جائزة غونكور للفرنسي ميشال ويلبيك
لم تكن «مفاجأة» البتة، فوز الروائي الفرنسي ميشال ويلبيك بجائزة غونكور هذه السنة، عن روايته «الخريطة والطريق» (منشورات فلاماريون). ربما كانت المفاجأة لو لم يحزها. فمنذ أن صدرت الرواية في بداية شهر أيلول المنصرم، تناولها النقاد بكثير من الحماسة و«التحيّز»، معتبرينها أفضل روايات الموسم.
ثمة الكثير من التحايل في ذلك، إذ كيف يستطيع المرء فعلا الجزم بهذا الأمر، وبخاصة أن هناك ما يقارب الـ 700 رواية، صدرت مع بداية الموسم الأدبي في فرنسا، أيّ لم يملك النقاد والصحافيون الوقت لقراءة كل شيء.
ومع ذلك، ثمة دعاية إعلامية كبيرة، حاضرة منذ سنين، اسمها ميشال ويلبيك، وإن كان ذلك لا ينفي جودة أدبه بشكل عام، كما اختلافه عن الكثير ممن يكتبون اليوم في فرنسا، عبر اختياره لموضوعات، تشكل تفردا ما، كما عبر أسلوبه، الذي يفترق عن أساليب الكثيرين، أي عرف الكاتب، كيف يخط لنفسه طريقا مغايرا، لذلك، تبدو كل رواية يصدرها، بمثابة حدث.
والحدث أيضا، لم يكن حدثا أدبيا صرفا. إذ ساعدت طبائع الكاتب النارية في إضفاء المزيد من «الهالة» على عمله، كما ساعدت تصريحاته العنيفة، التي لا تخلو من العنصرية والسادية، في انتشار اسمه، حتى بين الذين لا يقرأون رواياته. ليس أقلها ما قام به منذ سنوات قليلة، حين اعتبر الدين الإسلامي من أتعس الأديان قاطبة، ما دفع كثيرين إلى مهاجمته على ذلك، ومحاكمته، حتى وإن «برأه» التحليل النفسي – إذا جاز القول – حين اعتبر أن كلامه هذا صادر بسبب أن والدته غادرته لتتزوج من مسلم، ما سبب له «عقدة نفسية دفينة». بيد أن كل هذا الكلام يسقط، عند الكتاب الذي أصدرته والدته منذ فترة، والذي هاجمت ابنها فيه، ناعتة إياه بأقسى الصفات. وما من كراهية أشرس من قوله إنه يشعر بالانتشاء حين يرى شخصا فلسطينيا، أكان راشدا أم طفلا، أم امرأة حاملا وهم يسقطون في غزة، لأن هذا معناه بالنسبة إليه أن العالم ارتاح من شخص مسلم. وبالتأكيد ليس هذا الكلام بحاجة إلى أي تفسير لنتعرف إلى عنصرية هذا الكاتب.
وبين ذلك كله، تختار فرنسا اليوم كاتبها. ربما يشبه الأمر اختيار الفرنسيين لساركوزي رئيسا. ربما لا فرق بين الاثنين، في معاداتهما للعرب والإسلام. الفرق الوحيد الممكن، أن واحدا هو رجل سياسي، بينما الآخر، هو كاتب، وإن كانت سياسته لا تشذ كثيرا عن رئيسه، في اعتبار الضحية هو الجلاد، وأنه يجب التخلص منها.
في أي حال، وبعيدا عن السياسة، نحن أمام كتاب فائز بأهم جائزة أدبية فرنسية لهذا العام. وعلينا ربما أن نقرأ الرواية بصفتها رواية. من هنا ولمزيد في معرفة مناخات هذه الكتابة، نقدم ترجمة لمقتطفات من حوار طويل أجرته المجلة الأدبية (الماغازين ليتيرير) مع الكاتب، بعيد صدور روايته، وفيه يتحدث عن جملة من الموضوعات الأدبية والكتابية، إذ منذ فترة، لم يعد ويلبيك يطلق أحكامه القاطعة ولا آراءه «النيرة»، وربما لهذا السبب، أي سبب هدوئه، ما جعل أعضاء لجنة تحكيم غونكور في اختياره كفائز لهذه السنة.
هنا هذه المقتطفات التي تدخلنا أكثر إلى قلب الرواية.
÷ هل يزعجك الأمر حين يصف النقاد روايتك «الخارطة والأرض» بأنها رواية كوميدية؟
ـ كلا، لا أجد في الأمر أيّ انتقاص. لا أنكر أن هناك بعض المقاطع الفكاهية، وإن كان ذلك لا يشكل العنصر الأكثر وسما للرواية. ثمة مقاطع مشابهة في جميع رواياتي الماضية. وفي هذه الرواية بالتأكيد. بيد إن كان ذلك يتراءى لهم عنصرا جديدا، فهذا يعني أنهم ليسوا نقادا جيدين، إنهم إلى جانب «الصفيحة».
÷ كيف تشرح هذه المقولة reductio ad hilarum
ـ أعترف بأنني لا أفهمها. هل لديك أنت فكرة عن ذلك؟ ما الذي يمكن له أن يدفعك إلى القول بأنه كتاب ساخر حقا؟ بصراحة، لا أرى ذلك.
القطيعة مع الطبيعة
÷ في رسائلك المتبادلة مع برنار هنري ليفي، التي صدرت في كتاب بعنوان «عدوّان عامّان» قلت بأنه، في الخمسينيات، كان المجتمع يتقبل أدبا متشائما، أما اليوم، فإن أدبا مماثلا يمكن له أن يبدو أدبا غير لائق؟
ـ ثمة، في الواقع، أمر غامض، لكنه دائم، في إعطاء الأمل، في تمرير رسالة مؤاساة أو رسالة تآلف. إن رفضنا الانصياع إلى هذا الأمر، فذلك يمر بشكل سيئ. لا أستطيع أن لا أخذ ذلك بالحسبان. في جميع المواقف تقريبا، يمكن لنا أن نضيف زاوية كوميدية من وقت إلى آخر، إلا أنني لست موافقا البتة بأن تلك هي الفكرة التي تسيطر على رواية «الخريطة والأرض». هذه الرواية، بدون أدنى شك، هي أكثر تراجيدية من رواياتي السابقة. لأن الموت الطبيعي، الطبي، حاضر أكثر من غيره. لأننا نموت من الشيخوخة، ما لا يشكل حادثا مفاجئا. منذ الصفحات الأولى، هناك شخصية، شخصية الأب جيد مارتن، ليست شخصية بعيدة عن الموت. تجعلنا نرى ونفكر بمأساة الموت البسيطة. يمكنك أن تتحدث عن أدب متفائل أو متشائم، لكن برأيي، ليست هناك سوى رؤيتين للأدب: الرومانسية والتراجيدية. مع العلم، وعلى الرغم من غياب الإيمان بالحياة الخالدة، نجد ان الرومانسية في موقف صعب جداً. يمكن لموت هذه الشخصية، جان – بيير مارتان، أن تكون كل شيء سوى رومانسية. ألا نجد باختياره الموت الرحيم، بأنه يشير إلى تسلط التقنية على الجزء الأخير من إنسانيتنا؟ إن مجتمعاتنا، حضارتنا، لم تعد تعرف ماذا تفعل بأمواتها. في الرواية، أروي هذا التقليد «الملغاشي» في نبش أجساد الموتى والاحتفال الذي يقام قبل أن تدفن من جديد. هذه الممارسة تصيب أحاسيسنا بعمق. ومع ذلك، ثمة في هذا الأمر، الرغبة في حفظ الميت في واقعة أن نعطيه كفنا خاصا.
÷ ألا نجد في ذلك، تذكيرا بالمقولة التالية: الإنسان هو الحيوان الذي يدفن موتاه؟
ـ أجل. حتى في هذا المجال، نجد أن الأداة بدأت تخلي مكانها للآلة، التي لم نعد نفهم منها شيئا. في النهاية، ليست الأداة سوى امتداد لليد، بينما تهرب الآلة من قدرتنا على التحكم بها بشكل كامل. من هنا نرى تدريجيا أن ثمة تحديدا آخر للإنسان يبدأ ببناء نفسه. فالوصول إلى الإنسانية، سيكون في تكملة حركة القطيعة الجذرية مع الطبيعة. إنه مفهوم يصدمني بعمق. ثمة الكثير من الاختلافات بين جميع وجهات النظر ما بين التقاليد الروحية والدينية. وبخلاف ذلك، تمثل جميعها نقطة مشتركة، وتكمن في أنها شهدت كلها على انتباه مدعوم من مصير الكلمات.
÷ في «الخريطة والأرض»، تدفع إلى التعايش ما بين عالم السرد وعالم التجاور. يلتقي هذان العالمان انطلاقا من موضوعات متنوعة تمتد من الملحق الصحافي إلى الفن المعاصر، من كلب مفوض شرطة إلى محطة محروقات. كيف تنجح في قيادة هذه الحكايات من دون أن تعطي الانطباع بأن فكرة تتغلب على أخرى؟
ـ أنا موافق على ملاحظتك، لكني غير قادر البتة على تحديد كيف أقوم بذلك. من السهل جدا أن يبقى الأمر انسيابيا حين نبقى داخل سرد يضع فوق خشبة الأحداث موضوعات متباعدة. لكن إن حاولنا أن نضيف إلى هذه التوصيفات أفكارا عامة تنفتح على آفاق أخرى، وأن تبقى الحكاية انسيابية، عندها يصبح الأمر قاسيا. بيد أنه أمر مهم. كلما حاولت أن أجاور بين العناصر المتنوعة، مع أشياء تلفت النظر، كلما نجحت في الوصول إلى ذلك، وكلما أصبحت سعيدا. أحب المواد الغنية، التي تملك الكثير من الأشياء التي تشدّ، التي تأسر الانتباه. عندها يصبح الأمر أصعب، لكنه يصبح أهما للنحت.
÷ تشكل الشخصية الرئيسية، جيد (Jed)، وجها للفنان المعاصر، وهي تمرّ عبر تعاقب حالات. وعند كل مرحلة فنية، ثمة نوع من الثورة – بالمعنى الكوبرنيكي للكلمة – تبدع نفسها داخل نفسها؟
ـ على السبب في الانتقال من حالة إبداعية إلى أخرى أن يبقى غامضا بشكل عميق. في الواقع، أظن، أحيانا، أنه لا يمكننا شرح ذلك. حين انتقل إلى الإنساني، اعتقد جيدا بأنه لا يجيد التصوير اللوني. كان يعرف كيف يرسم. بيد أنه لم يكن يعرف كيف يحدد التصوير بالزيت أو بأي مادة أخرى. في المقطع الأول أصف مشهدا، بين جف كونز وداميان هيرست، نعتقد بأنه مشهد واقعي لغاية اللحظة التي نكتشف فيها بأننا ننظر إلى لوحة من لوحات جيد. كان بإمكاني الاستمرار بذلك. طرأ لي للحظة أن أترك هذا الإبهام مسيطرا على بعض الصفحات. أحببت جدا هذا الانزياح في أن يكون نقطة الانطلاق.
الرواية أقل شأناً
÷ فيما يتعلق بالفنانين اللذين تسميهما، لدي الإحساس بأن مشروعك يقدم بعض التشابهات مع مسيرة داميان هيرست: القبض على شيء، على موضوع، على موقف، وإطالته في حوض الواقع، ومن ثم تقطيعه إلى شرائح بمساعدة «لايزر» الكتابة؟
ـ لا أعرف. أعرف بشكل أقل داميان هيرست من جف كونز. ما يصدمني عند هذا الأخير، تحركه التعبيري الكبير. تراءى لي عصيا على التصوير، وهذا ما أعطاني فكرة اللوحة. يسمح لنا اللون، البورتريه، بأن نجري الخلاصة ما بين مختلف وجوه الشخصية. بيد أن «جيد» لا ينجح في رسم جف كونز، لا يعرف كيف يظهر تعبيره، ربما لأنه ليس رساما جيدا بما فيه الكفاية. أعتقد فيما يخص البورتريه، علينا أن نتوقف عن التقاط الصور وأن نعود إلى الرسم، لكن بالانحياز إليه. يعيش الفنانون اليوم في حرية مطلقة، يستطيعون استعمال كل شيء، كل أنواع الرسم والنحت.. يستطيعون إدخال الفيديو إلى عملهم، الصوت، البرفورمنس، الأشياء الغريبة التي لا تشبه أي شيء. عليهم، بالضبط، في لحظة ما أن يقوموا بخياراتهم، بأن يخاطروا. ربما كثيرا. ولهذا السبب أيضا اجتازوا حقبا كبيرة من الشك، فكروا بأن ليس بما يقومون به أي منفعة وبأنه من الضروري أن ينتقلوا، وبشكل جذري، إلى أمر آخر. الحرية أمر متطرف جدا. بكتابتي الرواية، أعرف بأني أقف داخل نوع لم ينفجر إطاره، حيث أتغذى من الشخصيات. وهذا، في النهاية، يملك جانبا مطمئنا.
÷ حتى وإن اعتبرت دائما أن الرواية فن أقل شأنا؟
ـ أجل، فهناك شيء آخر في الشعر. بيد أن الرواية هي النوع الأدبي الذي تحتاجه مجتمعاتنا. في حقبة ما، كانت الدراما، المسرح. اليوم، نجد ميلا للرواية أكثر من المسرح الذي يحتاجه العالم من أجل أن يقدم نفسه. الشعر كان دائما بعيدا عن هذه الإشكالية.
÷ ما عدا في القرن التاسع عشر؟
ـ كلا، إنه أمر آخر. للشعر ميزة أنه لا يستطيع أن يكون فكاهيا. لا مجال لذلك. لم أتطور مطلقا بالعلاقة إلى ما كتبته حول هذا الموضوع. لذلك، ليس لدي أيّ شيء مهم لإضافته حول هذا الموضوع.
÷ في نهاية الرواية، نتساءل إلى أين ستصل مسيرة جيد الفنية.. ثمة انطباع لدى القارئ بأن هناك نوعا من الذوبان في سيرورة الإبداع؟
ـ النهاية ليست فرحة على الإطلاق. لقد ابتعد جيد مارتن كثيرا عن نفسه. لديه الإحساس بأنه فقد الكثير من أهميته، من تماسكه. وبخلاف ذلك، اكتشفت مؤخرا، ما الذي أوحى لي بهذا الحل. جاء الحل عبر ذكريات القراءة. في نهاية رواية «دكتور فوستوس»، يشرح توماس مان، بأن الموسيقي ليفركون، قام بعكس ما قام به بيهوفن. ففي آخر حركة من السيمفونية التاسعة، هناك مادة اوركسترالية كبيرة، يبدأ فيها الصوت البشري، شيئا فشيئا، بفرض نفسه بشكل كامل. وما يقوم به توماس مان، هو العكس بشكل كامل: إذ يبدأ الصوت البشري بقد نفسه، ليصبح ضعيفا أكثر فأكثر، حتى لا يكاد يسمع، إذ تسحقه القوة الأوركسترالية. هذا التوصيف هو الذي أوحى لي بكتابة ذلك.لم أكتبه وأنا أفكر بذلك، بل عندما أعدت التفكير بالأمر، كان من البديهي أن يصدمني هذا المقطع وأن يتدخل في كتابة رواية «الخريطة والأرض». في حالة جيد، هذا ما يعاد إنتاجه حين نعيش في الريف ونجد نفسنا معزولين: تظهر لنا البشرية بالكاد موجودة، مثلما تصبح القدرة والنبات مهيمنة على كل شيء. إنه نمط حياة غامض ومتسلط، فالنبات مرعب جدا حين ننظر إليه.
اسكندر حبش
المصدر: اللسفير
إضافة تعليق جديد