غسان الرفاعي: أضواء كاشفة على الإنجيليين
ـ 1 ـ يجنح ديستوفسكي في روايته الخالدة «الإخوة كرامازوف» فيتخيل أن السيد المسيح عاد إلى الأرض، ونزل في إشبيلية إبان سطوة محاكم التفتيش وحال ظهوره أمر المفتش الأعظم إلقاء القبض عليه فوراً وزجه في غرفة مظلمة.
قال له: «لقد منحتنا السلطان، نحن الكهنة، وليس لك أن تسترده، ولا رغبة عندنا للتخلي عنه، دع السلطان لنا، وعُد من حيث أتيت!».
ويروي (إيفان كرامازوف) بطل الرواية، أن السيد المسيح لم ينبس ببنت شفة، وأنه تقدم من المفتش الأعظم، ولثم شفتيه، ثم توارى عن الأنظار.
أراد (ديستوفسكي) أن يبرز البون الشاسع بين الرسالة السماوية المتجسدة بشخص حاملها، والسلطات الأرضية السياسية التي تحاول عبر العصور (توظيف السماء) في صراعات الأرض السياسية، ومازال السؤال المأساوي مطروحاً: هل كانت ممارسات محاكم التفتيش الاسبانية تتماشى مع تعاليم السيد المسيح؟ وهل كان الصراع على الخلافة تطبيقاً لما جاء به النبي العربي؟ وهل كان الصراع بين البروتستانتية والكاثوليكية الذي استمر /100/ عام ، والحروب الصليبية شيئاً آخر غير صراع على النفوذ والسلطة، ولا علاقة لها بالرسالة السماوية؟.
والصورة لم تتغير: إسرائيل تمارس سلطات سياسية فاجرة تدعي أنها تستمدها من حق ديني إلهي، واليمين الإنجيلي الذي كان متحكماً بالبيت الأبيض يدّعي بأنه (يهندس) العالم حسب مخطط سماوي، وحتى في الديمقراطيات الغربية التي تطبق مبدأ (مالله لله، وما لقيصر لقيصر) وتفصل بين الدين والدولة، تحت شعار العلمانية، تحول الصراع بين الكنيسة وأعدائها إلى صراع بين أحزاب تؤمن بالمثل العليا، وأحزاب تفاخر بأنها تدافع عن المصالح العاجلة لجماهير الناس.
ـ 2 ـ
إن التهجم اللاذع الذي شنه (ماكريستال) القائد العام للقوات الحليفة في أفغانستان، في مجلة (رولينغ ستونز) على الإدارة الأميركية ، بدءاً من الرئيس (أوباما)، ونائب الرئيس (بايدن) وسفير الولايات المتحدة في كابول، ثم القرار السريع الذي اتخذه الرئيس (أوباما) بإقالة (ماكريستال) وإعفائه من مناصبه الرفيعة قد فجرا المخزون الراكد للأصولية الإنجيلية التي لاتزال ناشطة في أوساط الأثرياء، ورجال الأعمال، ولاتزال تحتل مواقع مفتاحية في المجتمع الأميركي، وأوساط الحزب الجمهوري.
وللأصولية الإنجيلية طقوس ومخرجون مسرحيون يجيدون عرضها على الجماهير المتعطشة للصراعات والإثارة. مراسل صحيفة /اللوموند/ في واشنطن تحدث عن رجل قصير سمين مترهل ذي كتفين عريضين، يخيل إليك أنه مصارع في حلبة، لا داعية ديني، ينشد الأناشيد الوطنية والدينية، ويشكو من انتشار الانحطاط، ويدّعي هذا الرجل العجيب (دون سولرمون)، ويبلغ من العمر /58/ عاماً، ولد يهودياً، في مقاطعة بورتماوث، وكان مدمناً على المخدرات والمشروبات الروحية، ولم يتح له أن يكمل دراسته، ولا أن يحمل أي شهادة، وليس له إلاّ صديق واحد هو كلبه ثم أتى إلى واشنطن (بالأتوستوب) واكتشف الإنجيل والسيد المسيح، وتخلى عن يهوديته، وبدأ يدرس النصوص الدينية المتوارثة، ثم أنشأ كنيسة خاصة به، وهو اليوم يتحكم بـ/120/ كنيسة، على امتداد الولايات المتحدة.
ويكتب مراسل /اللوموند/: (تخيلوا يوم أحد طبيعي: كثافة جماهيرية، و2500 سيارة، وأكشاك خشبية، وشعارات ملصقة على الجدران ضد الشذوذ الجنسي والتقاعس الوطني، والانحطاط الخلقي، وقاعة كبيرة تعج بالحضور، والقس المصارع في الصف الأول، وراءه سيارة كبيرة تحمل العلم الأميركي، ومئة عازف يرتدون الثياب السوداء، ويغنون بأصوات مجلجلة، أغاني دينية، ثم النشيد الوطني الأميركي، وفجأة يخلع الجميع أرديتهم ويظهر التنين الأسود على قمصانهم البيضاء، ويهدر الجميع بصوت واحد: يا رب العالمين، بارك بلادنا الجميلة!)
ـ 3 ـ
ويتابع مراسل (اللوموند) وصفه لهذه الطقوس الإنجيلية: (هنا تزدحم أميركا الحقيقية، أميركا البيضاء، وأميركا الطبقة الوسطى، أميركا الجادة والعبوسة، الكل يحمل إنجيله تحت إبطه، ومكبرات الصوت مجلجلة: (يا رب العالمين أرشدنا، اهدنا، بارك بلادنا...) ومقاطع من أقوال القديس (بولس) عبر الشاشات، وتنتفخ الصدور، وترتسم الغطرسة على الوجوه، وينشد الكل نشيد أميركا الجميلة. ثم يتدفق المحاربون القدماء، على خلفية موسيقية عسكرية، ويصفقون ويهتفون: (إلهنا، بارك أميركا، يا وطني الحبيب إلى الأبد) وتعرض الشاشات المنصوبة في كل مكان صور الجنود الأميركان، وهم ينزلون على شواطئ النورماندي، ويحررون الأسرى، ويحاربون في العراق، وهم يقدمون المساعدات إلى الفقراء، ويحملون الأطفال، ويساعدون الشيوخ، ووراءهم شعارات (الجيش الأميركي كريم، يدافع عن الحرية) ويصرخ القس المصارع: (وجنودنا مثلنا، يحاربون، يصلون، ولكنهم يقتلون أحيانا). وتظهر على الشاشات توابيت الجنود البحارة العائدين من العراق، وتتقلص الوجوه، ويعلو الصراخ: (هؤلاء الشجعان، نحن نحميهم، نحن نفاخر بهم..!).
في هذه اللحظة المؤثرة يظهر القس (سولرمون)، وبيده ميكروفون، ولا يحمل أي ورقة، ويبدأ خطابه الطويل، ويضحك، ويبكي، ويصلي، يستشهد بالإنجيل، يهتف: (أميركا يا حبيبتي) ثم (ستنتصرين على الشيطان!) ويبدأ تهجمه على الانحطاط الأخلاقي، ثم الإجهاض، وعلى الشذوذ الجنسي، ويقول: وهو يبكي: (إن ما هو أخلاقي أهم مما هو قانوني، الاستقامة أكثر أهمية من النجاح) ويكرر والدموع في عينيه: (مع الجيش الأميركي حتى النهاية، مع القيم الإنجيلية حتى النصر، والله معنا، وأميركا يا حبيبتي!).
ـ 4 ـ
ما تسعى إليه الأصولية التي تستيقظ الآن في مدن الولايات المتحدة هو إقامة (محاكم تفتيش دولية) على غرار محاكم التفتيش الإسبانية لمعاقبة (الإلحاد الوطني، والمروق على العولمة) والتمرد على (بيت الطاعة الأميركي). إنها تبرر (التدخل المتعسف) في البيت العائلي للدولة باسم (التعاطف الإنساني)، وحماية القيم الديمقراطية، وإنقاذ السلام العالمي، والدفاع عن الوحدة الوطنية، وقد شيدت، داخل الولايات المتحدة وخارجها، للترويج لهذه الأصولية المخادعة، وعينت قساوسة ورجالاً ممتهنين لتلاوة التراتيل والأناشيد، تمجيداً لهذه المحاكم، احتاطت لكل الاحتمالات، مستخدمة التكنولوجيا الحديثة في الاتصالات المعلوماتية، والأساليب المستحدثة في الترويع والبتر. ولكن محاكم التفتيش الإسبانية فشلت في ترويض المارقين، إذ مازالوا يتكاثرون حتى الآن، ومحاكم التفتيش الأميركية الأصولية ستفشل أيضاً، إذ مازالت الشعوب تتمرد على الوصاية والإلحاق والإخضاع.
ـ 5 ـ
فجأة بدأ الإعلام الموالي يتحدث في أوروبا عن (داء الطاعون) الذي ينتشر في المجتمعات الغربية، وتتصاعد الدعوة إلى تصفيته بحزم. ويتزعم هذه الحملة (أندريه كلوكسمان) التروتسكي الذي (ارتد وانقلب إلى فاشي متطرف بعد 11 أيلول، وحرب العراق، والحرب على غزة)، وتتصدر الإعلانات عن كتابه الجديد (الغرب ضد الغرب) واجهات المكتبات ومحلات السوبر ماركات.
ما يقوله (كلوكسمان) (غث لا يطاق): أولاً، كان الفكر الليبرالي يدعو إلى الانصياع للإجماع الجماهيري، ولكن الكرامة اليوم تدعو إلى مقاومة هذا الانصياع والاحتكام إلى الكيف لا إلى الكم. يكتب في غثاثة: (من العار أن يصبح الحلاقون واللحامون والسائقون وعمال التنظيفات هم الذين يقررون ما هو الأفضل لنا، ومن العار أن تعطى الصدارة إلى العاطلين عن العمل في النيبال، وإلى مصارعي الثيران في إسبانيا، ولصوص المخازن الكبيرة في روما، ليحكموا على الحرب ضد الإرهاب. ثانياً: المعركة الحاسمة اليوم هي بين الحضارة الغربية والإرهاب، ولا مجال للوقوف في الوسط، ولا في الدعوة إلى الحوار أو التفاوض. يكتب في فجاجة: (سأكون صريحاً وواضحاً، ولن أتستر على موقفي، هناك أميركا الجمهورية، وما ترمز إليه من شجاعة وتصميم، وهناك الإرهابيون وما يمثلون من همجية وسادية، نعم، نحن مع الكاوبوي، وسنكون معه حتى النهاية، وكل من يتردد أو يتقاعس هو خائن. هناك نحن وهم، واشنطن والعالم، ومن لا يتحالف مع الإمبراطورية الصاعدة يخن الغرب، ويخن بلده. هكذا هي الأمور، بكل بساطة. ليخرج الخائفون من المعركة، المعركة ليست بين أنصار الحرب وأنصار السلام، إنها بين من لم يكتشف أخطار 11 أيلول بعد، وبين الذين فهموا حقيقة ما جرى، وقرروا التحرك بشجاعة. ثالثاً: إن اليسار ليس أكثر من روضة أطفال بالنسبة إلى المفكرين الجادين الذين يملكون الجرأة على الانتقال من فندق السذاجة إلى فندق النضج، قال (كليمنصو): (من لا يكن فوضوياً في سن العشرين فلا قلب له، ومن يبق فوضوياً بعد الأربعين فهو وغد!).
ـ 6 ـ
على أن أهم فكرة طرحها (كلوكسمان) في كتابه الجديد (الغرب ضد الغرب) هي ما يسميه الأخلاق الطارئة، والمقصود بها تصنيع أخلاقية جديدة من وحي الصراعات الدائرة، تكون عودة إلى الأخلاقية التقليدية المعترف بها، يكتب في وقاحة: قد يكون العدوان عملاً منبوذاً مرفوضاً في الحالات العادية، ولكنه يصبح قيمة أخلاقية إيجابية في الحالات الاستثنائية، بل إن القتل الذي ذَمّته كل الأخلاقيات الحضارية المتوارثة قد ينقلب إلى عمل نافع ومفيد في بعض الحالات، إذا كان المقصود هو حماية حضارة متقدمة، مزدهرة.
ـ 7 ـ
إن الإنجيليين الذين يتمترسون وراء خنادقهم، في قلاع العدوانية الأميركية الأمامية، يجابهون شرفاء، تورم عندهم الشعور بالذنب، وما علينا إلا أن نستشهد بواحد منهم (مارتن اسلو) أهم الكتّاب الألمان المعاصرين والذي يؤكد أنه لم يعد بالمستطاع التظاهر بـ(عدم الاكتراث)، والزعم أن ما يجري في العالم يخص الأميركيين وحدهم. إنه يتساءل: (ماذا عساه أن يقول (ديستوفسكي) لو علم بآخر أنباء العراق وأفغانستان؟ كان سيرتجف رعباً، ويكتب رواية أقسى من روايته الخالدة (الجريمة والعقاب).
ويكتب (مارتن اسلو) في نهاية كتابه: (انتهى الأمر بمكنامارا ـ وكان وزيراً للدفاع أثناء احتدام حرب الفيتنام ـ إلى الاعتراف بأن الحرب ضد الفيتنام كانت خطيئة كبرى) يقول هذا بعد مقتل مليوني فيتنامي، فهل سيعترف (أوباما)، وقائد جيوشه الذي عينه حديثاً، بأن حرب أفغانستان واحتلال العراق كانا خطيئتين، لعلهما ينتظران أن يرتفع عدد الضحايا إلى أكثر من /3/ ملايين أو /5/ ملايين قتيل ومهجّر؟.
غسان الرفاعي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد