كيف يصمد المسيحيون في الشرق العربي
دقّ مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك في مؤتمره السادس عشر في تشرين الأول الماضي نفير الخطر على الوجود المسيحي في الشرق وضعف انتماء المسيحيين الى المنطقة ووهنه: مسيحيو القدس تراجعوا من 45 ألفاً في أربعينيات القرن العشرين الى 5 آلاف مطلع هذا القرن، الأرمن الكاثوليك لم يبق منهم سوى 17 في المئة، هجرة قبطية متزايدة في السنوات العشرين الماضية، هجرة مسيحية جماعية من العراق، المسيحيون السوريون تراجعوا من 16،5 في المئة من سكان سوريا قبل ربع قرن الى أقل من 10 في المئة، باختصار بقي في الشرق العربي أقل من 10 ملايين مسيحي بين 300 مليون من الديانات الأخرى. لم يغفل البطاركة الإشارة الى مسؤولية استبداد الأنظمة التسلطية عن هجرة المسيحيين، إلا انهم لم يأخذوا في الاعتبار الحقائق والأبعاد السياسية والاجتماعية والايديولوجية الآتية.
أ ــ إذا كان صحيحاً ان هجرة المسيحيين في الشرق في اطراد منذ النصف الثاني من القرن الماضي بل منذ القرن التاسع عشر، نظراً الى تقبّل هؤلاء العقل الليبرالي الغربي وانفتاحهم المبكر على فكر الحداثة، إلا ان هجرة غير المسيحيين ونخبهم المثقفة خصوصاً، لا تقل حجماً ويجب ان تكون أيضاً مثار قلق وتساؤل.
ب ــ إذا كان البطاركة قد أتوا على مسؤولية الكنيسة عن هجرة المسيحيين إلا انهم لم يذهبوا بعيداً في تحديد تلك المسؤولية، وفي شكل خاص عن هجرة النخبة المتنوّرة منهم، نتيجة إرهاب وتسلّط زعمائهم الطائفيين الذين مالوا الى التعصب والانغلاق وسايروا إجمالاً اتجاهات التطرف والانعزال. ولا نريد ان ندخل في تفاصيل مأساة أسعد الشدياق، أو جبرائيل دلال الحلبي، ولا في معاناة فارس الشدياق وفرنسيس المراش وأديب إسحق، أو في ملابسات هجرة جرجي زيدان وشبلي شميل وغيرهما ممن لاذوا الى مصر هرباً من جور زعماء طوائفهم وطغيانهم الايديولوجي. ولا نريد ان ندخل في موقف هؤلاء الزعماء من جبران خليل جبران وأمين الريحاني ومارون عبود، ولا نود التذكير بتفاصيل الدور الذي أدّته الميليشيات المسيحية التي كانت متعاطفة إجمالاً مع زعاماتها الطائفية، في هجرة المسيحيين اللبنانيين إبان الحرب الأهلية اللبنانية.
ج ــ من الخطأ والاجتزاء طرح هجرة المسيحيين الشرقيين بمعزل عن أزمة المجتمع والأمة عموماً، التي من مظاهرها المأساوية فداحة الهوة الطبقية وتركّز الثروة والملكية والنفوذ في أيدي فئة ضئيلة تستأثر بالمواقع دافعة المواطنين الى الفقر والتهميش والحرمان وتالياً الى البحث عن وطن بديل.
إن الطبقات المسيطرة في العالم العربي التي يشكل زعماء الطوائف جزءاً منها هي التي تهجّر المسيحيين والمسلمين على السواء، بسلبهم حقوقهم الانسانية وسحق تطلّعاتهم الى مجتمع عربي يصون كرامة المواطن ويحتضن تطلعاته الى الحرية والكرامة والعدل السياسي والاجتماعي. إن المسيحيين وغيرهم على السواء، إذ يهاجرون، إنما يفرّون من ضحالة مجتمعاتهم الى مجتمعات تأخذ في الحسبان كفاءاتهم وحقوقهم الانسانية وتفتح أمامهم سبل التقدم والنماء والعيش الكريم. لا يجوز كذلك إغفال الدور الذي تضطلع به العولمة المتوحشة، ليس فقط في هجرة المسيحيين الشرقيين بل في الهجرات الواسعة لشعوب الأطراف، والعرب منها، في اتجاه المراكز الرأسمالية نتيجة انسداد الآفاق وتضاؤل الفرص.
د ــ إن صمود المسيحيين في الشرق، على رغم توجّسهم المشروع إزاء التوجّهات الأصولية المريبة، رهن بانفتاحهم على الأفق الحضاري الرحب، العربي والاسلامي، باعتبار الإسلام حضارة لكل العرب مسلمين ومسيحيين، وبتجذّر انتمائهم الى أمتهم وهمومها وقضاياها الكبرى، وانخراطهم في قيادة مصيرها، لا بالانكفاء الى أوهام التميّز الأقلوي والانسحاب الى أوطان بديلة. أليس هذا ما جعل متنوّريهم يتقدمون الحركات القومية والوطنية والاجتماعية، فينادي بطرس البستاني، للمرة الأولى في الفكر العربي الحديث وفي ستينيات القرن التاسع عشر، بالقومية العربية والوطنية اللاطائفية، ويبادر نجيب العازوري كذلك الى طرح الوحدة القومية العربية المشرقية، ويدعو أنطون سعادة الى وحدة سوريا الطبيعية، وأمين الريحاني الى الوحدة العربية الشاملة في مرحلة مبكرة من تاريخ نهضتنا القومية المعاصرة؟
وكذلك كان المسيحيون الشرقيون في طليعة النهضة الاجتماعية فتصدر فرنسيس المراش وفرح أنطون وشبلي الشميّل وأديب إسحق الحركة العلمانية والمناداة بدولة العقل والحرية والعدالة والمساواة الانسانية. هذا هو، الوجه المشرق الذي يجب استحضاره، في وقت تتعرض فيه الأمة والحضارة والأرض والتاريخ، لأشرس الهجمات الاستعمارية والصهيونية من العراق الى فلسطين الى لبنان.
كرم الحلو
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد