«دقيقة صمت» لسيغفريد لينز و«مرض الحصى» لميلينا آغوس
الألماني سيغفريد لينز والإيطالية ميلينا آغوس، لا يجمع بينهما جامع سوى أنهما روائيان. الأول يبلغ الرابعة والثمانين من العمر ويقف في صف هاينريش بول وغونتر غراس وغيرهما من كتّاب ألمانيا الكبار وكتب أكثر من أربعين نصاً بين رواية وقصص ودراسات، والثانية تبلغ الخمسين من العمر ولم تصدر أكثر من مجموعة قصصية وروايتين وباتت تقترب لتحتل مكاناً إلى جانب أمبرتو إيكو وأري دي لوكا وأليساندرو باريكو وسواهم.
ما يجمع بين الكاتبين، أكثر من هذا، هو أنهما كتبا روايتين يحاولان فيها مقاربة موضوعة الحب الصافي، المطلق، الذي يتخطى الظروف والأحكام ويتسلق الجسد ليصعد إلى السماء.
تشترك الروايتان في هذه الفكرة من دون أن يكون ثمة أي تشابه في الشخصيات والمكان والزمان. ومع هذا يشعر واحدنا، إذ ينتهي من قراءة النصين، وكأن كاتبهما شخص واحد أراد أن يبني حكاية واحدة في حبكتين.
«دقيقة صمت» لسيغفريد لينز (الترجمة الإنكليزية عن دار هاوس بوبليشينغ ليميتد، لندن) و «مرض الحصى» (النص الإيطالي عن دار نوتيتيمبو، روما) لميلينا آغوس، نصان صغيران يسردان حكايتين آسرتين عن سحر العشق وسطوته بكلمات قليلة وجمل مقتضبة. مع هذا يبدو وكأن مجلدات ترقد بين ثنايا السطور.
ينتبه القارئ إلى تلك الطاقة الخفية التي تزود الكاتب بالقدرة على صنع كتابة مؤثرة وغنية من حكاية بسيطة لحادث يومي عابر يقع لكل إنسي. يفعل النصان ذلك بعيداً من الافتعال والمبالغة تاركين الكلمات البسيطة تسيل بهدوء مخلفة الكثير من الأثر.
علاقة حب زاخرة بمشاعر عميقة مبثوثة في عبارات مكثفة. كلمتان ونقطة ثم تنفجر في ذهن القارئ ما لا يحصى من الخواطر والذكريات والأحاسيس. يشعر كل قارئ، في أي ركن من العالم، وأياً كانت اللغة التي يقرأ بها، وكأن النص كتب خصيصاً له.
يفعل النص فعله ويؤدي إلى تحول نفسي وروحي حقيقي في حياة أبطال الرواية. الحب الذي يتسرب إلى الأعماق، بهدوء وترو، يغوص ليستقر هناك ويتحول إلى ما يشبه الكنز الروحي المدفون والذي ما كان ليطلع إلى العلن لولا تلك القوة الهائلة التي يختزنها الإبداع الروائي.
الحب المعروض في النصين سيرورة ناعمة من دون دراما ثــائرة، بــعيــداً من القــوالب والـقـــوانـــين والمواقف المسبقة. لا تفعل الرواية هنا أكثر من أنها تلتقط واقعة حياتية عادية وتنسج منها مأثرة إبداعية وتستخرج من الحدث الاحتمالات الأكثر إثارة للدهشة.
بطلة رواية ميلينا آغوس فتاة تسرد حكاية جدتها. جدة كسائر الجدات. الاستثنائي فيها هو أنها كانت تبحث عن الحب النقي، الخالص، المطلق. الحب من أجل الحب.
كانت بلغت الثلاثين من العمر ولم تكن تزوجت، ليس لأنها تفتقر إلى الجمال وليس لأنه لم يطلبها أحد للزواج. بالعكس، كان طالبو الزوج يأتونها تباعاً. غير أن أحداً لم يكن يكمل ما كان جاء 080312b.jpg من أجله. في ما بعد ستكتشف أمها السبب: كانت تكتب رسائل سرية إلى طالبي الزواج. رسائل غريبة تسرد فيها رأيها عن الحب والمشاعر والجنس والجسد. آنذاك يعتقد الرجال أنها مجنونة فيغيرون رأيهم. تضربها أمها ضرباً مبرحاً ويتهمها الآخرون بالجنون. وحين يأتيها أخيراً من يطلب يدها ويريد أن يتزوجها توافق رغماً عنها.
رجل فقد زوجته وأبناءه في الحرب. تقول له: ولكنني لا أحبك. يقول لها: وأنا أيضاً لا أحبك. يتزوجان. يعيشان معاً. في بيت واحد، على سرير واحد، ولكن من دون أي اتصال جسدي. ينام هو على حافة السرير وهي على الحافة الأخرى. تصبحين على خير، يقول. تصبح على خير، تقول.
هو يتردد على المبغى وهي تقضي الأيام بحثاً عن الفارس المجهول. غير أنها تصاب بمرض الحصى، وهذا هو عنوان الرواية، وتذهب إلى مصح بعيد للعلاج. هناك يأتي الفارس المنتظر. يأتي من كانت تبحث عنه: الرجل الذي يمكن أن تحبه من النظرة الأولى. رأته من بعيد فعشقته قبل أن ترى ملامحه ومن دون أن تكلمه. دخل قلبها من دون استئذان.
المسافة الفاصلة
هو جندي سابق في الحرب. حارب النازيين على سواحل مرسيليا وأصيب وبترت ساقه. وهو الآن يستعمل ساقاً إصطناعية وعكازات. هو أيضاً جاء ليتلقى العلاج. في الفترة التي يقضيانها في المصح يلتقيان، يجلسان معاً، يعيشان حباً عميقاً وحالات من الإنخطاف الروحي. وحين تنتهي فترة العلاج يعود كل منهما إلى موطنه، يفترقان لتبقى ذكرى هذا الرجل، الذي أحبته، باقية في قلبها. ستبقى كذلك إلى آخر يوم في عمرها.
الشيء نفسه، تقريباً، يحدث لبطلي رواية «دقيقة صمت»، كريسيتيان الطالب البالغ من العمر سبعة عشر عاماً ومعلمته للغة الإنكليزية، ستيلا، التي تكبره.
دقيقة صمت، عنوان الرواية، هي دقيقة الصمت التي أقامتها المدرسة حداداً على روح المعلمة التي ماتت (أم انتحرت؟) غرقاً في البحر. كريستيان هو عريف الصف التي كانت ستيلا معلمة فيه وقد طلب منه أن يلقي كلمة. في الفترة التي تستغرقها المسافة التي تفصل بين ترتيب الصف وتوزيع الحاضرين واللحظة التي سيلقي فيها كريستيان كلمته، نمضي معه، في رحلة هادئة ومثقلة بالأسى، إلى الوراء. يروي كريستيان، وهو يخاطب ستيلا، في سره، ذلك الحب الخاطف، الذي وقع كلمعة برق، بينه وبين ستيلا. لا أحد يعلم بالعلاقة. لا أحد يعلم بما كان قائماً بين الاثنين. وهو لا يستطيع أن يفشي بالسر لأحد.
في مدينة على ساحل البلطيق تدعى هيرتشافن. والد كريستيان يملك سفينة يعمل عليها لجمع الأحجار المصقولة من البحر ويساعده كريستيان بين الحين والآخر. تعيش ستيلا مع والدها العجوز في الجوار.
التقى كريستيان بالمعلمة في فندق قريب من بيته، كانت ذهبت إليه لإلقاء محاضرة تربوية. التقيا، جلسا معاً، تحدثا، تبادلا الأفكار، كشفا عن مشاعرهما، واحدهما نحو الآخر، تبادلا القبلات وأدركا أن قوة جارفة تشدهما.
حاولت أن ألخص الروايتين. لم يكن ذلك ممكناً لأن ليس ثمة الكثير مما يمكن تلخيصه. شخصيات قليلة وحدث وحيد، إلى جانب أشياء عابرة هنا وهناك. غير أن السحر الذي يقوم في النصين لا يقاوم.
لا يمكن أن يفلت القارئ من تلك اليد الخفية التي تشده إلى النص وتدفعه إلى القراءة بشغف. نصان دافقان بالدفء عن الحب والحرب والرقة والقسوة والواقع والحلم، منثورة في السرد المتنقل بين الماضي والحاضر، بين المتكلم والمخاطب، في لغة شاعرية وسرد أخاذ. كتابة رقيقة. إيقاع هادئ، كأن الأمر لا يتعلق بحكاية وأحداث بل بالتأمل في المصير البشري والخيارات التي نملكها في هذه الحياة، التي، من دون حب حقيقي وصادق، تغدو مثل عقوبة كتب علينا أن نتحملها.
نزار آغري
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد