آن معاً. عبد الرحمن الخارج للمرة الثانية من تجربته العراقية محتجاً على اضطهاد الشيوعيين وصعود صدام حسين الى قمة السلطة والحرب العراقية ـ الإيرانية. الباهي محمد البدوي المغربي المرتحل الى عاصمة الحضارة الغربية مصمماً على ان لا يترك زاوية منها لا يستكشفها ويفض أسرارها ويكتب عنها وعن أحوال ناسها. والمتحدث إليكم، المغادر الحروب اللبنانية، الأهلية منها والأقل اهلية، لاستئناف دراسة جامعية تساعده على ان يقيم بالأود، وقد قطع دراسته لخمس عشرة سنة خلت وتفرّغ للنشاط الحزبي.
في مقهى «البيريغوردين» المطل على ضفة نهر السين، يحثنا عبد الرحمن على «الإدلاء بالشهادات وتدوين التجارب». يتابع بإلحاح لجوج ومقادير من الاستفزاز مصير الرواية التي يكتبها الباهي التي لم نعرف منها إلا العنوان ـ «ذاكرة الرمال». يناقشني في كتاب أعدّه بعنوان «غيرنيكا ـ بيروت، جدارية لبيكاسو/ مدينة عربية في الحرب» يروي للبنانيي الحروب الأهلية، والأقل أهلية، تجربة الحرب الأهلية الاسبانية من خلال النتاج الفني لعبقري التصوير في كل زمان. وكلانا، أنا والباهي، نحرّض عبد الرحمن على كتابة مذكراته عن فترة نشاطه الحزبي. وهو يتمنع.
ببطء ادركت الحكمة العميقة لتمنّع عبد الرحمن منيف. فمشروعه الكتابي يقوم على قناعته العميقة بأن الأدب والفن أوفر حيلة واكثر ثراء واوسع حرية من الخطاب السياسي والفكر السياسي في التعبير عن التجربة الإنسانية، والتجربة السياسية خصوصاً. في هذا الجهد، الذي يسمّيه جون برجر «تصنيع التجربة»، لم يكن هاجس عبد الرحمن جمالياً وحسب. كان أيضاً خصوصاً هاجس القبض الأعمق والأقوى على العناصر التي يجري بواسطتها تشغيل واقع متحرك ومتحوّل هو في المقام الأول واقع بشر حقيقيين. كثيراً ما كان عبد الرحمن يصف الأديب والفنان الناجح بأنه ذاك الذي عرف كيف يلقي القبض على موضوعه من خصيتيه!
في منزل عبد الرحمن بالضاحية الباريسية شاهدت لوحات مروان لأول مرة قبل أن أقرأ الدراسة الملهمة التي كان أعدها عبد الرحمن عن صديقه الفنان العربي الكبير. لن اكف عن التعبير عن اعجابي غير المحدود بالأدباء والفنانين الذين يستطيعون استيلاد المشاعر والصور اللامتناهية من موضوع واحد، على مدى سنوات، ان لم اقل على مدى عمر بأكمله. في الأدب، استحضر فوران المفردات والصور والمشاعر والمشاهد والحكايات والأساطير والأحداث واسماء النبات والزهور والأمكنة عن فلسطين في شعر محمود درويش الرائع. وفي التصوير، مفردات وتحولات الوجه في فن مروان قصاب باشي. خلال زيارتي الأخيرة لمرسمه في برلين اقترحت على مروان وها أنا أكرر اقتراحي: ان يصوّر عملية ولادة لوحته بالفيديو، لأنه اذ يقدّم لنا الحصيلة النهائية للوجه الذي يصوّر، يحرمنا مما قد استمتع هو به بمفرده، وما يشكل أثمن واجمل ما في لوحته: تحولات الوجه قبل ان يستقر على حال، بل قل الوجوه المختلفة التي تناسلت من خيال مروان الخصيب بأشكالها وقسماتها وألوانها وظلالها وبالفراغات التي تشكل قسماتها وتعابيرها بقدر ما تتشكل منها.
يريد البعض أن يرى في مدن الملح، خصوصاً في جزئها الاول «التيه» وفي شخصية متعب الهذال تحديداً، حنيناً للعودة الى بداوة ما قبل النفط. رأيت في الرواية المحاولة الوحيدة في الأدب، وفي العلوم الاجتماعية والسياسية، لسرد التحولات التي ادخلها النفط على المجتمع وقد اخذ يسلبه استقلاله والحرية ويخضعه بوحشية للاستبداد السلطوي ولمنطق السوق والربح والريوع والاستهلاك الباذخ البذيء وقطع الرؤوس وقهر المرأة.
اعترف بأن متعب الهذال لازمني بما هو شبح هائم منذ قراءتي الرواية. أتخيله محلقاً فوق «وادي العيون» وحقول النفط كلما ذكرت كلمة «نفط» او خطرت في البال او وردت في نص او حديث. فيما أنا اكتب هذه المداخلة، اردت التأكد من اسم الرجل خشية ان اكون قد اخترعت الاسم اختراعاً. لسبب ما، كانت الخماسية تفتقد الى الجزء الاول على رف مكتبتي. استقربت فلجأت الى «غوغل»: عثرت في «غوغل» على متعبين الهذال، الاول هو بطل «التيه» الشبحي. أما المتعب الهذال الثاني، فاسم لشيخ مشايخ قبيلة عنزة، العابرة للصحراء العربية. والخبر ان كثرة من النبذات عن متعب الهذال الحقيقي على «غوغل» تدور مدار حادثة واحدة: اعتقال الجيش الأميركي لشيخ مشايخ عنزة في العراق العام 2003! لست ادري ما اذا كان عبد الرحمن، خلال كتابة الرواية، يعلم بوجود آل الهذال وباسم متعبها. مهما يكن من امر، أرى في وجود هذا القرين لبطل «التيه» ما يدل على الكيفية التي تبتكر بها الحياة سردها الروائي الخاص وتكمل الحكاية. فهل من مسار روائي أكثر توفقاً وانسجاماً مع شخصية متعب الهذال من ان يشد رحال ناقته الى العراق المحتل يقاوم فيه جنود الغزو الأميركي بعدما قاوم اقرانهم واسيادهم ناهبي النفط العربي؟
والأمر نفسه يقال عن عمارة عبد الرحمن الأكثر نضجاً في أرض السواد. لقد كان عبد الرحمن مهجوساً بالحداثة والنهضة. ولكن ليس بأي حداثة. يتنامى في أوساط متوسعة من الانتلجنسيا العربية تيار ينبذ الحداثة ويعلن سقوط التقدم، فكرة ومساراً، ويسخر من كل ما يتعلق بالتنمية وبسيطرة العرب على مواردهم وفي المقدمة منها النفط، وصولاً الى تبرير الاحتلال والاستعمار بحجة أنهما حاملان للحداثة والديموقراطية والحضارة. في وجه هذا، قرأت في أرض السواد مشروع حداثة بديلة، حداثة وطنية، يرمز إليها داوود باشا، تقطع الطريق على الاستعمار وتحقق الوحدة وتسعى للتنمية في وجه الحداثة الكولونيالية القائمة على تحويل العراق الى سوق للسلع البريطانية وانتزاع امتيازات النفط وإعادة إنتاج البنى التقليدية ورسملتها لتلعب أدوارها المتجددة بما هي أدوات سلطوية وقمعية تأسر الفرد. هذه هي الحداثة الممكنة المعادية للكولونيالية التي لا نحتاج للدفاع عنها، وبلورة أوجهها المختلفة وقواها ومساراتها، الآن أكثر من أي وقت مضى.
في الختام أودّ أن استعيد معكم رؤيا من سفر عبد الرحمن «عروة الزمان الباهي» يستشهد فيها بنص من نصوص الراحل الباهي محمد.
«يأتي الطوفان فيصبح كل شيء ممكناً وتحذف كلمة مستحيل من القاموس. نوح جديد يطيح الاتكالية البليدة السائدة. رجل وامرأة تحدوهما الرغبة بالحب والإنجاب والعمل. يعمران الدنيا الجديدة حسب ذوقهما، ويملآن الأرض عدلاً بعد ان ملأها الناس جوراً».
اتخيلني برفقة عبد الرحمن والباهي ومعنا رجب اسماعيل، وقد خرج من السجن بعد 27 سنة، ومتعب الهذال وصبحي ومنصور وعساف وآخرين ممن «يمارسون فضيحة الحياة» والأمل، نسأل صارخين: أين أنت ايها الطوفان العظيم؟
[ ألقيت في ندوة بغاليري «تجليات» بدمشق بمناسبة الذكرى التكريمية الخامسة لغياب الروائي عبد الرحمن منيف.
فواز طرابلسي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد