أدونيس:تركت العائلةمراهقاً وانتمائي للحزب أخرجني من العشيرة(1)
قد لا يحتاج هذا الحوار مع الشاعر أدونيس الى مقدمة، فالشاعر يقدّم نفسه هنا، كما لم يفعل من قبل، في حواراته الكثيرة التي أجراها سابقاً. إنها المرة الأولى يفتح أدونيس دفاتره التي طالما أخفاها، متحدثاً عن أشخاص دخلوا حياته أو عبروها وكان لهم أثر فيه، إيجابي حيناً وسلبي حيناً آخر. وفرادة هذا الحوار في كونه ينطلق من كلام أدونيس على هؤلاء الأشخاص الذين نكتشف من خلالهم وجهاً آخر لهذا الشاعر الكبير، وزوايا لعلها تكشف للمرة الأولى. إنه أدونيس ولكن عبر الآخر، الذي هو الصديق أو الأب أو الخصم، وعبر علاقات تراوحت بين الصداقة والمحبة والجفاء والخصومة في أحيان، وعبر قضايا وشؤون كثيراً ما أثارت شغف قراء الشاعر وحفيظتهم.
أشخاص يتحدث عنهم أدونيس بحرية وجرأة، غير متهيب أي عاقبة أو رد فعل. إنها سيرته ومساره يستعيدهما عبر هؤلاء الأشخاص، القريبين والبعيدين على السواء، هؤلاء الأشخاص الذين صنعوا جغرافيته الحميمة وفضاءه الحيّ وأفقه الشعري والفكري.
الحوار مع أدونيس حوار فيه الكثير من المتعة. هذا الشاعر الكبير الذي خضعت له مَلَكة الكلمة يجيد فن الحوار، حتى وإن كان أحياناً في موقع المساءلة. يتحدث بعفوية وطلاقة تخفيان في صميمهما الكثير من البداهة والثقافة العالية والمعرفة والخبرة والمراس الصعب. فهذا الشاعر لم يبق ممكناً حصره داخل تخوم الشعر والقصيدة، فهو مفكر أيضاً، صديق الفلسفة، ومثقف ذو هموم متعددة، يسائل ويشك ويثور ويتمرّد... ولا يهادن. هذا الشاعر الذي يختصر عصراً بكامله، بأسئلته الشائكة وشواغله وأزماته وتحولاته، هو ظاهرة نادراً ما شهدت الثقافة العربية والأدب العربي ما يماثلها. ظاهرة يلتقي فيها الشعر والفكر والنقد والشك الذي هو اليقين بعينه.
هنا الحلقة الأولى من «الحوار» مع أدونيس.
> من الشخص الأول الذي ترك أثراً في حياتك؟
- والدي!
> كيف تتذكر والدك؟
- كان تأثيره يفعل بصمت، ودون وعيٍ منّي. وعي حقيقي. هكذا لم اكتشف هذا التأثير إلا بعد موته. ومات في الستينات من عمره، بشكل مفاجئ في عام 1951، في حادث سيارة احتراقاً مع جميع ركابها. هذا الموت أنشأ بيننا علاقة جديدة، قوامُها الذكرى. صرت أستعيد حياتي في ظله، قبل موته، في البيت، في القرية، في الحياة العامة. صرت أتذكر هذا كله، وأشعر فيما أتذكر أنه لم يكن أباً، بقدر ما كان صديقاً. ومن جديد، أخذت أتعرف إليه، بوساطة التذكّر، لا سيما كيف كان يعاملني وأنا طفل.
> الى أي طبقة كان ينتمي والدك؟
- الطبقة ما دون الوسطى، إن صح أن نستخدم هنا كلمة «طبقة». يمكن أن تنطبق عليه كلمة «فلاّح» أو «مزارع»، مع أنه كان لدينا عامل يُسمى في القرية «مرابع» – يأخذ ربع ما يجنيه من الأرض التي يحرثها ويزرعها ويحصدها، أو من الأشجار المثمرة التي يقطفها، وبخاصة الزيتون. ولم تكن لدينا أرض كثيرة تستحق أن يشرف عليها «مرابع». إنما كان لأبي وضع معنويّ كبير ومتميز، بسبب علمه وكرمه. فقد شُيّخ، مثلاً، مع أنه لا ينحدر من عائلة شيوخ. شيّخ تكريماً وتقديراً. هذا الوضع هو الذي استدعى أن ينوبَ عنه عاملٌ للعناية بما كان يملكه، على قِلّته.
أذكر أنه لم يكن يفرض عليّ شيئاً. كان يترك لي حرية التصرف إلا في ما يتعلّق بالحرص على التعلم. ولم تكن عندنا آنذاك مدرسة. كنت أذهب الى «الكُتّاب»، نهاراً، وفي المساء كان هو نفسه يعلّمني قراءة الشعر العربي، ويحاول أن يجعلني، في الوقت نفسه، أحفظ القرآن عن ظهر قلب.
> هل كنت ابنه شبه المدلل؟
- كنت ابنه البكر. غير أنه كان يهتم كثيراً بإخوتي: محمد، وحسن وحسين وليلى وفاطمة التي كانت طفلة عندما توفي. في هذا كله، أكتشف الآن مدى تفتّحه، وصداقته. وكيف كان يحرص على تربيتنا، منمّياً فينا روح الحرية والاستقلال.
كان يأخذني معه في بعض زياراته الى أصدقائه خارج قريتنا، في قرىً أخرى مجاورة أو بعيدة. ويقدّمني إليهم بشيء من الفخر والزهو.
غير أنه، كما أتذكر الآن، كان يشعر بالمرارة عند كان يرى بعض أصدقائه يرسلون أولادهم الى التعلّم في مدارس المدينة، بينما لا يقدر هو، لضعف إمكاناته المادية أن يرسلني الى المدينة للتعلم مثلهم. هكذا بقيت في القرية حتى الثانية عشرة من عمري، دون مدرسة. وحتى هذه السن لم أعرف سيارة، ولم أر الهاتف، أو الكهرباء... إلخ. ثم حدثت المفاجأة – الأعجوبة. ففي سنة 1943، أخذت سورية استقلالها عن فرنسا، وسمّيت الجمهورية السورية، وانتخبت رئيسها الأول: شكري القوتلي. وانتشر خبر قراره بزيارة المناطق السورية للتعرّف إليها، ومن ضمنها منطقة جبلة. ولا أعرف كيف خطرَ لي أن أكتب له قصيدة، وأن ألقيها أمامه، وكيف خُيّل إلي أنها ستعجبه، وأنه بناءً على ذلك، سيدعوني لرؤيته، وأنه سيسألني: ماذا أقدر أن أقدّم لك، وأنني سأجيبه: أريد أن أتعلّم، وأنه سيُلبي هذه الرغبة.
وفعلاً، تمّ هذا كله كما تخيلته، وحرفياً تقريباً. وكانت المدرسة الأولى التي دخلتها، المدرسة الفرنسية الأخيرة في سورية أو مدرسة اللائيك، للبعثة العلمانية الفرنسية في طرطوس. طبعاً، كانت هناك أهوالٌ دون إلقاء القصيدة أمام رئيس الجمهورية. يلقيها قروي طفلٌ في الثانية عشرة من عمره، فقيرٌ، وليس له أي سند. لكنها تفاصيل يطول الدخول فيها، ولذلك أرجئ الخوض فيها، وإن كانت ممتعة وعظيمة الدلالة.
> بعض التفاصيل...
- دخلت المدرسة سنة 1943 وأنا بالقمباز القروي. كان طُلابها جميعاً من أبناء الأثرياء في مدينة طرطوس، وفي ضواحيها، وفي مدينة صافيتا المجاورة، وما حولها. وبقيت بينهم، بالقمباز، حوالى ثلاثة أشهر، كأنني أعيش في حلم. ثم جاءتني بدلة على الطريقة الغربية، وكانت واسعة جداً. وأتصوّر الآن أنها كانت مضحكة. لكن. هذا تفصيل، كما أردت.
تفصيل آخر. بعد أن سمع الرئيس القصيدة أخذ شطراً من بيت فيها، وبنى عليه خطابه. الشطر هو: «فأنت لنا سيفٌ، ونحن لك الغِمْدُ». تفصيل ثالث. تجاذبَني منذ دخولي المدرسة اتجاهان: شيوعي، وسوري قومي. ترددت كثيراً بينهما. ثم، ذات صباح، رأينا على باب المدرسة بضعة طلاب قيل لنا إنهم طردوا منها. وعندما سألت عن السبب قيل لي: لأنهم تظاهروا ضد وجود حامية فرنسية في مدينة طرطوس، كانت قد استمرت بعد الجلاء. فقررنا مباشرة، بعض أصدقائي وأنا، أن ننتمي الى الحزب السوري القومي، تأييداً لهؤلاء الطلاب، وتعاطفاً معهم. هناك تفاصيل أخرى مؤلمة...
> أذكر منها واحداً على الأقل...
- هيّأ زعيم المنطقة آنذاك، أي زعيم العشيرة، استقبالاً كبيراً للرئيس على الطريق الرئيسة المؤدية الى مدينة جبلة، مركز المنطقة. وكنت في البداية أفكر بإلقاء القصيدة في أثناء هذا الاستقبال. لكن عندما رآني زعيم العشيرة، وعائلتي تنتمي إليها تقليدياً، أمرَ بطردي قائلاً: لا أريد أن أراه، هنا. والسبب هو أن أبي لم يحضر، فقد كان مناوئاً له، بينما حضرت العشيرة بكاملها الى جانب حلفائها.
> لكن، صورة الأب غير موجودة لديك، على المستوى الشخصي، وعلى المستوى الرمزي أو الشعري.
- ربما، على المستوى الشخصي، إلا في مقطوعتين صغيرتين كتبتهما تحية ورثاء. أما على المستوى الرمزي، فأعتقد أنه عميق الحضور في شعري، لكن على نحو معقّد أختصره في هذه الصيغة: ضد الأبوّة مع الأب.
> هل كانت ثورتك على الشعر القديم ثورة على الأب، كذلك؟
- على الأبوّة، بالأحرى. لا نثور على الأب شخصاً ووالداً، وإنما نثور على أُبوّته معرفة وسلطة.
> هناك شخص كان حاضراً في حياتك أكثر من والدك وهو شيخ من العشيرة نفسها كان مرجعاً ثقافياً لك.
- هو الشيخ أحمد محمد حيدر. وأنت هنا تبالغ كثيراً. لقد تحدثت عنه مرة واحدة، في ذكرى تأبينه، في قصيدة عمودية قرنتُ فيها بينه وبين أبي. كانا صديقين، وكانا معاً ضد زعيم العشيرة، الذي أشرت إليه. إضافة الى أنهما كانا بين المجددين في ميدان الدين. كانا معاً بين أهم رموز المعارضة للزعامة العشائرية، أو الطائفية آنذاك. وهي معارضة لاقى أبي، بسبب منها، صعوبات كثيرة في حياته وعمله.
> تحدثت عن والدك بشغف، كما لو أنه رأس البيت وظلّه وكل شيء فيه. كيف تنظر الى والدتك، خصوصاً أنها لا تزال على قيد الحياة. هل كان لها حضور في حياتك؟
- الأمّ في المجتمع العربي هي في مرتبة «الظل»، بالنسبة الى الأب الذي هو دائماً في مرتبة «الضوء».كانت أمي، بالنسبة إليّ، كمثل الطبيعة، أرتبط بها لا بالولادة وحدها، بل بالهواء والفضاء. هي نفسها طبيعة، خصوصاً أنها لا تقرأ ولا تكتب. مظهر ناطق من الطبيعة. شجرةٌ من نوع آخر. أو نبعٌ يتكلم.
كنت في الثالثة عشرة من عمري عندما تركت البيت وانفصلت عنها. لم أعد أراها إلا قليلاً في العُطَل المدرسية. حتى في طفولتي كان أبي هو الذي يدير شؤون «ثقافتي» أو «تربيتي العقلية»، وكانت أمي هي التي تدير شؤون الحياة اليومية. هي في حياتي، منذ البداية، جزءٌ من «الطبيعة»، لا من «الثقافة». تصبح جزءاً من «الثقافة» عندما تبلغ مرحلة الشيخوخة، وهذا ما أكتشفه اليوم. شيخوخة الأم في المجتمع العربي، القائم على ثقافة الأب، مشكلة ثقافية واجتماعية معاً. وعندما يحدث أن يموت الأب باكراً، وتبقى الأم بعده فتيّة، كما حدث لأمّي، فذلك يطرح مشكلات إضافية كثيرة ومعقدة. مثلاً، أين تسكن الأم؟ وحدَها، وكيف؟ في بيت أحد أبنائها المتزوّجين وله أولاد، وكيف؟ وقد لا تطيق زوجته أو قد لا تطيقها زوجته. وقد يكون لهما أولاد لا يفقهون معنى أن تعيش جدتهم معهم في بيت واحد، وينظرون إليها بوصفها «زائدة» أو في غير مكانها. والأمومة، في حالة الشيخوخة، تتغير هي نفسها. يزداد فيها حسّ التفرّد، وحس التملّك، وحس الحضور.
ثم، من جهتي، لا أستطيع أن أتصوّر ابناً يضع أمه في مأوى للعجزة. لكن، من ناحية ثانية، كيف يوفّر لها في بيته العناية اللازمة، الكاملة التي تفرضها الشيخوخة ومتطلباتها؟ ثم، كيف يمكن التوفيق، عبر الأمومة، بين الطبيعة التي هي، غالباً، «ثقافة» الأم، و «الثقافة» التي هي غالباً «طبيعة» أبنائها وأحفادها؟ هناك مشكلات أخرى نفسية، وحياتية عملية. وهي كلها مهمّشة أو مكبوتة. في كل حال، هناك قضية أساسية تتمثل في شيخوخة الأم وعجزها، يجب أن تطرح على مستوى المجتمع، وأن تطرح وتُواجَه وتُحلّ بوصفها قضية ثقافية – اجتماعية.
> أشعر أنك تتكلّم عن الأم كفكرة أكثر مما تتكلم عنها ككائن، وعن أثرها العاطفي والوجداني فيك كشخص. هل تركت أثراً؟ ألم تكتب قصيدة عن أمك؟
- الأم مبثوثة في الكتابة، بالنسبة إليّ، كمثل الهواء والشمس والماء. ذائبة في حياتي وفكري. ليست كائناً مفرداً، مستقلاً، منفصلاً، كأنّه شيء أو موضوعٌ خارجي. هكذا لم أكتب عنها بالاسم، وإنما أشرت إليها. لا أقدر أن أحوّلها الى موضوع «إنشاء» مدرسي، كالربيع والخريف، أو الوطن، أو غيرها. ولا أعرف كيف يمكن شاعراً أن يكتب عن الأم، بوصفها «موضوعاً» أو «شيئاً»، يُناجيه، ويصفه، ويمتدحه، أو يعدّد مآثره وعلاقاته بها.
> وما رأيك بما قاله محمود درويش على سبيل المثال، أخجل من دمع أمي، أو أحنّ الى خبز أمي؟ ألا يترك هذا أثراً وجدانياً فيك؟
- تقصد شعرياً؟ هذا البكاء الشعري، بالأحرى يضحكني.
> هل عنت لك الأم شيئاً كامرأة؟
- أيضاً هذه من المشكلات الثقافية – الاجتماعية: وضعُ امرأة يموت زوجها وهي في عزّ صباها كما يقال لا تتزوج، وتنذر حياتها لأبنائها وهي في أوج تألقها وجمالها. أمي للمناسبة، امرأة جميلة. وهذا لم يخطر لي حينما مات الأب. لكن بعد هذه المسافة الطويلة الآن أستعيده وأفكر فيه كجزء من طفولتي. وأنا لم أعرف الطفولة كما عرفها الأطفال غير الفقراء. منذ طفولتي في الخامسة أو السادسة من 200323b.jpg عمري كنت جزءاً من الحقل ومن الشجر والعمل مع الفلاحين. ما يسمى بفترة الطفولة هي بالنسبة إلي فترة اندماج في الحياة وفي العمل. ولذلك الآن كما أتذكر علاقتي بأمي، أتذكر طفولتي. أعتقد هذه أشياء ترتبط بحياة الريفيين البعيدين عن المدينة. المدينة ابتكار إنسانيٌّ عظيم، لكن نحن أبناء الريف لم نعرفه إلا متأخرين جداً. لذلك الأمور عندنا مختلفة. هناك فرق كبير بين حياة الريف وقيمه وحياة المدينة وقيمها. هناك فجوة يمكن أن تكون السبب في كون حياتي اليوم حتى سن العشرين نوعاً من التذكر، نوعاً من الاستعادة أكثر مما هي جزء مكوّن من حياتي أعيه وأستطيع أن أحلله أو أتأمل فيه.
> متى خرجت على ثقافة العائلة والبيئة والقرية؟
- بدأ هذا الخروج مع عملي في الحزب السوري القومي الاجتماعي. كان، وأعتقد أنه لا يزال حتى الآن، يمارس الحياة المدنية داخل صفوفه، وفي العلاقات ما بين أعضائه.
> من الشخص الأول الذي ربطك بالحزب؟
- لم أدخل الحزب بتبشير من شخص بعينه، وإنما دخلته، مصادفة، بفعل الحادثة التي أشرتُ إليها، وأعني طرد طُلاب ينتمون إليه، من المدرسة – اللاّئيك. غير أن المسؤول الذي تولى إدخالي رسمياً كان الأستاذ إلياس جرجي قنيزح.
> هل تعرّفت الى أنطون سعادة شخصياً؟
- قابلته مرتين. الأولى، عام 1947 كما أتذكر، في أثناء زيارته اللاذقية، أو 1948. كان ذلك في حفلة استقباله، وكنت في السابعة عشرة من عمري. ولعل قيادة الحزب هي التي شاءت أن أتعرّف إليه، لأنني كنت بدأت أبرز في الحركة الطلابية، لا شاعراً «قومياً»، فقط، بل ناشطاً فعّالاً، أيضاً، في صفوف الطلاب. رجل ساحر: هذا هو انطباعي عنه في هذه المرة.
المرة الثانية، كانت في مكتبه في بيروت، عام 1948. المناسبة هي أنني فزت بجائزة «العروة الوثقى» الأولى، في مسابقة شعرية تدور حول موضوع «اليتيم». كان حلماً، بالنسبة إليّ، أن آتيَ الى بيروت. أن ألقي قصيدتي في قاعة «الوست هول» في الجامعة الأميركية، كما أخبرني المشرفون على الجائزة. وقد نَظّم مسؤولو الحزب في اللاذقية أمرَ مجيئي الى بيروت، وكانوا مسرورين جداً. ونظّم لي مسؤولوه في بيروت أمر زيارة الزعيم، كما كنا نسمّيه، في مكتبه. هكذا، منذ وصولي الى بيروت، وقبل ذهابي الى الجامعة الأميركية، زرته، وبقيت معه فترة قصيرة، لم أعد أذكر شيئاً مما قاله لي. أذكر أنني أصغيت إليه، مأخوذاً به – بشخصه، وتواضعه، وبساطته، وحضوره المُدهش. ولم أكن قرأت من كتاباته إلا أشياء قليلة.
في الجامعة، أصرّ القوميون على أن ألقي القصيدة، واضعاً شعار الزوبعة. لكن، عندما رآه أعضاء الرابطة، غضبوا ورفضوا أن ألقيها وأنا أضعه. وعندئذٍ حدثت شبه معركة بينهم وبين القوميين تدخل فيها رئيس الجامعة وقتذاك، الدكتور قسطنطين زريق. وحلّت المسألة بانتصار القوميين، ويبدو أنهم كانوا يشكّلون الأكثرية الفاعلة بين طلاب الجامعة. كانت معركة شكلية، يمكن تفاديها. منذ ذلك الحين، أخذت أقرأ أنطون سعادة، خصوصاً كتاباته حول الأدب، مثلاً كتابه المهم: «الصراع الفكري في الأدب السوري»، وقد أثّر فيّ كثيراً. في كل ما يتصل بالعلاقة بين الشعر والأسطورة، وبينه وبين القارئ. وكانت له في هذا الصدد مقولة بالغة الأهمية، وهي أن الشعر يجب أن يكونَ منارة لا مِرآة.
جذبني في الحزب، في تلك الفترة، الجانب المسلكي، النظريّ والعمليّ. فقد كان أعضاؤه يعيشون في ما بينهم مبادئهم في العلمانية، واللاطائفية، وحرية التديّن أو اللاتديّن، واحترام المرأة والنظر إليها بوصفها، كالرجل، حقوقاً وحريات وواجبات. حتى أن بعض القوميين كانوا يتزوجون مدنياً، في ما بينهم، قبل أن يسجّلوا زواجهم، رسمياً أو شرعياً. وزواجنا، خالدة وأنا، تمّ أولاً في الحزب، ثم سجّلناه، طبقاً لأعراف الزواج الرسمية. وجذبتني أيضاً بعض الأفكار، كمثل موقف أنطون سعادة من العروبة، واللغة العربية. وكمثل رأيه في شخصية أو هوية المجتمع السوري، وفي النظر الى ثقافة الغرب أو الحضارة الغربية.
> هل توضح هنا ما تقصد إليه؟
- مثلاً، كان يقول، وهذا في صلب دستور الحزب، إن الأمة السورية أمة عربية، وإن الثقافة العربية جزءٌ أساسي ومكمّل للثقافات التي سبقتها في سورية: الكنعانية، الفينيقية، والبابلية – الأشورية، والسومرية... إلخ، وإن هذه الثقافات كلها تشكل وحدة لا تتجزأ. لكن، بما أن الثقافة العربية واللغة العربية آخر ما احتضنته سورية، فإن الثقافة السورية ثقافة عربية، ولغتها هي اللغة العربية. كان أنطون سعادة، للمناسبة، يعشق اللغة العربية. وقيل لي إنه كان يتحدث في البيت مع أطفاله باللغة الفصحى.
> هل لديك مثل آخر؟
- نعرف جميعاً أن هذه البلاد تتألّف بشرياً من أقوامٍ متعددين في أصولهم وثقافاتهم. ورداً على العِرْقية في النظر الى الشعب، كما كان يقول دعاة القومية العربية، الذين نظّروا لها كأنها نوعٌ من العنصرية، ابتكر مفهوماً جديداً هو «السلالة التاريخية»، قائلاً إن الشعب السوري مزيج مركّب فريد من السريان والآشوريين والأكراد والأرمن والعرب وغيرهم، وأنهم تمازجوا عبر التاريخ بحيث يشكلون سلالة تاريخية واحدة، في ما وراء الأعراق. وهكذا يكون العرب جزءاً لا كُلاً. ويزول كذلك مفهوم الأقليات. ومن أجل ذلك قال بانتساب الشعب الى الأرض التي يعيش عليها، لا إلى اللغة، ولا إلى الدين، ولا إلى العِرْق. فالناس الذين يسكنون في سورية هم شعبٌ سوري، لا فرق بين فرد أو آخر، وبين أصل عِرقيّ أو آخر. الوطن واحد، والشعب واحد. والمواطنية هي الأصل. لا الانتماء المذهبيّ أو العِرقي أو اللغوي. والمخجل أن بعض كتّاب اليسار لا يزالون يتّهمونه بالنازية.
> كيف عشت لحظة إعدامه الأليمة؟
- أعدم بطريقة لا يقرّها إنسانٌ عاقل، أو يحمل ذرة من احترام نفسه، واحترام الإنسان وحقوقه. وكان إعدامه جريمة مريعة. جريمة بشعة. وسوف تبقى عاراً كبيراً في تاريخ لبنان، السياسي والحقوقي.ولا أزال أتساءل باستغراب كبير، كيف أن الكتّاب والمفكرين اللبنانيين والعرب، لم يقولوا كلمة واحدة ضد هذا الإعدام. باستثناء كمال جنبلاط.
> الشائع أنه هو الذي اختار لك اسم أدونيس...
- هذا خطأ. فأنا نفسي اخترت هذا الاسم. ولهذا الاختيار قصة رويتُها كثيراً، ولا أريد أن أكررها.
> كيف كانت علاقتك ببعض القوميين الكبار من أمثال فؤاد سليمان وغسان تويني؟
- كان لهما احترامٌ كبير عندي. لم أكن اجتمع بهما، غير أنني تتلمذت عليهما في أشياء كثيرة. أذكر انني زرت فؤاد سليمان في مستشفى الجامعة الأميركية، في أواخر حياته. شعرت أنه فرح جداً بهذه الزيارة التي كانت الأخيرة. أما غسان تويني فقد توثقت علاقتي به، بعد أن تخلّى كلانا عن العمل الحزبي. عرفت كذلك سعيد تقي الدين، وكان إنساناً فريداً. ساعدني كثيراً في حياتي الأدبية، وهو الذي كتب مقدمة لقصيدة «قالت الأرض».
> مَن مِنَ القوميين أيضاً كان لهم حضورٌ في حياتك؟
- هشام شرابي. يوسف الخال، وكان قد ترك الحزب عندما التقيته في بيروت، في تشرين الأول (أكتوبر) 1956. محمد يوسف حمود، وكان شاعراً شديدَ الالتزام بالحزب. وكان هناك شعراء انفصلوا عن الحزب، قبل أن أعرفه، غير أنني قرأتهم وأَفَدْتُ منهم كثيراً، مثل سعيد عقل وصلاح لبكي.
> هل كان لديك موقف نقدي معيّن من أنطون سعادة؟ هل حاولت أن تعيد قراءته، على ضوء العلوم الجديدة، والمعطيات السوسيولوجية الجديدة؟
- أبداً. الحقيقة أنني لم أنتقده، وإنما حاولت فهمه وتأويله، بطريقة خاصة، ومختلفة. مثلاً، في ما يتعلق بآرائه في الأدب، وفي الدين، وفي الاقتصاد، وفي السياسة. لكن تأويلي هذا لم يكن يلاقي، غالباً، التأييد أو التحبيذ.
مرة، مثلاً، كتبتُ افتتاحية في جريدة «البناء»، في أواخر الخمسينات، بعنوان: «يسارية الحزب القومي الاجتماعي»، فأحدثت ضجة، وغضب عليّ بعض قادة الحزب، مثل أسد الأشقر، وإنعام رعد. والغريبُ أنهما، بعد فترة، أخذ كلاهما يتحدث عن يسارية الحزب، ويبشّر بها، ويدافع عنها. مقابل ذلك، كنت أنتقد كثيراً، وباستمرار، الممارسة الحزبية القيادية، وبخاصة، على الصعيدين السياسي والثقافي. وهو انتقادٌ أدّى في الأخير الى أن أنفصل نهائياً عن العمل الحزبي، وعن الحزب. وصرت أنظر الى أنطون سعادة، بوصفه مفكراً، وفي استقلال كامل عن الحزب الذي أنشأه وكنت عضواً فيه.
> هل شعرت بأنك أصبحت أكبر من أن تكون حزبياً؟
- لم أطرح بهذه الطريقة مسألة علاقتي بالحزب، خصوصاً أنني كنت، طوال بقائي في الحزب، حراً في فكري وعملي.
> لم تشعر يوماً أنك تنتمي الى فكر أنطون سعادة؟
- لا يمكن أي عاقل يعمل لبناء مجتمع جديد، إلا أن يتبنى كثيراً من أفكار أنطون سعادة، في فصل الدين عن الدولة، والعلمانية، ووحدة المجتمع في سلالة تاريخية، وفي العلاقة بالآخر، وفي كثيرٍ من قضايا الأدب، والثقافة بعامة. أقول: يتبناها، لكن طبعاً، منظوراً إليها دائماً في أفق التغيّر والصيرورة. هكذا لا أزال، شخصياً، أَسْتضيء بكثير من آرائه.
> هشام شرابي، كيف تنظر إليه؟
- أكاديمي من طراز أوّل. كان، بوصفه كذلك، رجل بحث واستقصاء، تركيب وتأليف. أضاف كثيراً الى النظرة النقدية عند العرب، في الثقافة والاجتماع. أطروحته عن البطركية، أو الأبوية، في المجتمع العربي بالغة الأهمية. وما كتبه عن فلسطين، عميقٌ وآسرٌ.
> كيف كانت علاقتك بخليل حاوي؟
- معقدة ومرتبكة. لكن، لم أقل عنه كلمة واحدة سيئة، خلافاً لما كان يقوله عنّي بين أصدقائه وتلامذته.
> هل أثرت السياسة في هذه العلاقة، فهو كان قومياً عربياً على ما بدا؟
- على العكس، كان سورياً قومياً. وكان عضواً بارزاً في الحزب. المسألة بيننا كانت شعرية. كنتُ، لسبب أو آخر، أكثر حظوة منه في صفوف الحزب، على الصعيد الشعري. ولهذا كان يغار مني كثيراً. ولم تنشأ بيننا علاقة صداقة.
> متى انقطعت علاقتكما؟
- لم تكن هذه العلاقة، منذ البداية، أكثر من علاقة تعارف. وأكرر أنني من جهتي، لم أقم بأي عمل يمكن أن يسيء إليه، شخصاً أو شعراً. كنت حريصاً جداً على احترام مكانه ومكانته.
> كيف تستعيد صورة خليل حاوي الآن، بعد هذا الزمن، وهل تقرأه؟
- لا أقرأه. كما انني لا أقرأ الشعراء الذين جايلتهم. غير انني أرى في شعره أمرين مهمين: الأول، هو أنه كسر اللغة الشعرية المتأنقة الزخرفية القائمة بذاتها والتي تتمثل، أساسياً، في شعر سعيد عقل. وهو في ذلك يتابع شعر الياس أبي شبكة. الثاني، هو أن الشعر عنده قائمٌ جوهرياً على رؤية للإنسان والعالم، لا انفصال فيها بين الشعر والفكر. هكذا أحترم تجربة خليل حاوي، وإن كنت لا أتذوق شعريتها، جمالياً.
> لكنّه تحوّل الى القومية العربية؟
- لا أظن. لا أرى في كتاباته انعطافاً نوعياً يفصله عن رؤية أنطون سعادة الثقافية. وهذا لا يعني أنه لم يتعاطَف سياسياً مع القضايا العربية.
> هل هذا ينطبق عليك؟ أصلاً، أنت كنت خارجاً من الأساس لأنك اشتغلت كثيراً على التراث العربي.
- قد نكون متفقين في ما يتعلق بالأمرين اللذين أشرتُ إليهما، على المستوى النظري. غير أن الشعر، كما تعرف، يفلت أخيراً حتى من النظرية التي يُكتَب باسمها، أو يصدر عنها. والأساس إذاً في نقد الشعر أو تذوّقه لا يُلتمس في اتجاه الشاعر أو في النظرية التي يقول بها، وإنما يُلتمَسُ في نسيج الشعر ذاته، في طريقة تعبيره، وفي بنيته اللغوية – الجمالية. وفي هذا نحن مختلفان.
> ماذا باتت تعني لك القومية، السورية أو العربية أو غيرهما في زمن العولمة؟ لقد فقدت القومية في العصر الراهن مسوّغاتها، حتى بات الانتماء القومي أشبه بالتهمة؟
- لا أظن أن الانتماء القومي انتهى، أو سينتهي. ربما يحصل ذلك عند أفراد. لكن، أستبعد ذلك والده الذي رحل عام 1951 عند الشعوب. في ما يتعلق بي صرت بعيداً جداً عن النظر الى القومية نظرة أيديولوجية سياسية. لكن الانتماء الى لغة وشعب وثقافة شيء آخر، وهو أمرٌ مفروض بحكم الطبيعة والواقع.
> هل يمكن القول إن أنطون سعادة صار من التراث؟
- هو من التراث، بالمعنى الإيجابي العميق. وهو لذلك، لا يزال حاضراً، وحيّاً. لكن، بوصفه مفكّراً ورائياً، لا بوصفه مؤسسة حزبية.
> الى أي من شعراء الحزب السوري القومي، كنت تميل؟
- نشأ في الحزب شعراء كثيرون. بعضهم لم أعرفهم إلا بشعرهم. أشرت الى بعضهم ممن سبقوني، وتعلّمت منهم كثيراً. وبعضهم من جيلي. وبعضهم من جيل لاحق. أحببت شعر محمد الماغوط، وسنية صالح، وكمال خير بك، وأورخان ميسّر، تمثيلاً لا حصراً.
عبده وازن
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد