أوبيـر حـداد.. أصــدر أكثــر مــن ثلاثيــن كتابــاً ولا يــزال يكتــب فــي الظــل
أوبير حداد، كاتب فرنسي، ولد في تونس، من اصول مختلفة، ليغادرها وهو في الخامسة من عمره، كي يقيم في باريس. شاعر وروائي، له أكثر من ثلاثين كتابا، لكنه يبقى بعيدا عن الإعلام، متفرغا للكتابة. حول تجربته الطويلة، حاورته مؤخرا مجلة «لو بوان» الفرنسية، حيث تطرق إلى العديد من الموضوعات، هنا ترجمة لأبرز ما جاء في هذا الحوار.
÷ أصدرت أكثر من ثلاثين كتابا، وقد صدر لك مؤخرا مجلدان يحويان أقاصيصك كلها، ومع ذلك لا نشاهدك مطلقا في وسائل الإعلام، كما لو أنك تكتب في الظل. هل تعتبر نفسك «كاتبا ملعونا»؟
} لقد وضعوني أحيانا بين هذه الفئة من الكتاب. من دون شك، ذلك عائد إلى سبب أنه كان، ولفترة طويلة، من الصعب أن يصنفوني. تم اعتباري كاتبا مغاربيا في المكتبات، بيد أن تونس لم تطالب بي أبدا، ولا فرنسا ولا أي أحد. ومع ذلك لم أختص بتاتا في أي فولكلور. قصرت حياتي على الحب الخاص للغة الفرنسية، بعيدا، بالتأكيد، عن العلاقات الاجتماعية. بيد أنه ليس لي سوى حياة واحدة، لست «كاتبا ملعونا» وأرفض كشيطان جميل هذه اللعنة.
÷ ولدت في تونس، حيث بدأ «الربيع العربي»؟ كيف تنظر إليه؟
} في استشرافي أنا المنفي، هذا التطلع إلى المساواة بين حقوق شعب بأسره، وعلى رأسه النساء والشبان، يجعلني أحلم بهذا الموزاييك الجميل العائد لهويات الكوسموبوليتية.
÷ وما رأيك بالدور الفرنسي؟
} على فرنسا التي تحاول أن تلحق، في ليبيا، بمساعدتها العمياء بالدكتاتور التونسي وبترتيباتها الصغيرة مع رجال الأعمال، أن تنظر حقا إلى التطلعات السلمية للرجل العربي والرجل الإفريقي. في راوندا – حيث ذهبت إلى هناك العام الماضي – كما في الجزائر، نرفض اليوم الفرانكوفونية بسبب هذا العناد الكولونيالي الحامي الوطيس، المتنكر بزيّ مساعدات الحماية. ما نحن في حاجة إليه في تونس، كما في جميع أرجاء إفريقيا الفرانكوفونية، هو هذا التبادل المتساوي، الذي يمر عبر الاعتراف بأخطائنا التاريخية، وبالتأكيد ليس عبر تعجرف النخب الذي يقود إلى عمى مجرم أحيانا، ساعة الأزمات، طالما أن هذه النخب تدخل في لعبة المساواة مع السلطة الراهنة التي تخدمها لكي تؤمن لها مصالحها.
هويات هجينة
÷ حزت جائزة الفرانكوفونية للقارات الخمس عن كتابك «فلسطين». ما هي الفرانكوفونية؟
} إنها على الأقل 200 مليون متكلم في العالم، وبالطبع أكثر من هذا عدد المستمعين. إنها غنى لا مثيل له، لأن صوتا يتخطى حاجز الصمت في الكاراييبي، في المغرب، أو في أفريقيا، يعيد إحياء اللغة الفرنسية خارج أي انتماء. وهذا هو واجب الدولة الفرنسية في الحفاظ وفي تطوير حيوية اللغة الفرنسية في العالم بأسره. عليها أن تبحث عن إطالة أمد اللغة الفرنسية وثقافتها، وهما أمران غير خاصين بها، لأنهما أفضل هبة أبدعها العالم، ثمة فضاء من الإبداع العالمي والحرية ينبثقان منهما، وفي كل لحظة، هذه الخلاسية الجديدة، النقدية، الحية، التي تهرب منا، لكن التي تنقذنا في الوقت عينه.
÷ أي دور يلعبه في رؤيتك للعالم وفي أدبك هذا الانتماء المزدوج، اليهودي – البربري، وبخاصة، وبشكل أعمّ، في مسألة الهوية؟
} ليست هناك سوى هويات هجينة، محلومة، غير منتظمة مثل الغيوم. أكتب بوجهين معلقين رقبتي، مثل جانوس، واحد باتجاه المتوسط، والثاني باتجاه الغرب. وهذه الثنائية ليست سوى حوار لانهائي لا يتوقف عن مساءلتي.
÷ رويت – في أحد كتبك – عن وصولك إلى فرنسا حين كنت في الخامسة من عمرك، كما عن الاستقبال الذي كان يلقيه المهاجر. اليوم، يثير هذا المهاجر الرعب. من أين يأتي هذا الخوف اليوم من الآخر، الذي يبدو مرعبا أحيانا؟
أتذكر والدي الفقيرين والأميين، العائلة التي رحلت مع حقيبتين وثلاثة أولاد صغار في مركب صغير جدا. هؤلاء الأولاد أصبحوا «صاحب مكتبة»، فناناً تشكيلياً، وكاتباً. الهجرة، هي بداية، أي لا تحتل مكانا بل على العكس، تبدعه. ليس علينا أن نخشى الهجرة في داخلنا، بل الشروط التي توضع حولها، الرفض والاحتقار، مخيمات اللاجئين، المريضة بالضرورة، التي أصبحت ضواحي شعبية.
محترفات كتابة
÷ كتبت الكثير لدرجة أننا نتخيل أنك مربوط إلى طاولتك. في حين، غادرت هذه الطاولة كي تكسب قوتك عبر إشرافك على بعض محترفات الكتابة كما في العمل الاجتماعي. من تجربتك هذه، الماضية والحاضرة، برأيك ما يمثل الكاتب راهنا في المجتمع الفرنسي؟
} كنت معلما ومن ثم مربيا، حيث عملت مع المهاجرين الألبان والأتراك وغيرهم، ابدعنا محترفات كتابة، وبدا لنا الأمر لنا جميعا مليئا بالوعود. على الكاتب، وفي الوقت عينه، ان يحتفظ بمسافة كي يشهد على «قفا» الأشياء وكي يبقى في مقدمة الساحة. حين يكتشف المرء عدم قدرة التكنوقراط السياسيين وحيرتهم أمام الكوارث كما في خليج المكسيك أو فوكوشيما/ على سبيل المثال، لا بد من أن يقول المرء لنفسه إن غالبية الكوارث تملك نقصا قاسيا في المخيلة، إن اللواتي والذين يبدعون العوالم لديهم الشيء الكثير ليقولوه حول هذه العالم.
÷ في روايتك «فلسطين» هي الرواية التي تركت فيها الخيال، خيالك، لتضع مكانه الواقع والأحداث الراهنة. لماذا شعرت بضرورة الكتابة حول الصراع العربي الاسرائيلي؟ وما الذي يوحي إليك اسم «فلسطين إسرائيل»؟
} يمزقني، منذ زمن طويل، هذا الكره والرفض الذي يعمي اليهود والمسلمين في هذا المكان من العالم! لقد عاش أخي مايكل، الذي انتحر عام 1979، كل هذا التمزق. إن الانقباضات العائدة للهوية تحيل اليوم «فلسطين إسرائيل» أمرا غير ممكن. نأمل بدولتين مستقلتين ترتبطان بعضهما ببعض بمشروع صلح مثالي وحقيقي. فيما يخص المستوطنين، إن رغبوا في البقاء فعليهم أن يقبلوا بمواطنيتهم الفلسطينية، من أجل إنسانية متصالحة، تماما كفلسطينيي اسرائيل في قلب دولتهم.
÷ إلى أي حد يمكن للروائي أن يعمل بحرية مع التاريخ، مع الحدث الراهن، وبأي هدف يعمل على ذلك؟ أفكر في روايتك الجديدة التي تقع أحداثها في أفغانستان؟
} لدى الروائي كل الحقوق والواجبات التي يمنحها له المتخيل. المتخيل ليس سوى تساؤل عما يسمى الواقع، والروائي، من جهته، يتحدى الممنوعات. روايتي الجديدة «زهرة الخشخاش» تذهب إلى أبعد مما طرحته في «فلسطين» حول هذا التساؤل.
خوف ورغبة
÷ لا تمضي سنة من دون أن يصدر لك كتاب. لو أخذنا معن اسمك بالعربي، الحداد، ما الذي تريد صهره، من كتاب إلى آخر، منذ ثلاثين سنة؟
} تنقذني الكتابة، في كل لحظة، من هذه الكآبة المقدسة. الغريب في الأمر أن الحداد يبحث عن لون، عن تدرج ما. كل كتاب هو بمثابة جواب ضد المستحيل. حين كنت في العشرين، نجوت من الموت لأني بحثت عن الحقيقة. جربت كل الحيل من أجل أن أجتاز المظاهر، وبأعجوبة رجعت من هناك بعد تجربة أساسية جعلتني على تماس مع ما يجعل العالم مستديرا. مذ ذاك، أحاول عبر الكتابة أن أجد هذا «الوحي» بدون أي قياس مشترك، هذا الجمال الصاعق. أعرف بحدسي أن الكتّاب الذي جعلوا قلبي يخفق مروا من هنا: دانتي، ادغار الن بو، جيرار دو نرفال، رونيه دومال، مالكوم لوري...
÷ لا تنشر الكثير من القصائد لكن الشعر يبقى حاضرا عندك. أين هو الشعر؟ هل تضعه قبل كل شيء؟
} الشعر هو أصل الكلمة، غموضها. حتى في خطاب وزير، من وجهة نظر الغموض هذا، يقع على تماس مع الشعر هذا. في السرد، أحب ان أفتح القصيدة على القصة المشتركة، على الواقع المتعدد. لكن ما من شيء يساوي رامبو أو مالارميه في الجمال، سوى باخ في الموسيقى.
÷ يقف مناخك دوما على تخوم الخوف والرغبة بشكل خاص، وهو قريب من كل التقاء. مما تخاف يا هوبير حداد؟ وما الذي يرغبه الكاتب الذي أنت عليه؟
} الخوف والرغبة يستعجلان كل عملية لقاء. شخصياتي كتبي عبارة عن تائهين مسيرين بقدر غريب. بدون شك إنهم يخشون من رغباتهم ويرغبون في ما يثير فيهم الخوف. ثمة صاعقة ترافقهم على درب الحقيقة. الكاتب الذي فيّ يحب أن يؤمن بما يصنعه وأن لا يكون أكثر شخصياته ضياعا.
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد