مرافعة ناقصة عن ديغول الذي وصف العرب بـ«الكراكيب» فلم يغضبوا

24-09-2010

مرافعة ناقصة عن ديغول الذي وصف العرب بـ«الكراكيب» فلم يغضبوا

كان المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه قد نشر في 2008 كتاباً عنوانه «ساذج في الأرض المقدسة». وفي ربيع هذا العام 2010 نشر كتاباً آخر بعنوان «إلى صديق إسرائيلي» رَدَّ فيه على كتاب إيلي برنافي «اليوم أو ربما البتَّة». وبرنافي مؤرخ وسفير إسرائيل السابق في فرنسا، وصديق دوبريه أيضاً. وانطلاقاً من هذه الصداقة حمل دوبريه قلمه من جديد وكتبَ مخاطباً برناقي: «ما إن أغلقتُ كتابكَ الأخير «اليوم أو ربما البَتَّة» حتى شعرتُ يا عزيزي إيلي برنافي أن بُعد نظرك وأسلوبك الصريح يتحدّياني كي أعاملك بالمثل»...
كتبَ دوبريه مئة وخمساً وعشرين صفحة، وزَّعها على سبعة فصول، من أجل مناقشة كتاب صديقه. لست هنا بصدد عرض الكتاب أو تلخيصه، بل للتوقف عند الفصل الثالث الذي يبحث «عن معاداة السامية». ريجيس دوبريه
عالجَ دوبريه تحت هذا العنوان هذه «القضية المزيفة» من وجهة نظري، وأفسَحَ مكاناً لا بأس به كي يعود إلى حَدثٍ شهير كان بطله الجنرال دوغول بعد أقل من خمسة أشهر على نهاية حرب حزيران 1967. يبدو أن برنافي قد أعطاه أهمية ما، ملمحاً إلى عداء الجنرال للسامية، وهذا ما دحضه دوبريه بحماسة، مستشهداً بما جرى منذ لجوء الجنرال إلى لندن بُعيد هزيمة فرنسا أمام جيوش هتلر في صيف 1940، مما لا يتسع المجال لشرحه هنا.
براءة ذمة
فَتَّش دوبريه في ما قاله الجنرال أو كتبه، واستقى منه «شهادات براءة ذمة» اخترتُ منها هذا النص: «تراكمَ في المسيحية بشكل خاص رأسمال ضخم قوامه المصلحة والمَوَدَّة، لحساب الطوائف اليهودية. وهذا أمر ينبغي قوله، رأسمال جاء نتيجة للسلطة الهائلة التي مارسَها العهدُ القديم على المسيحية، زاد في هذا الرصيد طقوسُ عبادات بديعة وصانته الرأفةُ والشَّفقة المستوْحتان من بؤس تلك الطوائف قديماً، وأكسَبتهُ شِعريةً خاصة عندنا في فرنسا خرافةُ اليهودي التائه، وأضافتْ إليه الاضطهادات الشنيعة التي تَعرَّض لها اليهودُ في الحرب العالمية الثانية، ونما هذا – الرصيد – منذ أن عثر اليهود من جديد على وطن، وازداد بفضل الأعمال البنَّاءة وشجاعة الجنود» [(اليهود طبعاً). لا أعرف لماذا نسي دوبريه تذكير السفير السابق بما كان الجنرال يَصِف به المستوطنين اليهود في فلسطين منذ أن وصل إلى لندن ثم إلى سوريا ولبنان في بداية الحرب العالمية الثانية، كان يقول عنهم: «صائدو المستحيل». والمعروف عند الفرنكفونيين أن المستحيل كلمة لا توجد في الفرنسية.
يُحبِط دوبريه كونُ صديقه لا يرى غابةَ موَدّةِ الجنرال التي يكنها لليهود، لأنه لا ينظر إلا إلى الشجرة التي حجَبَتها، أي تصريح الجنرال في تشرين الثاني 1967. فماذا قال الجنرال؟ «تساءلَ كثيرون ومنهم يهود، عمّا إذا كان انزراع هذه الطوائف في أرض اكتُسِبتْ في ظروف يسهل أو يصعب تسويغَها، وسط شعوب عربية كانت معادية لها بعمق وبشكل مطلق، تساءلوا عما إذا كان ذلك لن يؤدي إلى احتكاكات وصراعات لا نهاية لها.
بل خَشِيَ بعضُهم من أن اليهود الذين كانوا حتى ذلك الوقت منتشرين في العالم، ولكنهم حافظوا على ما كانوا عليه دائماً أي – شعبَ نخبةٍ واثقٍ من نفسه ومُسَيطر – لن يُقْدِمَ بعد تَجَمُّعه في الموقع الذي شهد عظمته السالفة على تغيير الأمنيات المحركة للمشاعر، التي ما انفكوا يرددونها منذ تسعة عشر قرناً [(العام القادم في أورشليم) وتحويلها إلى تَوْق محتدم إلى الغزو». كتب دوبريه بعدئذ: أتبعَ الجنرالُ هذه الجملة بعَرضٍ كئيب لدوامة الخيبات القادمة. هذا العرض الذي لا يمكن اقتطاع أي جزء منه بعد أربعين سنة من تقديمه: «احتلال غير مشروع للأرض المكتَسَبة بالقوة، يُنتج مقاومةً للاحتلال وإرهاباً ومكافحةَ إرهاب.. أي حلقة جهنمية متكررة.. قل لي يا عزيزي إيلي برنافي، مَن هو رجل الدولة الذي قال مثل هذا الكلام في تشرين الثاني 1967 غداة حرب الأيام الستة، وكانت له هذه الرؤيا وبُعد النظر؟ أيكون بوسعكم الحصول على كثيرين من أعداء السامية على شاكِلته؟»...
تزوير التاريخ
جاء رَدُّ بَرنافي على رسالة دوبريه في نحو ثلاثين صفحة، نُشرتْ في نهاية الكتاب، وقُسّمتْ تبعاً لعناوين فصوله. وفي باب تفنيد ما كتبه دوبريه عن معاداة السامية، توقف برنافي عند محطة الجنرال طوال صفحتين كاملتين كي يؤكد «أنه نجا من النقد، وأنه أخطأ ثلاث مرات لا واحدة». لن أتوقف مع ما كتبه برنافي، لا لأنه أخطأ، فهذا أمر واضح، بل لأنه ارتكب جريمة تزوير أحداث تاريخية موثقة من مصادر متنوعة، ولا غرو فهو المؤرخ المؤهل لذلك بحكم وظيفته. على أي حال، أعادَتْني محاولةُ السفير السابق تغطيةَ قبَّةِ الوقائع بحَبَّةِ التجاهل المتَعَمَّد، إلى دفاتري القديمة أيام كنتُ أحاول دراسةَ حقيقة موقف الجنرال من العرب وإسرائيل، ووجدتُ فيها ما يجعل السيد السفير أضحوكةً، ومعه كمية محترمة من السياسيين والمثقفين العرب، أتمنى التمكّن من نشرها يوماً ما.
كان بوسع دوبريه وهو يقدّم مرافعته الدفاعية عن الجنرال، أن يُبرز سلاحاً فاعلاً، لو أنه نَوّه برأي الجنرال بالعرب وبموقفه منهم في أزمات معروفة مَرَّت بالأمس القريب. أُقَدِّمُ بعضَها مُتطوعاً إلى «الصديقين» المفكر الفرنسي والسفير السابق «الصهيوني المؤيد للفلسطينيين» كما يصف نفسَه. وأسأله لماذا لم يجد في مواقف الجنرال من «اليهود» إلا هذه المفردات لتي قالها بعد حزيران 1967 بعدة أشهر؟ ولماذا يتهمه بالانقلاب على الدولة «المهددة بالفناء»، ناسياً واقعة تقديم فرنسا برئاسة الجنرال نفسه، أسلحة فرنسية إلى إسرائيل بأربعين مليون دولار في الأسبوعين الأخيرين من شهر أيار 1967؟ هذا إذا ضربنا صفحاً عن الدور الفرنسي في المشروع النووي الإسرائيلي. لا أود العودة إلى نظرة الجنرال إلى «السكان المحليين» في دولتي الانتداب الفرنسي – لبنان وسوريا – أيام كان برتبة مقدم يرئس مكتبي العمليات والأمن في قيادة جيش المشرق سنة 1931. فهذه مرحلة تنتمي إلى ما قبل التاريخ، أقفز عنها إلى 1956 عندما قرر جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس. والجنرال قد اعتزل السياسة في قريته، لكن الحكومة الفرنسية كانت تُعلمه بمجريات الشؤون العامة، ومنها التحضيرات الجارية للهجوم على مصر.
استشاط الجنرال غضباً لما نُّفّذت العملية، وقال: إنهم يريدون سلوكاً دوغولياً من دون دوغول. وعندما سُئِل: لو كنتَ في السلطة ماذا كنت تفعل؟ أجاب: أنا دوغول، لأنني أمثّل الشرعية، ومنذ اللحظة التي أعلن فيها المدعو ناصر تحدّي الغرب بتأميم قناة السويس، كنتُ أعلنتُ من الإذاعة فوراً وأمام العالم كله... أصغِ إليّ يا سيد ناصر، لستُ أعرف بالفعل ما إذا كنتَ ستؤمم القناة، ولكنني أنا دوغول، أرسل فوراً فرقتين لمهاجمة مصر، وفي خلال ساعتين سيكون جنودي من المظليين قد احتلوا القاهرة، ولن توقفهم قوة في العالم (من كتاب النار والرماد للمؤرخ الفرنسي ريمون تورنو Tournoux، ص 149 و 150).
أكثر «طرافة»
هل يريد السيدان دوبريه وبرنافي ما هو أكثر «طرافة»؟ فليقرآ: في الثلاثين من تشرين الثاني 1956 استقبل الجنرال كما فعل مراراً المؤرخ ريمون تورنو. وكان الفرنسيون يتدارسون مع حلفائهم [(أطراف العدوان الثلاثي على مصر) موضوع الانسحاب من هناك. ودار الحديث حول الأزمة وتأثيرها على مستقبل الجزائر وخلفها أفريقيا السوداء الفرنسية. وعندما سأله تورنو هل سيأتي دورُهما وتخرج فرنسا من هناك، أجاب الجنرال: المسألة ليست نفسها في المنطقتين. «الزنوج أوادم» لا تُحركهم العواطفُ الجامحة كالعرب... ثم إن العرب لا شيء. لم نرَ أبداً عرباً قاموا ببناء الطرق والسدود والمصانع. وبعد فما هي حاجتهم إليها؟.. لكنهم مهرة في السياسة ويلبسون كالمتسولين (النار والرماد ص 151).
لماذا لا أستمر في رش ملح الجنرال على جرح «كرامتنا» نحن العرب، كتنويع على نقاش دوبريه – برنافي؟
كان الجنرال يتحدث إلى واحد من أصدقائه المقربين اسمه ليون دلبك DELBECQUE إبان الأزمة الجزائرية بعد أن توصل إلى الاقتناع بضرورة إقامة علاقة جديدة بالجزائر. فقال له: دِلبِك، أنت تعرف جدياُ أنني لو استطعتُ، أو لو كنا نستطيع لجعلتُ الجزائر فرنسية، لكن الموضوع تم تجاوزه الآن. يجب علينا العثور على صيغة تسمح لنا بالاحتفاظ بالجزائر في أنظومة جماعية. كما يجب علينا ألا نخاف من قول هذه الكلمات: يجب أن تكون الجزائر مستقلة... ثم بادر دِلبك هل ترانا نمتزج بالمسلمين؟ إنهم يختلفون عنا. وهل ترانا نزوّج بناتنا للعرب؟ (النار والرماد، ص 248).
وفي الصفحة 260 من الكتاب نفسه يعلن سخطه على العرب في موضوع حرب الجزائر التي يسميها صندوق الكرب والغَمّ. ويصف العرب بأنهم «كراكيب» لأنهم يمنعونه من تصميم سياسة فرنسية طموحة. وكلمة كراكيب غير موجودة في لسان العرب. لكنها الترجمة الأمينة للصيغة الفرنسية التي استعملها الجنرال: Les Fourbis Arabes. وكلمة Fourbis ليست فصيحة بالفرنسية أيضاً. ولكنها تعني مجموعة الأشياء التي لا قيمة لها... أي الكراكيب بالعربية غير الفصحى.
يسهل الاستنتاج بعد كل ما نوهتُ به من بعض آراء الجنرال في الجناح الثاني من الساميين، أبناء هاجر وإسماعيل، لا ابناء سارة ويعقوب، «بصرف النظر عن كون هذا التصنيف خرافة توراتية»... أنني أود توجيه سؤال إلى السيدين دوبريه وبرنافي... ما الذي كان سيحدث لو أنه خطر في بال الجنرال أن يقول في حزيران 1967 للمدعوة غولدا مييرسون: لا أعرف ما إذا كنتِ ستقومين بغزو دول أخرى... ولكنني أنا دوغول... إلى آخر ما جاء في إنذاره إلى المدعو ناصر؟
لقد اقاموا الدنيا على الجنرال لأنه وصفهم «بشعب نخبة واثق من نفسه ومهيمن». بينما لم يقم «أبناء عمهم» بتحريك ساكن بعد أن نَعَتَهم بالكراكيب، وبأنهم لا شيء وغير أوادم... على نقيض الزنوج...
ملحوظة ذات صلة بما قبلها:
ربما سَبَّبت السطور السابقة بعضَ الضيق عند بعض القراء. وهذا من دواعي أسفي، غير أني أنصحهم بالعودة إلى ديوان شاعرنا الخالد بدوي الجبل، وقراءة قصيدته بدعة الذل، في رثاء إبراهيم هنانو... من أجل الترويح عن أنفسهم... كُتبت القصيدة في 1950.

غازي أبو عقل

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...