استراتيجية «أفغنة» المنطقة العربية
تشير الدلائل الى ان الولايات المتحدة ـ فيما تبدو شديدة الحذر بشأن ما يمكن أن يسفر عنه التدخل المباشر في سوريا لتحقيق أهداف مباشرة ـ تستعد لتنفيذ استراتيجية جديدة تستند الى تحالف عسكري صريح مع التنظيمات الدينية التي سبق أن كانت في حالة حرب مباشرة معها.
ان الولايات المتحدة تتردد بصورة لم يبد لها مثيل من قبل في التدخل المباشر في سوريا. وقد لجأت لهذا السبب الى اتخاذ موقف الاكتفاء بعدم الحسم في سوريا. فضلت استمرار القتال الراهن بين التنظيمات المتطرفة التي ترفع ألوية الدين، وقوات النظام السوري الذي أظهرت الولايات المتحدة بوضوح لم يسبق له مثيل العداء الصريح له باعتباره نظاماً مناوئاً للهيمنة الاميركية على المنطقة العربية وفي الوقت نفسه نظاماً معادياً لإسرائيل وأهدافها التوسعية العدوانية الصهيونية في هذه المنطقة.
تشير الدلائل الى ان الولايات المتحدة تسعى لتوسيع نطاق الحرب التي تخوضها التنظيمات الدينية لتشمل ما هو أكثر من سوريا. بل ان الدلائل تشير الى ان الولايات المتحدة تريد توسيع نطاق هذه الحرب بحيث تتوسع معها لتشمل البلدان التي لم تدخلها ثورات ما أُسمي «الربيع العربي». أكثر من هذا ان الولايات المتحدة تريد توسيع استراتيجية التحالف مع التنظيمات الدينية لتشمل البلدان التي حقق فيها «الربيع العربي» أهدافه باستيلاء التنظيمات الدينية على السلطة. وتشمل هذه البلدان مصر وتونس وليبيا.
واذا أردنا استخدام التعبير الناطق فعلا بأهداف الاستراتيجية الاميركية الجديدة فإن تعبير «الأفغنة» هو الانسب والاقرب الى وصف ما تسعى اليه الولايات المتحدة.
لقد سبق للولايات المتحدة ان تحالفت مع تنظيم «القاعدة» في زمن القتال ضد الوجود العسكري السوفياتي في أفغانستان في عقد الثمانينيات من القرن الماضي. ويتصور الاستراتيجيون الاميركيون في الوقت الحاضر ـ في غياب اية استراتيجية للتدخل المباشر ـ ان استعادة التحالف الكامل الشامل مع تنظيم «القاعدة» ليس مستبعدا. فإنها ما دامت قادرة على مد هذا التنظيم بالسلاح والاموال، سواء مباشرة أو بطريقة غير مباشرة باستخدام قدرات السعودية وقطر والامارات والبحرين على توفير هذه الاسلحة والاموال، فإن العودة الى التحالف مع «القاعدة» وإظهار القبول لعقائدها واستراتيجيتها ليس أمرا مستحيل التنفيذ.
بل ان الولايات المتحدة درست بعناية وأظهرت كل ما يلزم من النيات الحسنة تجاه التنظيمات الدينية الحليفة للقاعدة، مثل تنظيمات الاخوان المسلمين والجهاد الاسلامي وغيرها. واعتبرت ان تجربة تأييدها ودعمها المادي والعسكري لهذه التنظيمات في قتالها في سوريا دليل كاف على جدية هذا التحالف وإمكانية السير به نحو أهدافه في المنطقة العربية. حدث هذا بالنسبة لمصر وتنظيم «الاخوان المسلمين» الاكبر في العالم. وهو يحدث ايضا في تونس وفي ليبيا. ويبدو ان القادة الاميركيين في اتصالاتهم بزعماء هذه المنظمات، سواء منهم من استولوا على السلطة أو الذين يسعون لتحقيق هذا الهدف قد نجحوا في إقناع تلك التنظيمات ذات الطابع الديني بوحدة الهدف بينهم وبين الولايات المتحدة في مواجهة النظم «المستبدة».
ان الاميركيين في اتصالاتهم الحثيثة مع زعماء هذه التنظيمات يستخدمون موقفهم العدائي تجاه سوريا كمعيار لإظهار أقصى النيات في التعامل مع المنظمات المساعدة لمقاتلة نظم الحكم، حتى تلك التي تبدو قريبة من الولايات المتحدة استراتيجياً واقتصادياً وسياسياً. وبطبيعة الحال، فإن تجربة التحالف بين أميركا و«القاعدة» ضد الوجود العسكري السوفياتي تلعب دورا مقنعا تماما في التقريب بين التنظيمات المتطرفة والولايات المتحدة. أما حرب أفغانستان الحالية فيبدو انها تغيب عن اهتمامات الاميركيين وحلفائهم الجدد لمصلحة الاهداف المشتركة بينهما.
ولا شك بأن التعاون الوثيق القائم الآن بين الولايات المتحدة والنظام الاخواني المسيطر الآن في مصر يؤدي دورا فعالا في إقناع الاطراف التي تعتمد على أولوية النظام الاخواني في مصر لمصلحة الولايات المتحدة وأفكارها الاستراتيجية الجديدة. فإن ثقل مصر يؤدي دوره لمصلحة الاستراتيجيين الاميركيين. وبالتالي يتضح ان القادة الاخوانيين في مصر غير مقتنعين بأي حال من الاحوال بأن تحالف الاميركيين مع التنظيمات المماثلة في بلدان مثل سوريا والاردن وتونس وليبيا وغيرها، يمكن ان ينقلب عليهم، اذا بدا أي قدر من التعارض بين الاهداف الاميركية وأهداف «الاخوان المسلمين» حكام مصر الحاليين. ولا شك ايضا بأن حجم وسعة الخلافات القائمة الآن بين اميركا وحلفائها في سوريا تجبر الولايات المتحدة على ان تضع أفضل الشروط للتحالف بينها وبين هذه التنظيمات التي كانت تود أن ترى الولايات المتحدة تؤدي دورا أكبر وأكثر تكلفة ضد النظام السوري. ان عزوف الولايات المتحدة عن التدخل المباشر في سوريا لمصلحة التنظيمات الدينية يقلص أمل هذه التنظيمات في تحقيق نصر حقيقي يتمثل في سقوط النظام الحاكم. وتحاول الولايات المتحدة أن تظهر الجانب الايجابي قدر الامكان من استراتيجية تجنب التدخل المباشر في سوريا والاعتماد - بدلا من ذلك - على تمتين التحالف مع التنظيمات الدينية المتطرفة على الرغم مما بين هذه التنظيمات من خلافات تتسع مع الوقت بدلا من أن تضيق. وذلك بطبيعة الحال سيبقى مصاحبا لعجز هذه المنظمات عن تحقيق انتصار حاسم في سوريا.
ليست الاستراتيجية الاميركية الجديدة الرامية الى «أفغنة» المنطقة العربية سهلة وخالية من العوائق والعقبات. لكن الولايات المتحدة تبدو مقتنعة بها، باعتبارها استراتيجية يمكن أن تبقى صالحة للتطبيق على مدى عقدين، تنتهي في نهايتهما حاجة الولايات المتحدة الى نفط السعودية الذي يستخدم لهدف واحد هو توفير احتياطي النفط الاميركي في باطن الارض. وترمي هذه الاستراتيجية الاميركية من وراء ذلك الى وضع المنطقة العربية كلها تحت حالة من الاقتتال، شبيهة بما هو قائم في سوريا الآن. هذا هو الوضع الذي تتصور الولايات المتحدة ان بإمكانها إحكام السيطرة من خلاله على المنطقة، وفي الوقت نفسه ضمان بقاء اسرائيل آمنة وابتعاد الخطر عنها.
والامر المؤكد أن هذا التفكير الاستراتيجي الاميركي يعنى بمشكلة ايران في الوقت نفسه بأن يجعلها محاطة لوقت يمتد لسنوات طويلة بأوضاع مهتزة ومضطربة لا تتيح لها ـ أي لإيران ـ إقامة تحالفات استراتيجية أو حتى سياسية أو اقتصادية. وهذا بحد ذاته وضع لا يمكن أن يلائم دولة بحجم ايران وثقلها الاقليمي. وهذا يفسر ما يبدو من اختلاف بين طريقة تفكير إدارة الرئيس الاميركي باراك اوباما ورئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو في ما يتعلق بالمعضلة الايرانية. الاول مقتنع بأفكار القادة الاستراتيجيين الذين وضعوا خطة زعزعة الاستقرار و«أفغنة» المنطقة العربية باعتبارها استراتيجية تصلح للمدى الزمني البعيد، والثاني لا يزال يحاول فرض أفكاره الداعية الى ضرب ايران عسكريا لتحقيق هدف مزدوج يهدم قدرات ايران ويدفع سوريا الى اليأس في مواجهة قدرات اسرائيل العسكرية. ومن الواضح اننا أمام رؤيتين مختلفتين تماما لقدرات ايران الاستراتيجية. رؤية أميركية ورؤية اسرائيلية. الاولى تعتمد معلومات مخابراتها العسكرية التي تؤكد تفوق ايران على اسرائيل في المجال العسكري، ما لم تكن اسرائيل مستعدة لاستخدام سلاحها النووي ضد ايران. الامر الذي يمكن ان تكون له نتائج رهيبة بالنسبة لصورة اسرائيل أمام العالم وفي منطقة فيها دولة إسلامية نووية، هي باكستان، لا يمكنها السكوت عن معاقبة ايران الاسلامية بسلاح اسرائيل النووي، على رغبتها في استخدام قدراتها العلمية في امتلاك طاقة نووية سلمية. أما الثانية ـ اسرائيل ـ فإنها تريد ان تعوّض أميركا نقص القدرات العسكرية الاسرائيلية في مواجهة ايران، وهو ما تبدو الولايات المتحدة غير مستعدة له بل لا ترى ما يبرره.
ان خطة توسيع الحرب في سوريا لتشمل منطقة الشرق الاوسط ككل ليست خافية على المراقبين أو المحللين الاميركيين أنفسهم. لقد كتب اليكس لانتيير تحليلا (في 24 آب/اغسطس الماضي) أكد فيه من الفقرة الاولى ان القتال في سوريا يزداد حدة وسينتشر في الشرق الاوسط، فيما يصعّد المسؤولون الاميركيون ومسؤولو حلف الاطلسي تهديداتهم ضد سوريا. ويقول لا نتيير ان المسؤولين الاميركيين عقدوا في تركيا ما وصفوه بأنه اجتماع أول لتخطيط عملياتي من أجل عمليات عسكرية لإسقاط حكم بشار الاسد في سوريا. وقد صرح المسؤولون الاميركيون ـ حسب ما يقول المحلل الاميركي نفسه ـ بأنهم طوّروا خطط طوارئ لوحدات من القوات الخاصة الاميركية لغزو سوريا من أجل وضع اليد على الاسلحة الكيماوية خشية أن تقع في أيدي تنظيم «القاعدة» أو في أيدي «حزب الله». وتنطوي هذه التصريحات على استبعاد تدخل أميركي يهدف الى حسم الصراع المسلح في سوريا لمصلحة أي من الاطراف المتحاربة.
في الوقت نفسه كتب المحلل الاميركي كريس زامبيليست عما وصفه بأنه «حلف سعودي اسرائيلي غير منطوق يستهدف ايران». وهو يصف السعودية واسرائيل في هذا السياق بأنهما «خصما ايران الاقليميان الأولان». ويقول ان السعودية وصلت في معارضتها لإيران الى حد وصفها بأنها «تشكل خطرا وجوديا عليها» وهذا موقف لا يختلف عن موقف اسرائيل تجاه ايران. بل ان المحلل الاميركي نفسه يعزو التدخل السعودي ضد انتفاضة الشيعة في البحرين الى مخاوف السعودية من إيران. ويضيف ان «من الامور التي تدعو للسخرية ان السعودية واسرائيل تعدان عدوتين من الناحية الرسمية ولكنهما تتخذان مواقف متآلفة ومتضامنة في ما يتعلق بإيران والخطر الذي تتصورانه من ايران على أوضاع المنطقة».
ولا يختلف موقف الولايات المتحدة عن هذا سوى في اعتقادها ان محاصرة ايران بنظم في المنطقة لا تبدي نحوها أي قدر من المودة أو الوئام هي استراتيجية أجدى من استراتيجية شن الحرب عليها بما قد يؤدي الى نتائج لا تتوقعها أميركا أو اسرائيل أو السعودية.
ان كتابات المحللين الاميركيين في الايام الاخيرة تتجه نحو تسليط الضوء خاصة على استهداف الولايات المتحدة لحزب الله من خلال لبنان وعلى خشية الولايات المتحدة بعد الثمن الباهظ الذي دفعته في حربها في العراق ان يشكل العراق سندا للنظام السوري. ولكن الدلائل تشير الى ان أميركا تسير بخطى حثيثة نحو إقامة تحالف بينها وبين التنظيمات الدينية في المنطقة ـ خاصة القاعدة والاخوان المسلمين ـ من أجل تعميم الحالة السورية على المنطقة العربية كلها.
وينبغي ان لا يظن أي طرف في المنطقة انه مستثنى من هذه الاستراتيجية الجديدة لـ«أفغنة» المنطقة، ولو كان ذلك بسبب علاقاته الوثيقة والتعاونية حتى في المجال العسكري مع الولايات المتحدة.
سمير كرم
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد