أدونيس: قصيدة النثر لا تعني بذاتها شيئاً (3)
بعد جزءين من الحوار الذي أجريناه مع الشاعر أدونيس، وفيه يقدّم الشاعر نفسه، كما لم يفعل من قبل، في حواراته الكثيرة التي أجراها سابقاً. ننشر هنا الجزء الثالث.
إنه أدونيس ولكن عبر الآخر، الذي هو الصديق أو الأب أو الخصم، وعبر علاقات تراوحت بين الصداقة والمحبة والجفاء والخصومة في أحيان، وعبر قضايا وشؤون كثيراً ما أثارت شغف قراء الشاعر وحفيظتهم.
أشخاص يتحدث عنهم أدونيس بحرية وجرأة، غير متهيب أي عاقبة أو رد فعل. إنها سيرته ومساره يستعيدهما عبر هؤلاء الأشخاص، القريبين والبعيدين على السواء، هؤلاء الأشخاص الذين صنعوا جغرافيته الحميمة وفضاءه الحيّ وأفقه الشعري والفكري.
هنا الحلقة الثالثة من «الحوار» مع أدونيس.
اليوم يظلم يوسف الخال. بات يعتبر بطريركاً محركاً، أكثر منه شاعراً مجدداً.
- هذا خطأ كبير ومزدوج: في حق الشاعر، وفي حق الشعر. وأكثر أقول: أشك في أنه قُرئ كما ينبغي، حتى من المعنيين بالشعر، أو من الذين يكتبونه.
> لكن، الى أي مدى ترى أن يوسف الخال جدد القصيدة؟
- أولاً، من حيث الشكل والبنية، هو بين أوائل الذين نظّروا للخروج على الوزنية التقليدية، فكتب قصيدة غير شطرية، قائمة على الجُملة، وكتب قصيدة مدوّرة بلا قافية، ونَثْرنَ شِعرية الوَزْن، إضافة الى أنه كتب بدارجةٍ جديدة هي اللغة الفُصحى دون حركات إعرابية. ثانياً، من حيث المضمون، جُرّد الشعر من انفعاليته وتأوهاته العاطفية الغنائية، بالمعنى البكائي السطحي، وأنينه الذاتي الفردي، ورَبطه برؤية إنسانية حضارية. ثالثاً، أسس لمناخ مفتوح يستقبل الشعراء وبخاصة الشبّان، يدعمهم ويشجعهم وينشر لهم، خالقاً هكذا حركة ثقافية – فنية، كانت أكثر نضجاً ووعياً وفاعلية من جميع الحركات التي سبقتها، على أهميتها التاريخية. واليوم، دون اي مبالغة، يمكن أن نقسّم تاريخ الشعر الى قسمين: الشعر قبل مجلة «شعر»، والشعر بعدها.
> الى من كنت أقرب في مجلة «شعر»، ما عدا يوسف الخال؟
- الى أنسي الحاج. وبعده، في مرحلة لاحقة، الى بدر شاكر السياب.
> كنت أول المرحبين بأنسي في رسالتك الشهيرة.
- طبعاً. كان بشارة، كما بدا لي آنذاك، لكتابة عربية جديدة، رؤية وبنية.
> ثم واكبت أعماله. واختلفتما فترة، أم ماذا؟
- حدث بيننا جفاء، منذ أن تركت مجلة «شعر». وأسند إليه يوسف الخال، بذكائه الذي يعرف عمق علاقتنا، أمَر مُهاجَمتي بسبب انفصالي عن المجلة. ثم جاءت الحرب الأهلية، وهجرتي من بيروت الى باريس. هذا كلّه أحدث نوعاً من القطيعة على صعيد اللقاء، لكن، على صعيد الكتابة كنت حريصاً دائماً على قراءته، ولا أزال.
> اتّهمك بعضهم بأنك صرت تشعر بأنك أصبحت أكبر من المجلة، وأردت أن تنفرد بمشروعك؟
- هذا مجرد تأويل. تركت المجلة، بعد أن فشلتُ في تطويرها، في جَعْلِها تُعنى، من جهة، على نحو أشمل، بالتراث العربي، والحياة العربية والقضايا العربية، ومن جهة برؤية أكثر جَذرية وأعمق تأصّلاً في الشعرية الكونية. كانت المجلة أخذت تغرق في مياه العلاقات الفردية السطحية الصداقية، وتخفف من صرامة المعايير الفنية، وتتحول الى نوعٍ من «التحزّب».
هكذا لم أنشئ مجلة «مواقف» إلا بوصفها امتداداً لمشروع مجلة «شعر» الأصلي: العمل على خلق شعر عربي جديد، وثقافة عربية جديدة.
كان لا بُد من تعميق العلاقة بين الشعر والثقافة، بمعناها الإبداعي. مجتمع لا يُبدع ثقافته المتميزة، كيف يمكن أن يقبل رؤية شعرية إبداعية ومتميزة؟ لا ينمو الشعر العظيم، ولا يُقدّر ويفهم، إلا داخل ثقافة عظيمة. ومهما كان النص الشعري أو الفكري عظيماً، فهو يصغر عندما يقرؤه عقلٌ صغير. ومشكلتنا الأولى الشعرية والثقافية والسياسية، في الحياة العربية هي في هذا العقل الصغير المُهيمن. في هذا الأفق، وبالهواجس التي يثيرها، تركت مجلة «شعر»، وأنشأت مجلة «مواقف».
> هل استمرت القطيعة بينك وبين أنسي طويلاً؟
- قلت: جفاء، لا قطيعة. من جهتي، أحبّ أن ألتقيه، دائماً. مع أنه قيل لي: إنه أسقط من كتابه «كلمات»، كلّ ما كتبه عنّي. والحقيقة أنني لم أهتم بهذا القول، حتى أنني لم أقرأ «كلمات» لكي أتحقق من ذلك.
> علماً أن خالدة كتبت المقدمة؟
- يكنّ تقديراً عالياً لخالدة. وهي نفسها تكنّ له تقديراً عالياً. ما كتبته عنه فريدٌ. لم يكتب عنه أحد بمثل هذه الفرادة.
> لكن الأجيال الآن تقرأه بشكل قوي؟
- آمل أن يكون ذلك صحيحاً. لكنني مع ذلك أشعر أن هذه الأجيال لا تفهمه إلا شكلياً وتَبْسيطياً، بوصفه رائداً لقصيدة النثر. فهي لا تفهمه – في رؤيته العميقة، شعراً ولغة، للحياة والإنسان والعالم.
> قلت أكثر من مرة إنك تفضل أنسي على محمد الماغوط. ما السبب؟
- شعر الماغوط طائر جميل مغرّد. شعر أنسي سِرْبٌ من الطيور الجميلة المغرّدة. شعر الماغوط «واحد». شعر أنسي «كثير»: أغنى، وأعمق، وأكثر تنوّعاًَ.
> نستطيع أن نتكلّم عن انقطاع في العلاقة بينك وبين محمد الماغوط، علماً أنك كنت أول من قدمه في مجلة «شعر»؟
- جميع الذين قدمتهم شعرياً، بدءاً من عملي في مجلة «شعر»، ووفرت لهم كثيراً من فُرص التفتّح والنموّ، انقلبوا ضدي. ولا ألوم، هنا، ولا أشكو وإنما ألاحظ.
> أهي مسألة إلغاء الأب؟
- بهذا المعنى «الإلغائي»، قلت مرة في إحدى القصائد: «أمحو، وأنتظر من يمحوني». لكنه «مَحوٌ» شعري. وهو «محو» مجازي لا حقيقي – أي حَيدانٌ، وابتعاد. لكن إلغاء الأب عندنا، اليوم، هو نوعٌ من «القتل». فهو إلغاءٌ قائمٌ على الجهل – كيف تُلغي من لم تعرفه ولم تقرأه؟ وهو إلغاء يتمّ غالباً بلغة الأب ذاته. من يقتل أباه، يجب أن يقتله بلغة يبتكرها، هو. وهو إلغاءٌ يتم غالباً دون أخلاقية فنية أو إنسانية، بأسلحة الكتاب، والافتراء والانتفاخ، والاتهام بأشياء مُختلَقة، والجهل بأبسط قواعد الشعر.
> ما سبب عداء رياض الريّس لك، وحملاته ضدك، علماً انه كان من جماعة «شعر»؟
- لا أعرف. ولا أقدر أن أقول إنني أعرف رياض الريّس، حقاً. فقد التقيتُه مرتين أو ثلاثاً، على مدى نصف قرن، وفي مناسبات عامة. كانت المرة الأولى في مكتب مجلة «شعر»، برغبة خاصة من يوسف الخال. رجاني أن أجتمع به، وأقرأ معه قصائد قدّمها للنشر في المجلة، قائلاً: نحن صديقان، وأخاف أن تؤثّر عليّ صداقتنا في مسألة النشر. اقرأ القصائد وقل لي رأيك. قرأتها. كانت ساذجة. لغتها العربية ضعيفة جداً. ولغتها الشعرية أكثر ضعفاً. أعطيت السيد رياض، وكان لا يزال طالباً يتابع دراسته في بريطانيا، أمثلة على هذا الضعف، وناقشته فيه. وقلت له ما خلاصته أن من الأفضل له، هو شخصياً، ألا ينشر هذه القصائد، وألاّ يبدأ النشر إلا عندما يكتب نصوصاً شعرية قوية ومتميزة. وتابعت: هذا رأيي. في كل حال، أبحث الأمر مع يوسف الخال.
أحسستُ أنه لم يكن مرتاحاً الى ما نصحته به. ولا أعرف إن كان بحث الأمر مع يوسف. أعرف أن يوسف أخذ برأيي ولم ينشرها. غير أن المفاجأة المضحكة هي أنني، بعد فترة قصيرة، رأيت هذه القصائد بين مجموعة أخرى شبيهة في كتاب مستقل نشرته له إحدى دور النشر اللبنانية، وقدّم له جبرا إبراهيم جبرا، صديقه، بمقالة عنوانها: «زحزحة الباب العملاق». قلت ليوسف، ضاحكاً: ما هذا؟ كيف يمكن أن يحدث ذلك؟ لم يجب، وهزّ رأسه، صامتاً. واكتفيت بأن أردد في نفسي، صامتاً: «أيتها الصداقة، كم من الجرائم ترتكب باسمكِ، خصوصاً في الشعر».
منذ ذلك الوقت، بدأ السيد رياض يهاجمني، ولا يزال يتابع هذا الهجوم في كل مناسبة. طبعاً، لا أرد، ولا أعير ما يقوله أي اهتمام، وإن كان يضحكني أحياناً أولئك الذين يدعونه لكي يتحدث عن الشعر.
> أعود الى محمد الماغوط. متى بدأت العلاقة بينك وبينه تسوء، حتى أنه استمر في مهاجمتك، دون توقف؟
- تعرف طبعاً أنني كعادتي مع آخرين كثيرين، لم أرد عليه، ولم أقل عنه اي كلمة مسيئة. كانت بيننا مسألة تتعلق بزوجته الشاعرة الآسرة، سنيّة صالح، أخت خالدة. ساءت العلاقة معه، منذ أن أخذ يعاملها بطريقة وحشية كانت تصل أحياناً الى ضَرْبها. مع ذلك زرته عندما كان مريضاً، في أواخر حياته، في بيته في دمشق، وبدا لي ودوداً، ونادماً، خصوصاً في ما يتعلق بتهجماته عليّ.
> الآن، كيف تقرأ محمد الماغوط؟
- لا أحس باي حاجة ملحّة لقراءته. مع أنه، كما أظن، يستهوي كثيراً من الشبان. وفي الواقع، استطراداً، أنني لا أحس بمثل هذه الحاجة لقراءة أي شاعر من شعراء جيلي. خصوصاً ذلك الذي كان يملأ دنيا التقدم واليسار والشيوعية، عبدالوهاب البياتي.
> هاجمك البياتي بعنف؟
- لا علاقة لهجومه بما أقول. أقول ذلك، موضوعياً.
> هل تعتقد أن البياتي انتهى كما يقول بعضهم؟
- يصعب عليّ إصدار أحكام من هذا النوع، لذلك، لا أقول: انتهى. أقول إن شعره ضَحلٌ، وليست له اي أهمية فنية – جمالية، بالمعنى الحَصْري للعبارة.
> على عكس السياب؟ السياب تحبّه؟
- كتب السياب عشر قصائد، على الأقل، هي بين أجمل القصائد العربية التي كتبت، منذ خمسينات القرن الماضي حتى اليوم. هذا يكفي لكي يبقى. وهذا يكفي لكي أحبه.
> هل كانت بينك وبين بدر صداقة شخصية؟
- نعم. وبيننا رسائل متبادلة. وأنا، شخصياً، اخترت قصائد ديوان «أنشودة المطر» من بين القصائد الكثيرة التي وضعها بين يديّ، وفوّضني بالاختيار.
> أين تكمن حداثة السيّاب برأيك؟
- في مُقارَبته للأشياء، وفي طريقة تعبيره عنها. وفي لغته الشعرية، بخاصة: كأنه داخل اللغة الشعرية العربية الكلاسيكية وخارجها في مع نازك الملائكة وزوجته خالدة آن: فلحظة يبدو لبعضهم «قديماً»، يبدو، في العمق» «حديثاً» بكامل المعنى. كأنه من التراث كالموجة العالية من البحر: لا هي هو، ولا هي غيره.
وتلك هي «المعادلة» العالية التي نعرفها عند شعراء الحداثة الغربية الكبار.
> أعود الى مجلة «شعر». لم تكن على صداقة مع شوقي أبي شقرا؟
- ... ولكن، لم أكن على عداوة. شعرياً، لم أنجذب كثيراً الى لغته الشعرية. كانت، بالنسبة إليّ، نوعاً من اللعب، سهلاً ومجانياً وفيه شيءٌ من الاصطناع.
> لم يَعْنِ لك شيئاً شعره؟
- احترمته، وأفسحتُ له المكان في مجلة «شعر»، قبل أن ينتمي الى هيئة تحريرها، بوصفه جزءاً من حركة الحداثة الشعرية في لبنان. غير أنني لم أتذوّقه. كنت أراه شبيهاً بعَزفٍ على وترٍ واحد. قد يريحك، للوهلة الأولى، لأنه يخرجك من الفصاحة البيانية في الشعر اللبناني. لكن سُرعان ما يخبو «عِطره» ويتلاشى.
> الفانتازيا لم تحبّها؟
- لا أحب الفانتازيا التي لا تصدر عن عمقٍ في الحس وفي النظر. والتي تفتقر الى جمالية الرؤية والتعبير.
> هو يقول إنه كان يصحح بعض قصائد الشعراء؟
- ربما. لكن، بعد أن تركتُ المجلة.
> فؤاد رفقة، كيف تنظر إليه بشعره المتواضع، علماً أنه آتٍ من الثقافة الألمانية؟
- تصف شعره بأنه متواضع. وهذا صحيح، لأنه امتدادٌ لشخصه المتواضع. فؤاد رفقة يوحّد، أكثر من أي شاعر آخر في جيله، بين ما يحيا عملياً، ويرى ويفكّر نظرياً، وبين ما يكتب شعرياً.
> نازك الملائكة، ألا ترى أن جزءاً من أسطورتها كان واهياً؟
- تكتسب نازك أهميتها الشعرية من كونها أولاً شاعرة في مجتمع يتردد كثيراً في الاعتراف باستقلالية المرأة، وحريتها.
وتكتسب، ثانياً، أهميتها من كونها امرأة مثقفة. أعطت للرومنطيقية بعداً غنائياً أنثوياً كان جديداً في وقتها. كانت تتويجاً للغنائية آنذاك، والتي كان يمثلها أفضل تمثيل الشاعر المصري محمود حسن إسماعيل.
> كيف تنظر إليها كناقدة ومنظّرة للشعر؟ هل قرأت كتابها «قضايا الشعر»؟
- طبعاً قرأته. كان عندها في هذا الكتاب زادٌ معرفي، وآراء ثاقبةٌ في كثيرٍ من القضايا التي طرحتها.
> نشرتم لشاعر من الشعراء المهمّين هو سعدي يوسف. كيف تنظر إليه، وإلى تجربته؟
- منذ البداية، قدّرت هذا الشاعر. افتتحنا بقصيدة له العدد الأول من مجلة «شعر»، وازددت، مع الوقت، تقديراً له ولتجربته. واستحسنت كثيراً تأثره، في ما بعد، بالشاعر اليوناني ريتسوس، الذي عرفته شخصياً في بيته، في أثينا، واهتمامه بتفاصيل الحياة اليومية. وهو اتجاهٌ بارزٌ، اليوم، في الكتابة الشعرية العربية، يعيد الصلة بكثير من الشعراء العرب القدامى الذين اهتموا في شعرهم بهذه التفاصيل، بدءاً من الشاعر الكبير ابن الرومي، مروراً بالصنوبري، والشعراء الآخرين الذين سُمّوا بشعراء «يتيمة الدهر» للثعالبي.
> لماذا حدثت قطيعة بينكما؟
- من جهتي، لم أفعل شيئاً يُوجب اي قطيعة. وإذاً، عليك أن تسأله هو، إن كنت مهتماً بهذا الأمر.
ولئن كانت هناك قضايا شخصية، فأنا لا أحب الخوض فيها.
> كيف ينظر إليك هو كشاعر؟
- مسألة لا تهمّني أبداً. لا سلباً، ولا إيجاباً. ولم أسأل مرة نفسي هذا السؤال.
> لم يكتب عنك كشاعر؟
- له آراء حولي كان يفصح عنها في أحاديثه الصحافية، وبين أصدقائه.
> نشرتم أيضاً لسركون بولص، كيف ترى سركون؟
- سركون شاعر متميّز.
> هل كنت على علاقة طيبة معه؟
- نعم. وكنت أستضيفه أحياناً في بيتي. غير أن علاقتنا تعكّرت فترة، ثم عادت الى طبيعتها.
بدأ سركون الكتابة، وزناً. غير أنه لم يكن يتقنه تماماً. وكنت أدفعه، بسبب من ذلك، الى التخلّي عن الوزن، والكتابة نثراً.
> كيف ترى الى تجربته الشعرية؟
- تمثّل نبرة متفردة وعميقة في الشعر العربي الحديث. وللمناسبة، أجرى معي حديثاً طويلاً لا يزال مخطوطاً. ولا أزال أتردد في نشره.
> وزميله فاضل العزاوي، مثلاً، هل قرأته؟
- أميل الى الظن أنه أقوى روائياً منه شعرياً.
> سنية صالح، كيف تجدها كشاعرة؟ هل ترى أنها أهم من محمد الماغوط وكما يقال أحياناً؟
- أتردد في المفاضلة بين الشعراء. سنيّة شاعرة مهمة جداً، لم تُكتَشَف بعد كما ينبغي. في شعرها فرادة تراجيدية، ذات قرار أنثوي، جديدة كلياً في الحداثة الشعرية العربية. ولو سألتني، في أفق المفاضلة، من تختار أن تقرأ الآن، إذا خُيّرت بين الماغوط أو سنيّة؟ لأجبتك: سنيّة.
> أذكر مرة أنك سئلت في الثمانينات عن الشعراء الشباب أو الجدد، وقلت عنهم إنهم غابة أصداء، وقامت القيامة. لعلك تذكر ذلك. لكن سئلت مرة أخرى، قبل فترة عن أهم الأصوات الشابة المؤثرة، فسميت ثلاثة: عباس بيضون وقاسم حداد وعبدالمنعم رمضان.
- سمّيت هؤلاء، انطلاقاً من وجهة نظر شخصية معينة في الثقافة العربية، وفي الشعر العربي بخاصة. وهي تنهض على فكرتين: خلخلة المستقر، والتأسيس لأفقٍ كتابي شعري مختلف. وأرى أن ذلك موجودٌ في كتاباتهم. شاعر كعبدالمنعم رمضان، يُفلِت تماماً من الأُطر المستقرة في الشعرية التي أرساها شعراء مصر، بدءاً من شوقي. وهذا مهمٌ جداً. والقول نفسه يصح في عباس بيضون، وقاسم حداد.
> هل يمكن اختصار المشهد الشعري العربي الراهن بهؤلاء الشعراء الثلاثة؟
- كلا، طبعاً. سمّيت لكي أعطي مثالاً، لا لكي أختصر. وقصدت أن أسمّي هؤلاء لأن في شعرهم، كلٌّ بطريقته الخاصة، بعداً هُرْطُقياً، على الصعيدين الفكري والفني. إن شعراً يكتب، اليوم، باللغة العربية، لا هرطقة فيه، متصالحٌ مع الأشياء، إنما هو شعرٌ يكتب خارج التاريخ. وأعني بالبعد الهرطوقي إعادة النظر المستمرة، جذرياً، في الحياة والأفكار والأشياء. فيما تتم خلخلة الراهن، المستقر، السائد.
أعرف أن هناك شعراء يمكن الاستشهاد بهم، في الأجيال اللاحقة، وبخاصة جيلك أنت، شعراء ذوي حضور مضيء، على مستويات أخرى. لكن، لا يمكن الكلام على جميع الشعراء فرداً، فرداً.
> كيف تنظر الى حركة الشعراء الشباب الداعين الى التحرر من وطأة اللغة والفصاحة و «الذكورة» اللغوية والى الميل الى بلاغة «الركاكة»؟
- لمثل هذه الدعوة جذورٌ في التاريخ العربي. وليس على هؤلاء إلا قراءة شعراء مثل ابن سُكّرة وابن الحجاج، وبقية الشعراء من إخوانهم، شعراء الحياة اليومية بمباذلها، ومكبوتاتها وممنوعاتها ومحرّماتها كلها. ولا أعترض، مبدئياً، على هذه الدعوة. الحرية، مرة ثانية، يجب أن تكون حرة.
غير أن النتاج الذي يصدر عن هذه الدعوة يجعل منها، استناداً الى ما قرأته، دعوة سياسية – ثقافية، أكثر منها دعوة شعرية. الشعر هو أولاً شعر، ويجب أن يُقوّم بوصفه شعراً، لا بوصفه «دعوة» – أياً كانت، سياسية، أو وطنية، أو أيديولوجية. المهم في اي «دعوة» شعرية هو شعريتها، لا «سياستُها»، ولا «اتجاهها»، ولا «قضيتها».
الشعر أوّلاً، لا «الدعوة».
> طالما تحدثنا عن مصر، لماذا نلاحظ أن بينك وبين الحداثة المصرية حالاً من القطيعة؟ مثلاً، لم تكتب مرة عن أحمد عبدالمعطي حجازي، أو أمل دنقل، أو صلاح عبدالصبور. كيف تنظر الى هذه الحداثة المصرية؟
- لست ناقداً لكي أكتب عن الشعراء. أقوم بين وقت وآخر بتحية لشعراء أقدّرهم. وهذا ما فعلته، بالنسبة الى صلاح عبدالصبور، ويبدو أنك لم تقرأ ما كتبته عنه.
ثم، من أين أتيت بالقطيعة التي تشير إليها؟ معظم المبدعين المصريين في مختلف الميادين، فنوناً تشكيلية، وشعراً، وقصة، ورواية، ونقداً، تربطني بهم علاقات وصداقات متينة. وأظن أن ما قلته عن صلاح عبدالصبور أساسي، ولم يكشف عنه أحدٌ قبلي: كسر لغة شوقي، السيدة المهيمنة، على صعيد الذائقة، وعلى صعيد المؤسسة، معاً. وهذا مهم جداً، فكرياً ولغوياً وجمالياً. إضافة الى الأهمية الشعرية، بحصر الدلالة. فقد كان ذلك بداية النقلة من أفقٍ شعري، الى آخر مختلف كلياً.
> لكن، ألا تعتقد أنه كانت هناك مرحلة وسيطة بينه وبين شوقي؟
- حتى لو سلّمنا بوجود هذه المرحلة، فقد كان صلاح عبدالصبور الأكثر جذرية، خصوصاً على صعيد اللغة الشعرية.
> وأمل دنقل؟
- موهبة شعرية عالية. وأنا أقدّر هذه الموهبة كثيراً، دون أن يعني ذلك، أنني أُعجَبُ بمنجزها الشعري. فالرؤية التي تقود هذا المُنجز كانت غالباً وظيفية – سياسية. وهذا مما جعل شعره وصفاً للواقع يهجس بإصلاحه أو تغييره، أي جعل منه إعادة لإنتاج الواقع بعناصره ذاتها، لكن، مهذبة، مُنقحة.
أميل، شخصياً، الى الشعر الذي لا يعيد إنتاج الأشياء، وإنما يهدمها برؤية جديدة وشاملة، ويعيد تكوينها، مبتكراً عالماً آخر، بلغة أخرى، وفي أفقٍ آخر.
> عموماً، كيف تنظر الى الحداثة الشعرية في مصر؟ يحاول النقاد المصريون والشعراء أنفسهم في مصر أن يخلقوا حالة حداثية خاصة بهم، كيف تنظر الى هذه الحالة؟
- لا أرى مثل هذه الحالة. الحداثة في مصر جزءٌ عضوي من الحداثة في البلدان العربية كلها. ربما كان هناك تنويع، لكنه حتى الآن، ليس واضحاً، لي على الأقل.
في كل حال، ليست الحداثة، شعرياً أو فنياً أو فكرياً أو أدبياً، مصالحة أو توفيقاً. الحداثة انشقاق وقطيعة. لكنها، قبل ذلك، رؤية للمستقر الموروث، مغايرة، وجذرية، وشاملة للحياة والإنسان والعالم.
مجرّد الكتابة بالنثر، أو قصيدة النثر، في هذا الإطار، لا تعني في حد ذاتها شيئاً. ما يعني هو الآفاق التي تصدر عنها الكتابة، والآفاق التي تفتحها – فنياً وجمالياً وفكرياً.والحداثة العربية، على هذا المستوى، لا تزال في بداياتها. وما يلفت النظر في هذه الحداثة هو نسيان الجمالية ولغتها، أو هو إهمالها. قلّما نجد دراسة تُعنى بجمالية الكتابة العربية الحديثة أو بلغتها، تراكيب وصوراً وموسيقى. أدونيس ويوسف الخال في باريس الدراسات كلها تعنى بما هو ثانوي: الموضوعات والاتجاهات... الخ. فهذه لا تأخذ أهميتها إلا بكيفية التعبير عنها، أي بمستوى لغتها وجماليتها. وهذا ما نهمله جميعاً، تقريباً، شعراء ونقّاداً. أي أننا نهمل ما لا يقوم الشعر إلا به.
> كيف تقرأ أحمد عبدالمعطي حجازي؟
- أقرؤه في سياق الشعر المصري الغنائي الذي يمثله، على نحوٍ خاص، محمود حسن إسماعيل، وعلي محمود طه، وإبراهيم ناجي. فهو في شعره استمرارٌ لهؤلاء مع شيء من التنويع، شكلاً ومضموناً، يرتبط بالحدث السياسي – النضالي، وبالحدث الواقعي الاجتماعي. وسواءٌ قرأت شعره، من حيث بنية القصيدة، أو بنية اللغة الشعرية، أو من حيث الرؤية الفنية، بعامة، فإنني لا أجد فيه مُنعطفاً، على غرار ما أجد، مثلاً، في شعر صلاح عبدالصبور.
* غداً حلقة رابعة
عبده وازن
المصدر: الحياة
أدونيس: القومية العربية لم تجذبني وحافظ الأسد خلص البعث من طفولته(2)
أدونيس:تركت العائلةمراهقاً وانتمائي الى الحزب أخرجني من العشيرة(1)
إضافة تعليق جديد