السينما هل تعشق الأدب وتخونه؟
طُرِح كثيراً موضوع العلاقة بين الأدب والسينما منذ أن أخذت السينما تُغير على الروايات والمعاقل الأدبية المختلفة. ولطالما كانت التساؤلات والردود واحدة، تتمحور حول الحدود الفاصلة بين الإثنين، ومتى يكون الإقتباس أفضل من المصدر، او هل من الممكن أن يحصل العكس. لكن هناك مسائل أخرى أكثر إلحاحاً وأهمية من العودة الى تلك التساؤلات المستفيضة، من بينها وضع الثقافة العام وتأثيره في قرارات صانعي هذه الإقتباسات.
حين أنجز الكاتب آرون سوركين سيناريو فيلم "الشبكة الإجتماعية" The Social Network وقدّمها الى المخرج ديفيد فينشر وشركة "سوني" المنتجة، أوقد نار الخلاف حول مسألة تعتبرها هوليوود مصيرية، وفي الحقيقة تستطيع أن تودي بالمشروع الى العدم، حتى قبل أن يبدأ: عدد صفحات السيناريو وصل الى 162 صفحة. على نحو مبدئي، تُعادل كل صفحة دقيقةً من وقت الفيلم على الشاشة، ما يعني أن الفيلم سيأتي في 162 دقيقة. طبعاً بعض المشاهد تُكتب طويلة لكنها قصيرة، في حين أن هناك مشاهد أيضاً قد تبدو قصيرة ويستغرق عرض كل منها ثلاث دقائق او أربعاً. في كل الأحوال، ذلك لن يجعل الفيلم أقل من 150 دقيقة، وهذا غير مقبول بحسب الشركات الأميركية في فيلم يُعرَض خمس مرّات في اليوم، ولكي يتحقق ذلك يجب أن لا يتجاوز عرضه الساعتين.
السيناريو مأخوذ من رواية مقتبسة من الواقع وضعها بن مزريش تحت عنوان "البليونير الصدفة" The Accidental Billionaire عن مارك زوكربيرغ الذي يفترض أن يكون مبتدع الـ"فايسبوك". أقول "يفترض"، لأن زوكربيرغ، بحسب الرواية والسيناريو والفيلم، لطش الفكرة من أصدقاء له في جامعة هارفرد وسارع الى إطلاقها قبل سواه، ثم حارب من وقف معه، وأحدهم هو بن مزريش الذي انتقم بوضع ذلك الكتاب.
السيناريو جعل المخرج و"سوني" يدخلان جولات من النقاشات. وجهة نظر المخرج أن الفيلم لن يستغرق أكثر من ساعتين. لكن، والسؤال لـ"سوني"، كيف يكون ذلك، والسيناريو من 162 صفحة؟ جاء المخرج بالكاتب وجعله يقرأ السيناريو، مسجِّلاً الوقت الذي تقتضيه القراءة. وبما أن السيناريو قائم على طنّ من الحوارات، فقد تركّز رهان المخرج على أن الشطارة هي في كيفية معالجة المشهد (وحواره)، بمعنى أنه يقع على التصوير والتوليف (المونتاج) قدر كبير من تكثيف المشاهد من دون قص أو حذف أيّ مشهد. ربح المخرج رهانه. وأقنع "سوني". هكذا جاء الفيلم في ساعتين تماماً، وجاء فيلماً جيّداً أيضاً.
في عالم الإقتباس من الأعمال الأدبية، قليلا ما نجد مثل هذه المسائل مطروحة كجزء من هذا العالم. معظم ما يُطرَح، هو كيف يُقتبَس، وما هو الذي يمكن اقتباسه، وهل الأصل أفضل من النتيجة او العكس، وهل من حق الفيلم تغيير الرواية او من الأفضل له الإقتداء بها؟ هذه الاسئلة، وسواها، هي من عمر السينما، ونوقشت في العلاقة بين الرواية والمسرحية أيضاً: هل عليهما الإختلاف؟ أم عليهما التجانس؟ هل يمكن الإكتفاء بروح العمل الروائي لإنجاح المهمّة، ام أن على المسرحية، إذا ما تم اقتباسها من رواية، أن تلتزم النص قدر الإمكان؟ كلّها اسئلة محقّة، وإذ تنطلق فإنها تتوزّع في طيّات من النظريات، غالباً ما تجذب إليها فئة محدودة من المتابعين، على أساس أن معظمهم يوافق على أن السينما والرواية (كما المسرح والرواية) عالمان منفصلين، سواء أجاء النقل ملتزماً أم متحرراً.
أحقيّة هذه التساؤلات، التي سترد هنا على كل حال، لا تعني أنها متكاملة. في الحقيقة، ما تعكسه القصّة الواردة أعلاه بالنسبة الى واحد من أهم أفلام السنة 2010، أن هناك جوانب أخرى لعملية الإقتباس تلعب دورها الفعلي في كيفية معالجة الفيلم للرواية، تغيب عن المحللين المكتفين بالتنظير فحسب. هناك واقع تشي به هذه الحادثة لم يكن محسوباً، وهو أن أسلوب الفيلم (ذاك الذي طوّعه المخرج جيّداً) له علاقة بمسألة عدد الدقائق التي سيستغرقها العرض السينمائي. من هذه الناحية وحدها، فإن الحادثة ذاتها قد تنطبق، وهي لا بد أنها انطبقت، على مشاريع عديدة سابقة. وهي في هذا الإطار لا تختلف فيما لو كانت رواية "الحرب والسلم"، رائعة ليو تولستوي، هي المشروع المنوي إنجازه.
يمكن اعتبار رواية "الحرب والسلم" نموذجاً أوسع شأناً في هذا الصدد. فعندما تم إنجاز هذه الرواية الضخمة لليو تولستوي عام 1956 على يدي الأميركي كينغ ڤيدور بموازنة وصلت آنذاك الى ستّة ملايين دولار، عكس الفيلم قدر الإلتزام الذي يشعر بأن عليه القيام به حيال الرواية، إذ بلغت مدّة عرضه ثلاث ساعات و46 دقيقة. بعد إحدى عشرة سنة، أقدم المخرج الروسي سيرغي بونداتشوك على تأكيد حتمية نقل الرواية الكلاسيكية الشاملة حينما أخرج جزءين طويلين يسردان الرواية سرداً أميناً للغاية (ولو بإبداع فني وسينمائي عاليين) في سبع ساعات و11 دقيقة، وذلك بتكلفة تم تقديرها بـ 700 مليون دولار، ما يجعله أعلى فيلم من حيث التكلفة الى اليوم.
هذا ما يؤكد أن المسألة تتبع أيضاً الحريّة المتاحة أمام المخرج لتحقيق الفيلم الذي يريد. الفيلمان المذكوران وردا في وقت كانت السينما تعيش وضعاً انتاجياً يتقبّل المراهنة على مجيء جمهور واسع لمشاهدة مثل هذا الإقتباس الأدبي الكبير، على عكس أيامنا هذه، التي يشكّل فيها الجمهور الذي لا يعرف تولستوي ولا قيمة مؤلّفاته، النسبة الأقل التي لا تكفي لسد رمق التكلفة التي تعلو عشرات المرّات ما كانت عليه في الأربعينات والخمسينات والستينات معاً. طبعاً، نسخة بونداتشوك، هي حالة منفصلة في حد ذاتها من حيث أن الاتحاد السوڤياتي آنذاك شارك المخرج طموحه، والا لما تم إنتاج هذا الفيلم على هذا النحو مطلقاً.
الخاص والمقتبس
الحاجة الى نقل الأدب عرفت طريقها الى السينما منذ العقد الأول من القرن التاسع عشر. كانت السينما بدأت صوراً متلاحقة، ثم صوراً متواصلة مازجة بين الروائي والتسجيلي. فيلم الأخوين لوميير "خروج العمّال من مصنع لوميير" (1895)، ليس لكونه أوّل فيلم، بل لكونه أشهر فيلم أوّل، هو تدبير حال خروج عشرات العمّال لحظة فتح بوابة المصنع وتدفّقهم خارجه. ذلك الفيلم لم يكن تسجيلياً (او وثائقياً) كما هو مُشاع، ولو اتخذ هذا الشكل، إنما هو ترتيب غير تلقائي، ودليل ذلك وجود نسخ عدة من الفيلم، تختلف كلٌّ منها عن الأخرى في تفاصيل مختلفة. الفيلم الأول الفعلي، "مشاهد حديقة غراوندهاي" للويس أوغوستين لوبرينس (1888) تم أيضاً التدخل في تحريك شخصياته التي توهمنا بأنها تقوم بالسير في حديقة، لكن الحقيقة أن هؤلاء تحرّكوا بامتثال لتعليمات مخرج.
لا يعني ذلك أن النحو التسجيلي للسينما لم يكن موجوداً. فيلم لوميير "فلسطين" (1896) وفيلم "حاشية عربية في جنيف" (1897)، مثالان على مفهوم السينما الوثائقية كاملاً: كاميرا هناك لتنقل ما نراه من دون تدخل منها.
الحاجة الى سرد حكاية بلغة القصّاص، تداعت في أواخر العقد الأول من القرن العشرين، وسريعاً ما سنجد أن أولى محاولات اقتباس مسرحيات وليم شكسبير وردت في النصف الثاني من ذلك العقد: "كينغ لير" و"ماكبث" و"روميو وجولييت"، كلها طُرحت سينمائياً في دقائق يسيرة. لا تسل هنا كيف يمكن تلخيص العمل كاملاً الى بضعة مشاهد، لأن ذلك مردود عليه بأن السينما آنذاك لم تكن تتوقّع لنفسها أن تتجاوز نطاق الدقيقتين والثلاث دقائق من الصور. لذلك كان البذل هو اختيار ما يمثّل بداية الرواية الواحدة ونهايتها، وليس تجسيد أي شيء منها.
تلك الفترة كانت ضرورية للإنتقال الى المرحلة اللاحقة، التي وصل طول الفيلم فيها الى عشر دقائق ثم الى عشرين دقيقة، وبعد ذلك الى تأسيس الفيلم كحالة قائمة في ذاتها تُتناول حكاياتها عبر سبيلين لا ثالث بينهما: التأليف الخاص للسينما والإقتباس من مصدر آخر.
الإختلاف يكمن في أن محبّذي العالم الأدبي سيقولون لك: الكتاب هو الأساس. وسيؤكد المتشددون في حب عالم الرواية الأدبي ومناهج التعبير فيه أنه لا بديل من الكتاب، وأن الفيلم عاجز عن نقل إبداعه الى صور. في الجانب الآخر، هناك اولئك الذين يعتبرون السينما هاضمة لكل العوالم الأخرى. في تجارب عدّة، حاولت السينما التعبير عن حركة الضوء، وفي مرّات مماثلة حاولت أن تجد صورة للصوت، فكيف لا يمكن أن تجد صوراً للمعنى الأدبي؟
على ذلك، هناك تحدّيات كبيرة تواجه السينما إذا ما أرادت تحويل أعمال أدبية معيّنة. لطالما منّى المخرج ديفيد لين نفسه بعمل بصري كبير، من تلك التي اشتهر بها ("لورنس العرب"، "دكتور زيفاغو" و"جسر نهر كواي") يقتبسه من رواية جوزف كونراد "نوسترومو" المنشورة عام 1904. مشكلة هذه الرواية التي تم بالفعل نقلها الى الشاشة عبر مسلسل تلفزيوني ألماني - بريطاني مشترك عام 1996، هي أنها، كباقي أعمال كونراد، وصفية السرد وليست قائمة على الأحداث. في النهاية، توصّل لين الى قبول سيناريو يقص الحكاية التي تقع في مكان جنوب أميركي خيالي، مع شخصيات هي أكثر شخصيات الكاتب اكتمالاً وتبلوراً بين معظم ما كتب. لكن لين توفّي قبل أسابيع قليلة من بدء التصوير عام 1991.
رحلة الظلمات
السيناريو ليس متوافراً للمطالعة، لكن إذا كانت "نوسترومو" من أكثر الكتابات صعوبة في التنفيذ، وإذا كان ديفيد لين من أكثر المخرجين تحدّياً للصعوبات، فلا بدّ ان حلولاً قد واتتهما للتعاون. المسألة ليست في كيفية تحويل عبارات تتحدّث عن دواخل أحد بطليها الرئيسيين، بقدر ما هي فك طلسم أبعاد شخصياتها جميعاً. هذه الشخصيات حملت متاهات النفس الخائفة من خطواتها ومواقفها، من مراجعة أفعالها ومواجهة نتائجها. شخصيات يركبها الخيال والهوس، وتحاول أن تجد طريقها من دون أن تمد يدها الى شمعة تنير لها دربها. ليس فقط أنها صعبة النقل الى صور، بل هي صعبة القراءة بقدر ما هي صعبة الكتابة. الجمل طويلة، وما تصفه لا يخلو من التعميم، وهذا من شأنه ان يجعل التخصيص تحديّاً. لكنها تتميّز بجماليات لغتها وقوّة مدلولاتها وشعرية أبعادها وعمق ما يجول داخل تلك الشخصيات التي تحويها. في مراجعته النقدية، يصف روي ماكميلان ذلك العمق قائلاً: "مدى العمق الذي تتمتع به الرواية مثير للدهشة وهي بالغة التميّز بسبب القوّة الرمزية التي تحتوي عليها".
لكن إذا كان ديفيد لين وجد الوسيلة لمعالجة هذا الموضوع، كاسراً صلابة الأسلوب الذي كُتبت به (بعض المراجع يذكر أن كونراد وجد نفسه في مأزق حين كتب هذه الرواية بسبب من السقف الإبداعي المرتفع الذي وضعه لنفسه ونظراً الى حجمها وما حفلت به من صور شعرية ونثرية للعالم الذي أنشأته)، فإن المخرج فرنسيس فورد كوبولا طوّع رواية وصفية أخرى وضعها كونراد تحت عنوان "قلب من الظلام" فجعلها فيلما شامخا بعنوان "سفر الرؤيا... الآن" (1979).
إنها ليست رواية طويلة تلك التي نشرها المؤلّف كتاباً عام 1902 بعد نشرها على ثلاث حلقات في مجلة، قبل ذلك التاريخ بثلاثة أعوام. في الرواية، هناك البريطاني الذي يأخذ على عاتقه قبول مهمّة استكشاف في الكونغو. الظلام الذي في العنوان ليس واحداً، بل يندرج في ثلاثة مستويات تعبّر الرواية عنها تعبيراً رائعاً: هناك الظلام الذي يشمل الرحلة بأسرها. ظلام الغابة التي يشقّها المركب الذي يحمل فوقه الرحالة تشارلز مارلو، كما هو إسم الشخصية الأصلية، ثم الظلام الذي يعيش داخل تشارلز مارلو والثالث هو ظلام المهمّة التي يقوم بها، كظل لواقع الإحتلال الأبيض للكونغو، بل للقارة الأفريقية بأسرها.
في اقتباسه، وجدنا كوبولا يحافظ على تلك المستويات الثلاثة، حتى من بعد التحريف في المهمّة المسنودة الى بطله الكابتن بن ويلارد (مارتن شين). لقد طلبت منه الإدارة العسكرية الأميركية الإنتقال الى موقع الكولونيل وولتر كورتز الكامن في أعماق فيتنام عند الحدود الكمبودية، لتنفيذ مهمّة قتله. بن ويلارد عليه أن يتعامل خلال ذلك مع شخصيّته ونظرته الى الأمور. يبحث في نفسه وفي تاريخه الشخصي والعسكري بلا ثقة، وحين يلتقي والكولونيل (لاحظ أن الكابتن ويلارد أصغر رتبة من الكولونيل كورتز ما يجعل تنفيذ المهمّة أكثر صعوبة واستدعاء للخروج من الزي العسكري الى الشخصية المدنية واستحالة ذلك في الوقت ذاته)، فإن ثقته غير المعول عليها أساساً تنزلق الى حيث لا قرار. طريقته الوحيدة في تنفيذ المهمّة لن تكون تنفيذ الأمر المناط بعملية قتل او اغتيال، وفق منهج عسكري او حتى سياسي، بل تنفيذ المهمّة باللجوء تماماً الى حس القاتل في ذات كل شخص منا.
طبعاً، الحرب الفيتنامية ذاتها التي تواكب مشاهدها وفصولها الفيلم من مطلعه الى نهايته، هي المستوى الثالث لذلك الظلام المعبّر عنه في الرواية. ما يثبته الفيلم هو أنه في الإمكان الخروج عن الرواية والبقاء فيها في الوقت نفسه. الحفاظ على الثابت (المصادر النفسية كما العمود الفقري للحدث او القصة) والتخلّي عن التفاصيل لصالح الترجمة الذاتية من ناحية، والترجمة الصورية إذا لم يكن هناك من بد.
في المنهج نفسه نجد "الطريق"، الرواية المستقبلية التي وضعها الكاتب كورماك ماكارثي التي تم تحويلها فيلماً من إخراج جون هيلكوت وبطولة فيغ ومورتنسن والطفل كودي سميت- ماكفي.
حكاية تقع بعد كارثة كونية (ولو أن الأحداث تقع في الولايات المتحدة) ولا تلتفت الى ذكر الأسباب: ربما تكون دماراً ناتجاً من كارثة طبيعية او آخر من فعل حربي شبه نووي. ما يصفه الكاتب، الذي يميل بدوره الى الوصف أكثر من السرد القصصي في كل أعماله، هو عالم من المدن المدمّرة والغابات المحروقة والسماء الرمادية، حيث لا الشمس ساطعة ولا المطر هو ماء وحده. البرد قارس والإنسان انتقل الى العيش على ما تبقّى من موارد. لكن الرواية، والفيلم وراءها، ليس عن آكلي لحوم البشر، بل هم خطر متمثّل ضمن أخطار. ما يعمد اليه ماكارثي هو البحث في العلاقة العاطفية الوحيدة الباقية بين بطليه: رجل بلا إسم وإبنه (بلا إسم أيضاً)، ثم بينهما وبين ذكرياتهما قبل الكارثة.
على الرغم من أمانة الإقتباس الى الشاشة، الا أن ذلك لم يمنح الفيلم الا الجوهر الأدبي. المخرج أنجز فيلماً جيّداً لكنه لا ينتقل الى ذلك المستقبل برؤية خاصّة به، كما فعل، على سبيل المثال فقط، ستانلي كوبريك حين أنجز "2001: أوديسا الفضاء" (1968) عن رواية آرثر سي كلارك. كذلك لم تكن جاهزة لعالم من الدهشة المستقبلية، على غرار رواية لكاتب خيالي-علمي آخر معروف هو فيليب ك. ديك عنوانها Blade Runner.
أخرج القصّة المنتقلة ايضاً الى المستقبل فوق الأرض ريدلي سكوت عام 1982، منجزاً واحداً من أهم أعماله، ولو أن منحاه هو أيضاً ليس ذاتياً. ما حققه المخرج في هذه الحال، نقلة كاملة لحكاية، وردت تحت عنوان "هل يحلم الأندرويدز بالغنم الإلكتروني؟"Do Androids Dream of Electronic Sheep؟
قبل "الطريق" بعامين، أنجز الأخوان جووال وناتان كووان "لا بلاد للمسنين"، المأخوذ أيضاً عن رواية لكورماك ماكارثي (بالعنوان نفسه). التنفيذ هنا أمين للنص ومتدخل في الشخصيات. الأخوان المعروفان متيّمان بالشخصيات التي تمسك بزمام الحياة والموت. هي شخصيات شريرة في كل حال، لكن هناك تجسيداً يستغني عن ملكيّاتها الفردية ويضمّها الي شخصيات أخرى للأخوين المذكورين، تمتثل لقسوة المعالجة السينمائية التي يوفّرها هذان الشقيقان.
مقارنات ومراحل
إذ لا يمكن هنا الإحاطة بأكثر من ستة آلاف فيلم من الإقتباسات الروائية أنجزتها السينما في تاريخها، الا أن تعدد النماذج هو إثراء لحلقات النقاش حول العلاقة بين الأدب الروائي (وأدب السير الشخصية أيضاً) والسينما.
من المهم معرفة أن الفصل بين منهجي الكتابة السينمائية (المكتوب خصيصاً والمكتوب اقتباساً)، لا يعني أن أحدهما في حد ذاته أفضل من الآخر. ألوف الأفلام المكتوبة خصيصاً الى الشاشة، هي ترجمات رائعة لإبداعات الذات والمخيّلة الإنسانية، كما أن مئات الإقتباسات استحقّت كل العناء الذي بذل لإعادة تقديمها في حيّز ونطاق جديدين، ضمن شروط الصورة السينمائية.
في الوقت نفسه، وعلى عكس السائد، فإن نقل الروايات الى الشاشة لا يعني إهداراً لقيم الكتاب، أأحبّ المؤلّف أن يرى أعماله وقد انتقلت الى السينما أم لم يحب. هناك حالات كثيرة كان فيها الفيلم أفضل من الأصل. سنجد في هذا الصدد أن "أبوللو 13" عن رواية جيم لوفل وإخراج رون هوارد، تترك إنطباعاً أعلى حين تشاهَد على الشاشة وليس على صفحات الكتاب. "الرجل الفيلم" عن رواية فريدريك ترفيز، تجد لنفسها عالماً جديداً مثيراً على يدي المخرج ديفيد لينش عام 1980. وإذا بدت رواية "ميونيخ" لجورج جوناس، إعادة ترصيف لأحداث ميونيخ 1972، فإن ستيفن سبيلبرغ تجاوزها الى هيكلة سياسية ذات أبعاد في فيلمه تحت العنوان نفسه عام 2005.
الترجمة من الورق الى الشاشة، إذ لا تعني منح الفيلم قيمته الفنية، الا أن لها بالتأكيد جوانب أخرى إبداعية وثقافية تزيد من ثراء القراءة الفيلمية نفسها. الناقد في هذا الخصوص، يجد مطلوباً منه لا الإكتفاء بذكر المصدر ونقل الكلمات الضرورية عنه، بل العودة الى الكتاب لمطالعة مزدوجة: الأصل لذاته، والطريقة التي تم بها تكوين الفيلم. تالياً كم من الأصل انتقل، وكم منه بقي. كم ارتحل طوعاً الى شكل تعبيري آخر، وكم منه رفض، ملتزماً شكله الأصلي.
في موسم الجوائز الذي نمر به في كل سنة في مثل هذه الأيام، يتلقّف بعضنا (كهذا الناقد كاتب هذا البحث) الكتب الأصلية والسيناريوات النهائية كما الأفلام ذاتها، وذلك تمهيداً لترشيحها لجوائز الجمعية السينمائية التي ينتمي إليها (بالنسبة الى الناقد هي "جمعية هوليوود للصحافة الأجنبية" موزّعة جوائز الـ"غولدن غلوب" السنوية). بذلك تصير لديه صورة كافية ووافية عن الأصل والمادة المكتوبة عنها ثم المادة المصوّرة، ما يفتح مجالات للمقارنة لا تنتهي.
هذا متوافر الى حد مع النصوص الأدبية، حتى من دون السيناريو المكتوب كوسيط. نظرة الى فيلم رومان بولانسكي الممتاز "أوليڤر تويست"، تكفي ليدرك المطّلع حجم الجهد الممارس لنقل عالم الأديب تشارلز ديكنز وشخصياته وملامح الفترة الى الشاشة.
في الحقيقة، فإن الصور المتعددة للحقيقة الواحدة تختلف. الرواية نفسها نقلت نحو 25 مرّة من العام 1910 الى اليوم. لكن إذا ما استبعدنا تلك الأعمال القصيرة الأولى، بل حتى تلك التي لم تدخل التاريخ كأعمال أساسية عن تلك الرواية، او حتى عن أي جهد أدبي لديكنز، لوجدنا أن نسخة ديفيد لين عام 1948 هي أيضاً أمينة للمصدر ومحيطة بالأجواء ومحترمة للنص الأدبي فيها. على رغم ذلك، هي ترجمة تختلف تماماً في كيانها السينمائي عن تلك التي وفّرها رومان بولانسكي. هذا يصل بنا الى الآتي: هل هناك نص يسود، وأي نص هو هذا: الرواية الأدبية أم السيناريو وما يتبعه من تنفيذ؟
عالم بلا صورة
في عالم قائم على النص المكتوب والمقروء (نثراً او شعراً) كعالمنا العربي، فإن احترام ملكية كاتب النص تبدو أهم، في الكثير من النماذج، من الحرية الممنوحة للمخرج إذا ما اختارها. في هذا المجال تكفي الإشارة الى فيلم "عصافير النيل" (2009 ) لمجدي أحمد علي، عن رواية إبراهيم أصلان. رواية غنية بمواقفها ودلالاتها الإجتماعية والعاطفية والنفسية، وجد المخرج نفسه حيالها، مطالَباً بنقل النص بكل ما يحمله من أطروحات. هذا لا يمكن تخطئته الا من زاوية أن الفيلم جاء مثقلاً بهذه الرغبة أكثر مما هو مستفيد منها. الفارق هو أن تكون لدى المخرج تلك الإرادة للخروج بنص سينمائي جديد يتيح لبعض الأطروحات التي يريدها، او لمعظمها او لها كلها.
لكن هذا النموذج ليس فريداً من نوعه في سينما نجد أن النسبة الأهم من إنتاجاتها هي تلك المقتبسة من روايات وليست تلك المقتبسة من نصوص مكتوبة خصيصاً. أعمال نجيب محفوظ كما ترجمها صلاح أبوسيف وعلي بدرخان وأشرف فهمي، تكفي لملء كتاب في الموضوع. لكن هناك أيضاً أعمال أخرى لعبد الرحمن الشرقاوي ويوسف السباعي وإحسان عبد القدوس وعلاء الأسواني وعبد الحميد جودة السحّار، ولكثيرين سواهم لا تقل أهمية في نطاق البحث عن كل جوانب العلاقة بين الأدب والسينما. لكن ما تؤكده في مجملها، حقيقة أن اعتماد الأدب كنص مسبوق يعود الى مكانة التاريخ الأدبي عند قارئي العربية في كل مكان وفي مصر على وجه الخصوص. المسألة الموازية هنا، هي أن هذا الإعتماد على الرواية حالفه الحظ حين كان المخرج قادراً على الإتيان بموازٍ فني من الحجم والمكانة والقيمة ذاتها او أكثر. أما حين تسقط التجربة (وفي العادة بسبب سوء التصرّف حيال النص الأصلي وقلّة حيلة كاتب السيناريو او المخرج او كليهما)، فهي تسقط بقوّة كاشفةً عما يحلو للبعض تفسيره بقصور السينما او عجزها عن فعل اقتباس أمين وجيّد.
لكن المسألة ليست، كما ورد في نحو آخر، مسألة أمانة. الأمانة نفسها قد تفيد أفلاماً (كما الحال مع ثلاثية نجيب محفوظ الشهيرة حين تم نقلها الى الشاشة)، وقد تضر أفلاماً أخرى ("عصافير النيل") ولو الى حد، والعكس صحيح. المسألة هي في أن الحاجة الى الإستناد على حكاية أدبية، تمنع أحياناً من رؤية الضرورة الكامنة في تفليم الأصل بمعطيات الصورة واللغة السينمائية، سواء أكان الإقتباس أمينا أم غير أمين.
على جدارات هذا كلّه، تترعرع مشكلات أخرى تتصل بالآتي: كم تشكل السينما حالة منفصلة وأساسية لا علاقة لها بالفنون والآداب وأشكال التعبير الأخرى؟
سيقال لك إن السينما هي نتيجة كل هذه الأشكال، وهذا ليس صحيحاً، على أساس أن التمازج لم يتم فوق المسرح وحده او النص الأدبي وحده لكي ينتج منه سينما. وسيقال لك، وقد قيل مراراً وتكراراً، إنها فنّ مؤلّف من فنون أخرى وذلك على نحو حسابي مثل رقم زائد مقسوم على ثلاثة يساوي رقماً آخر تضربه في خمسة وتطرح النتيجة من عشرة فيأتيك الرقم النهائي.
الحقيقة هي أنها فن قائم في ذاته، ونسبة المصادر والمرجعيات الأخرى فيه ليست أقل او أكثر من نسبة كل شكل تعبيري آخر، بالعلاقة مع أشكال التعبير المختلفة. الكاتب قد يقتبس المشهد الطبيعي (والبعض بات يقتبس الشكل السينمائي) او البيت الشعري كما قد يفعل (بل بكل تأكيد) الكاتب المسرحي مستنداً الى النثر او الشعر او التأليف الموسيقي، الذي هو بدوره استلهام للفنون والأشكال التعبيرية المختلفة. على ذلك، لكل هذه الأشكال لغاتها التعبيرية المنفردة. كذلك هي السينما.
الحاصل في وضعنا العربي، أننا لسنا سينمائيين بعد بالشكل الكافي. او في تحديد أوفى: وصلنا الى أن نكون سينمائيي التفكير والمنهج في فترة الستينات والسبعينات، ثم عدنا الى الوراء بعدها، واليوم طردت السينما الحديثة في نقلة معاكسة النصَّ الأدبي، من دون أن تتمتّع بالرؤية البصرية الفنية، ولو من باب البديل.
تعود الحاجة الى تأصيل الوضع الثقافي والجماهيري بأسره: كم مدى علاقته مع النص الأدبي، وما هي طبيعة علاقته بالعمل السينمائي؟
وجهة بحث لا تعد بمفاجآت لأن الزخم الحالي من الأفلام العربية التي تطالعنا، إذ تبتعد عن الأدب فإنها تنحني للموجة الحاصلة من ابتعاد المشاهدين عن القراءة. هذا ليس عذراً للسينما ومنتجيها وصانعيها، بل إدانة للجمهور كما للسينمائيين انفسهم. وهذا يعيدنا الى الكيفية التي عالج فيها المخرج الأميركي ديفيد فينشر فيلمه "الشبكة الإجتماعية" حين واجهته الشركة المموّلة بمخاوفها من أن يتجاوز الفيلم مدّته الزمنية المقبولة. العامل الإقتصادي حدد طول الفيلم (وليس للمرّة الأولى)، لكن العامل الإقتصادي نفسه هو الذي سمح للفيلم بأن يُنتَج!
محمد رضا
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد