حنا مينة: الشباب.. بداية ضياع!؟
بين الحربين العالميتين، في النصف الأول من القرن العشرين، برز الكاتب الأميركي الشهير ارنست همنغواي،.
بروزاً على كفاءته وموهبته الأدبية، وقد اشتهر بأنه كاتب الجيل الضائع، لأن نتائج الحرب العالمية الأولى، رمت جيل الشباب، آنذاك، بالضياع، فلما جاءت الحرب العالمية الثانية، وأنشبت النازية انيابها بأوروبا والاتحاد السوفياتي، وماتلا ذلك من المآسي، زاد في ضياع الشباب، في أوروبا، كما أميركا، بشكل رئيسي، وفي بعض البلدان الأخرى بشكل ثانوي. وقد نجا الشباب العربي، من آفة الضياع، لأن الحربين العالميتين لم تمسه إلا من بعيد، وبشكل طفيف جداً، إضافة إلى القضايا الساخنة، الوطنية والقومية، التي طرحت نفسها على الساحة العربية، وفي مقدمتها قضية فلسطين، وما ألهبت من مشاعر الشبيبة العربية، وشدت من عزائمها شداً قوياً.
اليوم، ونتيجة للتراجع المستمر في الوضع العربي، بدأت مخايل اليأس والضياع تلوح في أفق الشباب العربي، بدلالة مايعبر عنه الإبداع العربي، أدباً وفناً، ورسائل القراء التي تنشرها الصحافة، أو تصلني، شخصياً، من أكثر قرائي الأعزاء، الأمر الذي جعل المساءلة، حول بدايات هذا الضياع، تبعث على القلق فعلاً.
ففي قصة «ثمل تسكره هلوسات الحكمة» تقدم القاصة مريم كافية من تونس، مايشبه البانوراما العريضة، الواسعة، لضياع بطل قصتها الذي لايجد لديه من الثياب مايستر عورة جسمه، فيتساءل، على نحو فاجع ماإذا كان، نتيجة البطالة، والفقر، والعوز، والجوع، سيضطر إلى الانحراف، وهو يؤكد، وهنا النقطة الخطيرة اللافتة «ليس لاحد الحق في محاكمتي، لأنني سأجبر الكل على احترام قرفي وبؤسي»
ويظل بطل القصة، الضائع والمحتج معاً، يسير ليلاً في الشوارع إلى أن يصل، بثيابه المتهرئة، التي لاتستر جسمه، إلى البحر، فينظر إلى أعلى، إلى القمر، الذي يناجيه مناجاة الشاكي، دون أن يسمع منه جواباً.
يقول: «ترى كم هي المسافة التي تفصلني عن هذا القمر، فهل يراني كما أراه؟ إنه، كفلك، رب عالمه، وأنا أيضاً رب تلك الأسرة المسكينة.. فلماذا لايهبني ماأخمد به جوعي وجوع عيالي؟ لماذا يتركني ألوب ضائعاً؟ لماذا لايشفق علي وأنا أثرثر كالمجنون؟!
وفي رسالة من (أ،ي،ب) من بلد مشرقي، تطفح بالاحباط والقنوط، يقول كاتبها: «كان الرفض، هو رفضي لكل شيء حولي، قرفاً من الأوضاع المتردية التي نعيشها في وطننا العربي.. في غياب الوعي، والانصياع لحالة اليأس والاحباط، بعد سلسلة الهزائم التي أنزلت الكرامة منزلة الحضيض.. وقد عشت في ترحال طويل، وغربة روحية مستديمة، في الوطن وبعيداً عنه، وتجرعت كؤوس العذاب كل يوم، باحثاً عمن يفهمني، أو يشاطرني بعض ماأومن به على الأقل، ولكن.. لن أقول لم يكن هناك أحد، بالتأكيد يوجد، ولكن أين هو؟ لقد صرت قانطاً، وبلغ بي الجنون أنني صرت أفتش عن شخوص الروايات وأشباحهم، طالباً القليل من الأمل والعزاء، وبعض الدافع للاستمرار في هذه الحياء».
هذان نموذجان لكثير من القصص والرسائل، أتلقاها وأرد عليها، محاولاً، قدر الإمكان، مسح جراح الشباب، إعطاءه بعض الرجاء، بعض الثقة بالنفس، بالمستقبل، بالحياة الأفضل، دون طائل، لأن الثقافة - والأدب ثقافة من الثقافة- تعيش أزمتها هي الأخرى، وترتبط أزمة الثقافة بأزمة فقدان الرؤية، وفقدان المشروع النهضوي، وفقدان القيادة التي هي رافعة هذا المشروع، وفي ندوة «تحديات المشروع الصهيوني والمواجهة العربية» التي عقدت في القاهرة بمناسبة الذكرى الثانية والخمسين للنكبة الفلسطينية، أجمع المنتدون على أن الحياة الثقافية العربية، عانت معضلات حقيقية «لأن أزمة الديمقراطية مثلت عاملاً هاماً في تراجع مستوى الحياة الثقافية في الوطن العربي».
وقالت ورقة عمل مقدمة إلى الندوة، في تفسير ظاهرة تراجع المستوى الثقافي مايلي بالحرف: «من نافل القول إن الثقافة في أي مجتمع ماهي إلا جزء من كل، وبالتالي فإن الانحسار والأزمات السياسية والاقتصادية والإيديولوجية كان من المحتم أن تعكس نفسها على المجال الثقافي. ومن البديهي القول إن الإنتاج، والإبداع الثقافي، يتوقف على مستوى تطور الديمقراطية وعمقها في المجتمع، فإذا غابت هذه الديمقراطية انحسر الإبداع، وتقوقعت الثقافة، وهذا هو اليوم، حال الكثيرين من المثقفين العرب»
إن الإبداع لايكون إبداعاً حقيقياً، متجلياً، مزدهراً، إلا مع الصدق، والمثقفون العرب، الذين يكتبون بصدق، لايستطيعون، بأي حال إغفال الواقع السيئ، المأزوم، للمجتمع العربي، لذلك تأتي نتاجاتهم، غالباً، حاملة هموم الناس، طارحة قاضاياهم، مبرزة صورهم، وعرض هذه الهموم والقضايا والصور، يقدم صورة قاتمة عن الواقع المعيش، وفي أساس هذا الواقع مشكلات الشباب العربي، من بطالة، وغلاء، وبؤس، هذه الآفات التي يبحث هذا الشباب عن حل لها فلا يجد، وعندئذ يخون البؤس هيبته، ويقتل براعم الأمل في نفوسه، ويوماً بعد يوم ينزلق الشباب إلى مهاوي اليأس والضياع.
كان المخرج المسرحي الرائع، المرحوم فواز الساجر، يسأل وهو يسير في الطريق أحياناً: «إلى أين أنت ذاهب؟» فيجيب وهو يبتسم: «إلى الكاتب الفلاني لأخذ جرعة من التفاؤل» وهذا الكاتب الذي كان يوزع جرعات التفاؤل، غدا الآن بحاجة، هو نفسه، إلى من يعطيه جرعة تفاؤل، ليس لأنه أضحى في المتشائمين، إلا أنه، في قراءته لوقائع المجتمع العربي الراهن، بحاجة إلى من يعطيه جرعة التفاؤل هذه!
ذلك أن الكاتب نبت أرضه، نبت وطنه، نبت مجتمعه، وهذا النبت تصوحه، في أيامنا هذه، كثير من الريح السموم، فهو لايستطيع أن يكون متفائلاً حين يقرأ قصصاً كثيراً، يتساءل أبطالها: «لماذا نحن في العاطلين عن العمل؟» أو «لماذا لايهبنا الزمن مانخمد به صراخ الجوع؟» أو «لماذا يتركنا الدهر إلى اللوبان ضائعين؟»
ولايستطيع أن يكون متفائلاً، حين يكتب إليه أحدهم قائلاً: «لقد صرت قانطاً، وبلغ بي الجنون أنني صرت أفتش عن أحد يفهم مأساتي، وأنني، في هذه المأساة، التي تسلمني إلى الضياع، أبحث عن قليل من الأمل والعزاء!»
مع ذلك، ورغم كل قتامة اللوحة، يبقى التفاؤل غير الأحمق مطلوباً، فنحن في زمن نحتاج فيه إلى رؤية صائبة، وإلى منهاج سديد، وإلى قيادة تؤمن، وتعمل، بحسب هذه الرؤية، ووفق هذا المنهاج، إلى أن يتحقق تقويم الاعوجاج في المسيرة، وتنبت زهرة الثلج في جبل صنين، كما نبتت، فجأة، في جنوب لبنان!.
حنا مينة
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد