محمد الماغوط في أسر الآيديولوجيا: حين يؤلف الحزب كتاباً للرد على نكتة!
حفظ الكثير من عشاق أدب محمد الماغوط وسخريته، إجابته عن كيفية انتمائه للحزب القومي السوري في مقتبل شبابه الأول، حتى صار هذا الجواب نكتة لاذعة من نكات الماغوط وعنوانا عريضاً من عناوين سخريته... فقد كان يكرر هذا الجواب في معظم حواراته، وبنفس التفاصيل تقريباً... إذ يقول:
(دخلتُ الحزب القومي من دون أن أقرأ مبادئه، كنتُ فتى فقيراً، وكانت لديّ حاجة إلى أن أنضم إلى جماعة ما، وكانت قريتي السلمية تضج بفكرة الحزبية، وكان هناك حزبان: 'الحزب القومي السوري' و'حزب البعث' وقد اخترت القومي السوري لأنه كان قريباً من المنزل، وفي المركز كانت هناك 'صوبيا' مدفأة، أي أن الجو كان دافئاً بينما المركز البعثي بلا صوبيا. لم أقرأ مبادئ الحزب وفي الاجتماعات كنت أنعس وأتثاءب. أذكر عندما كانوا يتحدثون عن المناقبية الحزبية كنت أفكر في المخدّة. عندما كان ينتهي البرد كنت أهرب من الاجتماعات... ومرة كلفوني بجمع التبرعات للحزب، فجمعت ما يكفي لشراء بنطلون وفررت).
لكن هذه النكتة الهجائية التي أطلقها الماغوط وظل يلوكها على مدار سنوات طويلة من حياته... مختصراً كل مزايا الحزب القومي السوري بـ 'صوبيا' أو 'مدفأة' تقيه برد الشتاء فقط، أزعجت على ما يبدو أوساط هذا الحزب وهزت حماة صورته المثالية، فانبرى أحد أعضائه من الباحثين لقضاء سنوات للتنقيب في كتابات الماغوط الأولى وجمعها من أرشيف صحف ومجلات متوقفة، كي يؤلف كتاباً يرد فيه على نكتة الماغوط، ويحاول إعادته أيديولوجياً وأدبياً إلى حظيرة الحزب الذي تبرأ منه وهجاه، فكان كتاب 'محمد الماغوط وصوبيا الحزب القومي' للباحث جان دايه، الذي صدر في بيروت مؤخراً، والذي يؤكد دايه فيه، عبر دراسة طويلة توزعت على سبعة فصول، وعبر نصوص مجهولة نبشها للماغوط، أن (صوبيا الحزب القومي التي نوه بها الماغوط أكثر من مرة، أمنت له الدفء الروحي وفجرت سخريته الكامنة).
فرار مع سبق الإصرار!
لم يكن ما قاله الماغوط إذن صحيحاً أو دقيقاً... فقد انتسب إلى الحزب القومي السوري عام 1949 بعيد اغتيال زعيمه أنطون سعادة... وكان أول مقال كتبه في مجلة (الدنيا) الدمشقية في عددها الصادر بتاريخ 29/9/1950 تحت عنوان عاطفي: (ذكراك في قلبي إلى الأبد) وفيه نعثر على صورة الحزبي المنتمي والمصطف وراء زعيم حزبه وذكراه، والذي يكتب فيقول: (فدتك روحي يا زعيمي، منك حياتي ولك حياتي، منك سلامي وعليك سلامي)... ثم يضيف في موضع آخر: (دعني يا لائمي في تقديس سعادة، أطلب السماح من ربي في مناجاة روحه الطاهرة، لأن روحي هي من روحه، والدماء التي تتغلغل في عروقه تنساب في عروقي، ومروءة الإنسان التي يحتضنها سعادة، منها مروءتي فأشعر كأنني مثل زعيمي سعادة) ثم استمر الماغوط في انتمائه للحزب القومي ودفاعه عن مبادئه، وراح يكتب مقالاته الساخرة الأولى في جريدة الحزب (البناء) في الخمسينيات ويهاجم خصومه بضراوة عرضت الجريدة والحزب للكثير من المآزق والمصادمات بسبب كتابات الماغوط وحماسته الزائدة أحياناً... بل ويمكن أيضاً وللمزيد من الإثبات أن نعثر على صورة للماغوط وهو يلقي التحية الحزبية كما فعل مؤلف هذا الكتاب... لكن ماذا يعني هذا كله؟!
إنه يعني ببساطة أن الماغوط لم يكن معتزاً ولا معتداً بماضيه الحزبي، ولا بانتمائه للحزب القومي السوري... وأعتقد أنه لو كان حياً وقرأ صفحات هذا الكتاب الذي يستميت في إثبات نسب محمد الماغوط الحزبي، لصرخ في وجه من يسأله رأيه بما قرأ، بنفس ملله وضجره التاريخي من الشيوعية والشيوعيين: (يا أخي كنت بالحزب... وكتبت بجريدته... ودافعت عنه... وبعدين بطلت ما عاد بدي... حلوا عني انتوا والحزب تبعكن... ليش لاحقيني لهون؟!)
الماغوط منتَج حزبي!
ثمة ميزة عظيمة للكتاب، وهي نبش بعض المقالات الساخرة الرائعة التي كتبها الماغوط في بعض صحف الخمسينيات ومنها جريدة (البناء) سالفة الذكر... والتي تعطي تصوراً واضحاً عن بداياته للباحثين والدارسين والمهتمين بأدبه... وحتى لقرائه الذين عشقوا أسلوبه الفريد في السخرية... وأعتقد أن الكتاب لو اكتفى بإعادة نشرها مع التنويه بمكان وزمان النشر وبعض الإيضاحات والهوامش التي تشرح المعارك والمساجلات التي أثارتها تلك المقالات في زمنها... إلى جانب القصائد المجهولة طبعاً ورواية (غرام في سن الفيل) التي ينشرها كاملة... لكننا أمام عمل يثير الاحترام والتقدير والاحتفاء، أكثر بكثير من محاولات جان دايه المستميتة لحشر كل مواقف الماغوط في إطار ايديولوجيا الحزب الضيقة، وتجيير معظم نجاحاته وتمايزاته لصالح المناخ الثقافي الفريد الذي أشاعه الحزب...
فالكتاب يبدأ بدراسة تقديسية طويلة عن (سعادة وأدباء النهضة) يحاول أن يثبت فيها أن أنطون سعادة كان من كبار نقاد الأدب... وأن أثره في أدب بلاد الشام، يكاد يفوق أثر طه حسين في الأدب العربي كله... فهو داعية من دعاة التجديد الأدبي، وهو من أخذ بيد الكثير من الأدباء الكبار الذين عاصرهم، وأنقذهم من الحيرة والتخبط والعدمية ودلهم على الطريق... ولا ندري ما علاقة هذا بالماغوط ـ موضوع الكتاب- إذا كان لم يلتق سعادة في حياته، وهو لم ينتسب إلى الحزب إلا بعد اغتياله وكان دون سن العشرين من العمر...
في الفصول التالية التي يدرس فيها جان دايه بدايات محمد الماغوط الشعرية، ثم السخرية في بداياته النثرية، تتواصل محاولات أسر الماغوط في قيود الايديولوجيا الحزبية الضيقة مجدداً، وتتوالى محاولات تصويره باعتباره (منتجا حزبيا) بشكل يائس... فعن قصيدة (السيوف العربية) المنشورة في جريدة (البناء) عام 1958 يقول دايه (ص 51) مفسراً كلمة نحن: (و'نحن' في القصيدة ترادف المؤمنين بعقيدة سعادة والمنضوين في حزبه ومنهم الشاعر) وعن التزامه بقضايا أمته ومنها القضية الفلسطينية يكتب دايه (ص 54) فيقول: (تأثر الماغوط بسعادة لجهة الالتزام بقضايا الأمة الاجتماعية والقومية وبخاصة مسألتها الفلسطينية... والتأثير هنا يقتصر على المضمون) ويرجع دايه غياب السخرية في كتابات الماغوط الأولى في مستهل الخمسينيات إلى ما يراه (اعتقاده ـ أي الماغوط - أن ذلك لا يتناسب مع اعتناقه عقيدة سعادة وانضوائه في حزبه) ص (55). وبعد أن يذهب الماغوط بفضل موهبته العظيمة بعيداً في الكتابة السخرية، يكتب المؤلف فيقول ان أدب الماغوط الساخر: (ولد في كنف الحزب وتفجر إبداعه وسخرّه بعد ثماني سنوات من انضوائه في صفوف الحزب). ص (67)
وهكذا... فالماغوط هبة الحزب القومي السوري، مثلما (مصر هبة النيل)... وهو كذلك إن التزم بقضايا أمته أم لم يلتزم... إذا سخر أم لم يسخر... وحتى الرقيب الذي أزعجته جرأة وسخرية الماغوط، تساهل معه خوفاً ورعباً من سطوة الحزب كما يقول جان دايه ص (59) إذ نقرأ:
(ولم يحذف المكتوبجي حرفاً واحداً من الرسالة التهديدية، ليس خوفاً فقط من سخرية الماغوط، ومن جدية السلطة الرابعة القوية والعريضة في لبنان... بل رعباً من الحزب الذي ينتمي إليه الكاتب)!
أي تسامح!
والشيء المثير للاستفزاز بعد هذا كله، أن مؤلف الكتاب يدعي في غير موضع أنه يحق للماغوط أن ينكر ماضيه الحزبي... لأن: (الساخر كالشاعر يحق له ما لا يحق للمؤرخ والباحث والفيلسوف) وأن أوساط الحزب القومي السوري لم تنزعج من نكتته التي أطلقها عليهم، بل تعاملوا معها باعتبارها (نهفة من نهفات الماغوط)... ولذلك يعتب جان دايه على شعراء مصر، حين شنوا هجوماً على الماغوط بسبب حواره لمجلة الناقد الذي قال فيه (في مصر ليس هناك شعراء... هناك سعاد حسني) وهو يعيد نشر المقالة التي كتبها دفاعاً عن الماغوط حينذاك، مطالباً المصريين بالتسامح معه... مثلما تسامح القوميون السوريون مع نهفة الصوبيا وقفشة البنطلون!
حسناً... إذا كان القوميون السوريون قد تسامحوا مع الماغوط حقاً... فلماذا هذا الكتاب الآن؟!
إنني أحيي الماغوط في قبره على انسحابه من الحزبي في مرحلة مبكرة من حياته... وأعبر مجدداً عن إعجابي العميق بنكتته الكاذبة التي ألف الحزب كتاباً كاملاً للرد عليها بعد موته... فلو لم ينسحب الماغوط منذ مطلع الستينيات... لألف الأستاذ جان دايه مجلدات، كي يتتبع مدى تأثر الماغوط في مسرحية (غربة) و(ضيعة تشرين) و(كاسك يا وطن) بأفكار سعادة... ومدى استلهامه لليوتوبيا الفاضلة التي كان يحلم بها سعادة في مسلسل (وادي المسك)... ولنبشوا تحت كل حجر، وخلف كل زاوية، وما بين كل سطرين أو أكثر، كي يثبتوا أن كل ما أبدعه الماغوط في حياته ما هو إلا نتاج إيمانه بعقيدة سعادة.. واحتضان الحزب له وانضوائه تحت لوائه
محمد منصور
المصدر: القدس العربي
إضافة تعليق جديد