" جان جينيه":اللص الذي أتقن اللعب بالكلمات والأفكار
لكم تمنيت أن التقي بجان جينيه في طنجة التي عشقتها منذ أول زيارة لي لها مطلع الثمانينات من القرن الماضي. وكان صديقي الراحل العزيز محمد شكري يعلّق العديد من صوره في شقته المتواضعة بشارع البحتري "شارع تولستوي سابقا".
وفي جلساتنا كان يكثر من الحديث عنه راويا طرائفه التي كنا نضحك لها عاليا. غير أن القدر كان لي بالمرصاد. ففي عام 1986، كنت أقيم في ميونيخ. وذات صباح من الصباحات الرمادية الكئيبة.
كنت قد استيقظت للتو من النوم، وإذا بالراديو يعلن أن الكاتب الفرنسي الكبير جان جينيه الذي شغل الناس على مدى سنوات طويلة رحل إلى العالم الآخر في فندق متواضع بقلب باريس في الليلة الفاصلة بين 14 و15 ابريل/نيسان من العام المذكور.
وهكذا مضى صاحب "مذكرات لص" من دون أن استمتع بلقاء معه في طنجة التي عشقها بجنون حتى الأيام الأخيرة من حياته.
منذ البداية وحتى النهاية، كانت حياة جان جينيه سلسلة من المغامرات المثيرة، ومن المصاعب والمتاعب المضنية. فقد ولد يوم الاثنين 19 ديسمبر/كانون الأول 1910 في أحد مستشفيات باريس. وبعد ولادته بسبعة أشهر، وتحديدا يوم 28 يويليو/تموز 1911.
أودعته أمه التي كانت قد أعلنت أنها عزباء، وأنها تدعى "كامي جينيه" ملجأ للأطفال واختفت من دون أن تخلّف أي أثر. وعندما توفيت عام 1919 اكتشف أنها أنجبت طفلا آخر من أب مجهول تماما مثلما كان الحال بالنسبة لطفلها الأول.
وكان جان جينيه لا يزال في طور الرضاعة لما احتضنته عائلة صغيرة كانت تعيش في احدى القرى. وكان رب العائلة ويدعى "شارل رينييه" نجارا. أما زوجته "اوجيني" فكانت تدير محلا لبيع التبغ.
وعندما بلغ سن الثالثة عشرة، عُمِّدَ جان جينيه في كنيسة القرية على أمل أن يكون كاثوليكيا مثاليا.
وفي المدرسة التي دخلها عام 1916 أظهر الطفل الذي حرم منذ أن فتح عينيه على العالم، من حنان الوالدين، نبوغا في الدراسة لفت إليه نظر معلميه. والبعض من زملائه في الدراسة، سوف يتحوّلون في ما بعد إلى أبطال في رواياته.
وثمة حادث عاشه آنذاك سوف يرسخ في الذاكرة لأمد طويل. وهو يرويه على النحو التالي: "لقد أدركت وأنا طفل صغير انني لست فرنسيا، وانني لا أنتمي إلى القرية. وقد أدركت ذلك بطريقة ساذجة وغبية.
فقد طلب منا المعلم أن يكتب كل واحد منا موضوعا انشائيا يصف فيه بيته. وحدث أن كان موضوعي هو الأفضل والأجمل بين كل المواضيع التي كتبت عن الموضوع المذكور. وقد قرأه المعلم بصوت عال وجميع التلاميذ سخروا مني قائلين: "لكن هذا البيت الذي يصفه ليس بيته. انه طفل لقيط". وعندئذ حدث فراغ رهيب لدى الطفل الموهوب. وفي تلك اللحظة بالذات كره فرنسا، وفي ما بعد سوف يقول إنه تقيأها!
وكان جان جينيه قد بلغ سن العاشرة لما شرع يسرق كل ما تقع عليه يداه من أقلام ومن محابر ومن قطع نقدية صغيرة كانت العائلة التي احتضنته تضعها على الطاولة عند مدخل البيت.
وبتلك القطع النقدية كان يشتري حلويات يوزعها على زملائه في المدرسة. وفي ما بعد كتب يقول: "في سن العاشرة كنت أسرق من دون تبكيت ضمير أناسا كنت أحبهم، وكنت أعلم أنهم فقراء. وقد انتبه الناس إلى ذلك. وأنا أعتقد أن كلمة "لص" جرحتني وأوجعتني كثيرا".
وبعد أن حصل جان جينيه على الشهادة الابتدائية عام 1923 بتفوق، انقطع نهائيا عن الدراسة، ليبدأ مرحلة جديدة في حياته الشقية.
أمام مصاعب الحياة، كان على جان جينيه أن يمارس مهنا مختلفة غير أنه كان سرعان ما يفرّ منها هاربا، معلنا لأصدقائه أنه يودّ السفر بعيدا للعيش في مصر أو في امريكا. وكان سلوكه يثير حفيظة الكثيرين.
أما هو فلم يكن يعبأ بذلك. وكان يجد متعة كبيرة في قراءة الروايات البوليسية أو تلك التي تتحدث عن مغامرات عجيبة في أعماق البحار والمحيطات، أو في الأصقاع المكسوة بالثلوج، أو في صحاري الشرق حيث يكتوي الناس بلهب الشمس. ومرات عديدة، عثرت الشرطة على الفتى الطائش في المحطات،
وفي القطارات، وهو لا يدري ماذا يفعل هناك وإلى أين هو ذاهب. وفي عام 1925 أقام عند موسيقي أعمى وبمساعدته تعلم فن العروض. غير أن اقامته لم تدم طويلا بسبب سرقته لمبلغ مالي أهدره في حفل سوقي.
بعدها وبسبب السرقات التي كان يقبل على ارتكابها دخل السجن أكثر من مرة. وفي السجن المخصص للفتيان الذين دون الثامنة عشرة أمضى عامين. وهناك عاش تجارب مهمة سوف تصبح في ما بعد مادة لكتاباته الروائية والشعرية.
في نهاية العشرينات من القرن الماضي، جنّد جان جينيه، وأرسل مطلع عام 1930 إلى بيروت ومن هناك إلى دمشق التي مكث فيها عاما وشهرا.
وقد يعود تعلقه بالعالم العربي، وبثقافته، وحبه لأهله، وانتصاره لقضاياهم السياسية بالخصوص إلى تلك الفترة التي أمضاها في بلاد الشام، والتي كانت من أسعد الفترات التي عاشها منذ ولادته وحتى ذلك الوقت.
وعندما عاد إلى فرنسا عام 1933، التقى جان جينيه بالكاتب الكبير اندريه جيد الذي كان قد فتن بمؤلفاته في سن مبكرة. ولكنه لم يمكث غير بضعة أشهر في باريس. فقد قرر أن يسافر راجلا هذه المرة إلى ليبيا.
غير أن مشروع رحلته مني بفشل ذريع. فعند وصوله إلى اسبانيا عرف الجوع، وأمضى أياما عصيبة أجبر خلالها على النوم في العراء. وكان عليه عندئذ أن يعود إلى الحياة العسكرية ليجد فيها ما يمكن أن يبعد عنه شبح الجوع والتشرد.
وفي هذه الفترة، انكبّ على قراءة كبار الكتاب الفرنسيين والعالميين. وكان دستويفسكي الأقرب إلى نفسه. وقد وجد في رائعته "الإخوة كارامازوف" ما عمّق مفهومه للحياة والانسان والوجود.
واثر فراره من الجندية، وكان ذلك عام 1936، قرر جان جينيه أن يسافر راجلا عبر اوروبا متحاشيا نقاط التفتيش والجمارك. وقد استمرت رحلته العجيبة هذه سنة كاملة. وخلالها قطع مسافة تقدر بـ8500 كيلومتر.
وكانت مدينة نيس الفرنسية نقطة انطلاقه. بعد أن اجتاز ايطاليا، قطع البحر الأدرياتيكي إلى البانيا، غير أن شرطة الحدود قادته إلى اليونان. ومن هناك، سافر إلى يوغسلافيا حيث أوقفته الشرطة في العاصمة بلغراد لتودعه السجن لمدة شهر. بعدها قادته إلى الحدود الإيطالية.
وظل جان جينيه ينتقل من بلد إلى بلد، ومن مدينة إلى مدينة إلى أن حط رحاله في براغ حيث أمضى خمسة أشهر، أعطى خلالها دروسا في اللغة الفرنسية لسيدة جميلة تدعى "آن بلوخ". وكانت تلك السيدة الحب الأنثوي الوحيد في حياته. غير أنه كان "حبا أبيض" كما كان يقول.
وفي بولونيا التي وصلها في ربيع 1937، اعتقل وأمضى أسبوعين في السجن. بعدها اجتاز المانيا التي كانت تعيش سنوات الهيجان النازي، وعنها سوف يكتب في "مذكرات لص" قائلا: "إنه شعب من اللصوص "يقصد الشعب الالماني".
هذا ما أحسست به في داخلي. وإذا ما أنا سرقت هنا، فلن أقوم بأي عمل يمكن أن يحقق لي الثقة بنفسي. أرضخ للنظام العادي. ولا أهدمه. أسرق في الفراغ". وعندما عاد جان جينيه إلى باريس عام 1937، كتب رسالة إلى "آن بلوخ" يقول لها فيها: "سأنزل بأسف إلى الجزائر، والنيجر، والكونغو وبعدها انطلق إلى امريكا".
خلال السنوات الممتدة بين 1937، و1942، عاد جان جينيه يسرق من جديد. وبسبب ذلك تكررت اقامته في السجن أكثر من مرة. ومرة سرق الأعمال الكاملة لمارسيل بروست. فكان العقاب ثلاثة أشهر سجنا!
وكانت السنة 1943، سنة المجد والشهرة بالنسبة لجان جينيه الذي كان الناس يتعاملون معه حتى ذلك الوقت، كـ"لص محترف". فقد اطّلع جان كوكتو، الكاتب الفرنسي البارز على بعض الأعمال التي كتبها جان جينيه في السجن.
وكان انبهاره بها كبيرا حتى أنه لم يتردّد في أن ينطلق متجولا في مقاهي باريس وصالوناتها، معلنا عن ميلاد كاتب فريد من نوعه كاتب لم يسبق له مثيل منذ فرانسوا فيلون، وأرتور رامبو.
وعندما وقف جان جينيه أمام القاضي بسبب سرقته لطبعة نادرة لديوان فرلين: "حفلات ظريفة"، قال المحامي الذي كلفه جان كوكتو بالدفاع عنه:"انتم تحاكمون واحدا من أعظم الكتاب الفرنسيين في العصر الحديث!". وهكذا تراجعت المحكمة عن الحكم على جان جينيه بالسجن مدى الحياة!
عقب انتهاء الحرب الكونية الثانية، صدرت أعمال جان جينيه النثرية والشعرية في طبعات أنيقة عن دار "غاليمار" المرموقة، وعن دور أخرى.
ولم تلبث تلك الأعمال أن شهدت رواجا هائلا لا في فرنسا وحدها وانما في العالم بأسره. وبذلك أصبح جان جينيه واحدا من أشهر الكتاب الفرنسيين.
وقد ازدادت شهرته اتساعا بعد أن دخل عالم المسرح من بابه العريض منجزا مسرحيات حققت نجاحات جماهيرية باهرة، وعندما أصدر جان بول سارتر كتابه الذي حمل عنوان: "القديس جينيه، الممثل والشهيد" وذلك عام 1952، قرر جان جينيه الابتعاد عن الأضواء، والفرار من بريق الشهرة التي أصبح يحظى بها، فعاد إلى الأسفار باحثا فيها عن الوحدة، وعن السكينة الروحية.
وخلال الستينات والسبعينات من القرن الماضي، انشغل جان جينيه بالدفاع عن العديد من القضايا السياسية. فساند ثورة الطلبة التي اندلعت في ربيع عام 1968، وعاضد حركة "بادر ماينهوف" اليسارية الالمانية، وحركة "الفهود السود" في الولايات المتحدة الأمريكية. كما أنه شارك في العديد من التظاهرات المناهضة للعنصرية.
وقد تعاطف جان جينيه مع القضية الفلسطينية لذلك عاش في الملاجئ الفلسطينية، وبين الفدائيين أشهرا طويلة. ومن وحي ذلك، كتب "الأسير العاشق" الذي صدر عقب وفاته بأشهر قليلة. وعندما غزت اسرائيل لبنان في صيف عام 1982،
انطلق جان جينيه إلى بيروت ليكتب نصا بديعا عن مجزرة "صبرا وشاتيلا". وقبل وفاته، أوصى جان جينيه بأن يدفن في المغرب، البلد الذي أحبه أكثر من كل البلدان الأخرى التي زارها، وأقام فيها. وهو يرقد الآن في المقبرة المسيحية بمدينة العرايش الواقعة على بعد ستين كيلومترا جنوب طنجة. هكذا كانت حياة ذلك الذي قال ذات يوم: "حياتي المرئية لم تكن سوى تنكرات محجوبة جيدا".
حسونة المصباحي
المصدر: العرب أون لاين
إضافة تعليق جديد