إعادة تدوين التاريخ في "مديح الكراهية"
"يرتفع الخوف في العالم مثلما يرتفع ماء الطوفان..
ربما يبدو المشهد عظيماً بالنسبة لمن لم يطله البلل".
جملة لأمين معلوف قرأتها في رواية ما، قفزت إلى ذاكرتي حالما انتهيت من قراءة رواية مديح الكراهية لخالد خليفة. يبدو إننا حقاً بحاجة إلى زمن نبتعد فيه عن الأحداث، ندفنها في أحشائنا ريثما نصعد إلى جبل آرارات كنوح، لنشاهد مشهد الدمار من علٍ، حينئذ سيغدو بالفعل مشهداً عظيماً.
اليوم، بعد مرور سنوات طويلة، صار متاحاً لنا أن نقرأ أدباً رفيعاً يحقن الوقائع بالدلالة، وينقل الأحداث، التي سبق وحصلت، باعتبارها مشاهد روائية غاية في الغواية والدهشة، والشخصيات التي كانت من لحم ودم تغدو كائنات من لغة بعيدة كل البعد عن الخطابة والشعارات وقسوة الواقع التي كانت جزءاً منها.
هي حلب إذاً، مدينة مشوبة بظلال قاتمة من خلف غطاء الوجه الأسود الذي تسدله الراوية على وجهها، مدينة شاهد كمعظم المدن السورية. وتلك الراوية، إذ تتحكم بالسرد على طريقتها الأنثوية الخاصة، تتحفنا بنص مليء بالتفاصيل والرغبات، حتى ليكاد القارئ ينسى أن الكاتب رجل. وبقدر ما هي أحداث الرواية محقونة بالدم وبالكراهية، والشخصيات، بقدرها الأرعن والمجنون، شواهد حقيقية على نهايات السبعينيات والثمانينيات وحتى مطلع التسعينيات في سورية، بقدر ما في النص ذي اللغة العالية من غموض وما ورائية تشحنه بشحنة تخييلية، حتى أن الأحداث، التي قد تكون لمستها لمس اليد في زمن ما، تُسرد أمامك وعليها غلالة الروي الغاوية والفاتنة.
تاريخ الوطن، الذي يسرده الكاتب بلسان أنثاه، هو تاريخ المجازر الجماعية في سجن تدمر (الذي أسماه السجن الصحراوي) وفي حماة، تاريخ الجثث المزروعة في الدروب والساحات، والمدن التي تجتاحها الدبابات وسرايا الموت بأسلحتها وطغيانها، تاريخ وطن ينوء بالاغتيالات والحقد والتهافت على السلطة، محكوم بالخراب والطائفية والخوف. لكن رغم كل ذلك هو تاريخ الإنسان، إنسان يحمل داخله قلباً لن يكون في يوم من الأيام حجراً أصم، وسيبقى، شاء أم أبى، يتأرجح في كراهيته وحبه، في شجاعته وجبنه، والأهم من كل ذلك في يقينه وشكّه.
المصائر المتبدلة للشخصيات هي التيمة المسيطرة في الرواية. ميزة تعجن الشخصيات دون أن تجعل منهم قوالب منجزة، مصائر منقلبة حتى كأن الشخصية في أول الرواية تدخل لبوس شخصية أخرى في آخرها، لعنة مؤكدة ستجعل من "عبد الله اليمني"، الذي كان ماركسياً متشدداً في موسكو، ينتهي مقاتلاً حتى الموت مع العرب المجاهدين في أفغانستان، لطرد الشيطان الشيوعي الذي كان صديقه قبل سنوات. لعنة التبدل تلك ستجعل من خالة الراوية "صفاء" تتبدل من امرأة تتهجى الدهشة والعشق، تتلوى من تماس الحرير الناعم كأصابع عاشق على جسدها، وتسكر بضحكتها المكان، إلى امرأة مكللة بالشادور، لا تكاد عيناها تظهران، وهي تقبع في بيت طيني في كابول، تنتظر زوجها المجاهد عبد الله ليأتي كل حين، وتدافع بشراسة عن السلاح والحروب والحق بإقامة دولة الإسلام في أفغانستان، وتحويل ملاعب كرة القدم إلى ساحات للإعدام. هذا التبدل سيطال معظم شخصيات الرواية، كأن الثبات على يقين ترف لا يناله بشر في بقعة مجنونة كوطننا، وسط أحداث تبدو أكثر جنوناً وعبثية من الموت ذاته.. حتى الراوية ستتحول من مسلمة متعصبة توزع المناشير التي تدين الطائفة الأخرى وتتوعدها بالفناء والعقاب إلى فتاة سافرة تشرب النبيذ وتسوق مخموراً انكليزياً آخر الليل من الشارع إلى شقتها في لندن حيث هاجرت إلى غير رجعة.
الحديث عن المدرسة، التي تبدو هنا نواة صغيرة للخراب، كالحديث عن مرجل يضم مختلف أنماط الفتيات، والتي سيبدأ منها وفيها سفر الكراهية والاختلاف، تنقسم الشخصيات فيها بين فتيات مسلمات محتشمات وفتيات متهتكات، بين فتيات ضد النظام وفتيات مع النظام، مدرسة تمثل المجتمع، ويحكمها ما يحكم خارجها: اللونان المتعاكسان لا غير. وصباحاً في تحية العلم، سيبدو الواقع متجلياً والفتيات يرددن نشيد البعث ثم يمررن أمام مدربة الفتوة (الممثل المباشر للسلطة) والطالبة "ندى"، البعثية ذات الرائحة التي تشبه رائحة جيفة، وتستعرضانهن كقطيع من البغال تتأكدان من برادعهن وأطواق الخرز في أعناقهن.
الأنثى الساردة في (مديح الكراهية) تتأرجح بين راوية للحكاية، من منظارها الخاص، وبين راوية كلية المعرفة، تتدخل في أدق التبدلات النفسية لشخوص روايتها، تلك الشخوص التي تشكل تاريخ العائلة المحكومة بالتشرد. وتلك الراوية العارفة تنوجد في كل مكان أيضاً. هنا يقع الالتباس الذي يفقد النص في بعض الأماكن قوته وإقناعه. لكن تلك الراوية توالي سرد تفاصيل النساء بطريقة غاية في الغواية والدقة، تغوص عميقاً في شخصيات متباينة ومتفردة، وهي تكوّن لكل واحدة سفرها الخاص في ذلك البيت الذي ستكبر فيه على شيء واحد وحيد هو كبت الأنثى داخلها، والإيمان بضرورة دفن العار الأول الذي خلق معها: أنوثتها.
وسفر النساء ذاك جزء لا يتجزأ من الرائحة، وكأنها عنوانه: أجساد تفوح في أزقة ضيقة. "مريم" الخالة الكبرى، التعيسة ما دامت مساماتها فارغة من روائح الرجال، تعيد استعادة الرجل الذي عشقته "ابن السمرقندي" بطريقة واحدة وهي استعارة رائحته، واستحضارها في تخييلها فحسب، لأن رائحة الرجال الغرباء حرام، كما تدأب على القول لابنة أختها الراوية. الرجل مستعار دوماً، بالنسيج الذي يداعب الجسد كرجل شبق، بالخيالات، بأحلام اليقظة، وحتى بالذهاب بعيداً عنه في تفاصيل تنسينا إياه. أما الرجل الوحيد الذي كان موجوداً دائماً في ذلك البيت فقد كان الخادم الأعمى "رضوان" في دلالة عميقة للحضور الذكوري الواهن.
كان على كل امرأة في ذلك البيت أن تبحث عن خلاصها بنفسها. أما الراوية التي يكبلها ألم أنثى هي مجبرة على وأدها، فقد كان خلاصها بالكراهية. "نحتاج إلى الكراهية كي نجعل لحياتنا معنى". وعلى مر الرواية تجرب الراوية أن تؤجج نار الكراهية، كراهية للسلطة وسرايا الموت التي ستمتد إلى أبناء الطائفة الأخرى، الكراهية التي تجعلها تتحول إلى مخلوق لا يرى إلا أشباهه يستحقون الجنة وغير ذلك فإلى جهنم وعذابات القبر. لكن الفصل الثالث من الرواية، الذي عنونه الكاتب برائحة البهار، سيكون الفيصل في حياة الراوية، فصل عن السجن حيث اعتقلت الأخوانيات كغيرهن وغيرهم لسنوات طويلة.. لكن تفاصيل المعتقل الغائمة نوعاً ما في النص الروائي والمؤثرة أحياناً، بوجود طفل ترعرع في المعتقل، لن تنتج تطرفاً أكبر في قلب الراوية، بل على العكس ستجعل الحياة تبدو أمامها هزيلة وقصيرة. والعيش المشترك هناك في غياهب المعتقل سيبدد الكراهية والاختلاف الطائفي اليومي الأمر الذي يجعل الآخر يتبدى على حقيقته: إنسان من لحم ودم مثلنا. والسجن سيحول كل الكتلة القاسية السابقة في قلبها إلى حنين ودفء، لتصبح "سلافة" المعتقلة الشيوعية أحد أعز صديقات الراوية الإسلامية.
كما تتبدل مصائر الشخصيات في تلون جميل، تتبدل دواخلهم أيضاً بتلون أجمل وأجمل، ليبدو المجتمع السوري على حقيقته، فسيفساء دقيقة تعج بالألوان والأشكال. ففي العائلة نفسها ثمة قتلة وثمة متسامحون، هناك من يعتقد بأن الفناء هو الثمن الوحيد الذي يجب أن يدفعه ليس فقط المتورطين مع النظام بل أيضاً الذين يمتون له بأية صلة حتى لو كانت طائفة ولدوا فيها، وثمة أيضاً من يعتقد العكس. وسيكون لأستاذ الشعر الإنكليزي مثلاً حفيدين على طرفي نقيض. العائلة المركزية في الرواية، عائلة الراوية، تضم ثلاثة رجال أحدهم صوفي تحول إلى درويش غائب عن الكون في عالم الأرواح، وأحدهم مسلم قائد لجماعته التي ستتحول من جماعة عسكرية مسؤولة عن الاغتيالات والتفجيرات في البلد إلى جماعة سياسية في لندن، وثالثهما متهتك ماجن لا هم له إلا المال والنساء. وفي النظام نفسه هناك من تشرّب القتل كأنه ولد من بطن أمه سفاحاً، وهناك من هو ضده.. هذه المزاوجة الجميلة والحقيقية سنتسحب إلى علاقات العشق، حيث ستنتهي في حالة "غادة"، الصبية الشهية صديقة الراوية، إلى انتحارها بعد عشقها لضابط في المخابرات، يكبرها بثلاثين عاماً، يهجرها ككلبة جرباء. فيما سينتهي في حالة "مروة"، الخالة الثالثة للراوية، بشكل رومانسي يستمر فيه زواجها من "نذير" بعد أن يترك الجيش غير آسف ويعود إلى ضيعته كأي فلاح نشيط.
رواية مديح الكراهية تؤرخ بامتياز لحقبة ما تزال غامضة في الرواية السورية، لكنها تؤرخها بزخم روائي عال وبلغة فنانة، تدخل أعماق الشخصيات، أعماق الهامش الذي ليس خارج السلطة فحسب، بل ضدها وأحياناً في مواجهتها، هامش تتلوى مصائره كما تتلوى أحداث سورية المنصرمة والمسكوت عنها، أحداث مليئة بالدم والثأر والطغاة، كما هي مليئة بالحب والخلق والدهشة، لتعود الرواية إلى وظيفتها الأولى، تعود لتفتتح تاريخاً هي التي تعيد تدوينه بحق.
روزا ياسين حسن
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد