فــي الطريــق إلــى «نبــي» جبــران
جبران.. المعاصر والمستقبلي
لا تزال موجات من بعض ما كتبه جبران خليل جبران (1931ـ1883) في «المجنون» و«السابق» و«النبي» و«يسوع ابن الإنسان» تلفح حتى اليوم الكثير من المبدعين في العالم، برغم مرور حوالي القرن على صدورها. لقد لفت انتباهي من بينها، على سبيل المثال، فيلم تسجيلي لبول كويهلو، صاحب «الخيميائي»، أشاد فيه بهذا المبدع اللبناني وبقواه الروحية والسحرية التي خالطت أحاسيس الروائي وبعض عوالمه، و«كويهلو» أحد كبار روائيي هذا العصر. وفي التدقيق أيضاً، فاجأتني وأدهشتني بصمة جبرانية على كتاب نجيب محفوظ ما قبل الأخير، وهو «أصداء السيرة الذاتية» الذي اعتبره إنجاز محفوظ (الشعري الروائي) البديع المؤسس على كيمياء تدمج البرق الشعري برموز المثل أو السيرة، فالروائي المصري الأبرز في العربية، يكتب في آخر أيامه، مقاطع مكثفة تجمع بين الطفولة والشيخوخة. يسميها «أصداء» وهي من سيرته الذاتية، بطلها في الكتاب يسميه محفوظ «عبد ربه التائه»، والتسمية هذه، جبرانية، ما يذكر بالتيه الجبراني والدين، من خلال الجوهر الصوفي. «عبد ربه التائه» أحياناً بهلول وأحياناً حكيم وأحياناً شاعر. وهو مرشد طريق أعمى اتبعه الناس لما فيه من صدق الفراسة، تأبط نجيب محفوظ ذراعه لمدة، ثم تركه ليتبع بائعة خبز متجولة حسناء. ويختزل مقاطعه القصيرة القريبة من الأمثال (Parables) أو المقاطع الحكمية (Epigrames)، بشطحين: صوفي وخيالي، مرسخاً ما كان فعله جبران في كتبه بالانكليزية: المجنون 1918 والسابق 1920 والنبي 1923 ورمل وزبد 1926، لا ننسى كتاب «التائه» الذي كتبه جبران في آخر أيامه ونشر بعد موته في العام 1932، لعل نجيب محفوظ استوحاه في عنوان كتابه.
في واحدة من نبذ «أصداء السيرة الذاتية» وهي بعنوان «دموع الضحك» يكتب محفوظ الجملة التالية «يا صديقي الوحيد في عزّ النصر والرخاء، كثيراً ما بكيت الكرامة الضائعة»، وفي نبذة أخرى بعنوان «الريح تفعل ما تشاء» يكتب «لم يكن في نيتي ما أفعل ولا فعلت ما نويت». و«عبد ربه التائه» منذ مغادرته طفولته وهو يبحث عنها بجنون، «تتبعه نداءات الحب والموت»، يقول في «خطبة الفجر»: «إذا راودك خاطر اكتئاب فعالجه بالحب والنغم»، وهو مشدود بنداء «اترك كل شيء واتبعني»، وهي عبارات جبرانية كما لا يخفى، فضلاً عن اننا نعثر على ما يشبه التطابق التام في الأسلوب والمضمون، بين الكاتبين. يروي محفوظ على لسان رجل له ثلاثة أبناء، قرر الذهاب إلى الحج فاستدعاهم وسألهم سؤالاً واحداً: «ماذا تقولون بعد الذي كان؟ أجاب الأكبر: لا أمل بغير القانون، وأجاب الأوسط: لا حياة بغير الحب، وأجاب الأصغر: العدل أساس القانون والحب.. فابتسم الأب وقال: لا بد من شيء من الفوضى كي يفيق الغافل من غفلته». نعثر على ما يشبه هذا المقطع المثلي الحكمي لمحفوظ، في الكثير مما كتبه جبران في «المجنون» و«السابق» و«رمل وزبد»، وهي الكتب المحورية في تطوره الأسلوبي.
من هذه الناحية، جبران معاصر، بل مستقبلي، من ناحية اتقاد المخيلة وحماسة الروح والحكمة، وله بصمات تبقى على المخيلة الروائية وعلى الروح الشعرية في وقت واحد. ويبقى من جبران وفيه، شيء يخص الغامض والسري والمجهول. أمر جذاب يقف بين السحر والغرابة والدين. فيه شيء سريالي (غير مدرسي) من ناحية الرؤيا والغرابة، والواقعي الاجتماعي فيه مدموغ بحماسة روحية، وفي جميع مواقعه وأعماله، من قصص وحكم ورسوم وأشعار، يلوح لي على صورة وادٍ من أودية قاديشا (في منطقة بشري مسقط رأسه من شمالي لبنان) وهو يمتلئ حتى الجهام بالضباب. هذا الضباب هو ضباب حلمي، أو ضباب الخيال الذي لا يستقر ولا يضبط. قد يكون من الضروري تسجيل ملاحظات في هذه المسألة المتعلقة بالمخيلة الروائية والروح الشعرية عند جبران. ولعله، في الحالين، ثمة شيء في الرجل مما صنعته الطبيعة من عجائبها فيه، فقد ولد وعاش صباه بين الأودية العملاقة والكهوف والضباب والأديرة القديمة المحفورة في الصخر في مسقط رأسه (بشري)، لقد كان ما يشبه السطوة الميتافيزيكية للمكان، على الفتى اللبناني، الذي ما فتئ يحن إلى تلك الجهة، يتمنى لو عاد إليها بعد الهجرة، ليبرأ من أوجاعه الجسدية والروحية في نيويورك، ويوصي بأن يدفن، بعد الموت، في صومعة دير مار سركيس المحفورة في الصخرة المشرفة على بهاء الوادي المقدس (قاديشا). لا نستطيع ان نقول إن الطبيعة (هذه) هي وحدها التي نحتت جبران خليل جبران، كما تنحت صخرة في جبل، أو واد بين جبلين، أو بسطته كسهل فسيح، أو رفعته ونشرته كضباب، أو أغمضته كليل، أو ولدته كفجر... فهو أيضاً، وبالمقدار نفسه، صنيع النفوس البشرية التي تحوطه وتحيا فيه (وما أكثرها)، سواء كانت من صنع الحقيقة أو الخيال أو بين بين.. وبخاصة النساء منها. وفي رسومه للوجوه عامة، نعثر على وجوه ضارعة جوانية كأنها معصورة في الألم.. ونعثر على أجساد نسائية عارية وهائمة تضمحل فيها الجسدية أو تكاد كأنها ظلال أو أرواح. إن الوجه الأنثوي الذي رسمه جبران لنفسه (أوتوبورتريه) محاطاً بهالة يسوع، في «النبي»، هو الوجه الأثير لديه. رسم ما يشبهه لبربارة يونغ، وما يشبهه أيضاً لأمه «كاملة رحمة» مع امتداد أرضي. والنساء اللواتي رافقن سيرة حياته وكتاباته ورسومه، سواء كن واقعيات مثل ماري هاسكل (ربيبته وحبيبته ومدبرة شؤونه في المغترب الأميركي)، أو جوزفين بيبودي الشاعرة الجميلة التي التقى بها في بوسطن، أو ميشلين (الموديل الجميل الذي عشقه في بوسطن وباريس)، أو شارلوت تايلر (الممثلة والمسرحية والمدرّسة في جامعة شيكاغو التي كانت تسحر تلاميذها قبل ان تعلمهم) (د. جميل جبر في مقدمته للمجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران العربية، دار الجيل، بيروت 1990، ص من 15 إلى 18)، أو مي زيادة التي تبادل معها أكثر رسائل الحب شغفاً وغرابة، ولم يلتق بها مرة في حياته (يراجع كتاب «الشعلة الزرقاء» الذي جمع فيه الدكتور سهيل بشروئي رسائل الحب المتبادلة بين جبران ومي)... وسواء كن متخيلات من بنات أفكاره، أو في منزلة بين المنزلتين مثل سلمى كرامة (في الأجنحة المتكسرة وهي صورة حلا الضاهر حب جبران الأول في صباه في بشري)، ووردة الهاني (في الأرواح المتمردة) ومرتا البانية (في عرائس المروج)... هؤلاء النساء هن وجه جبران المستور في أعماق ذواته، والظاهر في رسومه وكتاباته. وأرجح انه تمثل بالمسيح، نبيه المصطفى، في هذه المسألة. يقول في كتابه «يسوع ابن الإنسان»، الصادر بالانكليزية العام 1928، تحت عنوان «يونا امرأة حافظ هيرودس»: «لم يتزوج يسوع قط ولكنه كان صديقاً للنساء» (ص 222/ المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران المعربة عن الانكليزية، تعريب الأرشمندريت أنطونيوس بشير، بيروت 1964).
لجبران الكلام الأعمق في ما يصل الرجل بالمرأة. في الحب أو الزواج. يقول، والحب هنا تقريباً هو المحبة: «إذا ضمتكم المحبة بجناحيها فأطيعوها وإن جرحكم السيف المستور بين ريشها... لأنه كما ان المحبة تكللكم فهي أيضاً تصلبكم» (النبي، المجموعة الكاملة المعربة، ص 87). أما الزواج، فيشبهه بأوتار القيثارة «كما ان أوتار القيثارة يقوم كل واحد منها وحده، ولكنها جميعاً تخرج نغماً واحداً...» هكذا الزواج... «قفوا معاً ولكن لا يقرب أحدكم من الآخر كثيراً لأن عمودي الهيكل يقفان منفصلين» (النبي، المجموعة الكاملة المعربة ص 95).
في الكلام على ان الحقيقة الجبرانية مشغولة من ناحية الطبيعة ومن ناحية النفوس البشرية معاً، تقتضي الإشارة إلى ان جبران بدأ بثنائيات كان ينسج عليها مقطوعاته وأناشيده وقصصه، لكنه انتهى إلى وحدة حلولية صوفية، تقول إن النفوس البشرية هي نفس واحدة من الأزل إلى الأبد، وان ثمة وحدة في الوجود بين الإنسان والكون، وهذه الحلولية هي أقرب ما تكون لحلولية المشرقيين من أمثال ابن عربي والسهروردي والحلاج، من ناحية، والإحيائيين الغربيين من الشعراء الألمان بخاصة، من أمثال نوفالليس وريبكه وهلدركن وشيلر وغوته، من ناحية ثانية. يسأل رايز ماريا ريلكه في قصيدة «أغنية حب وموت حامل العلم» امرأة منحنية فوقه قائلاً: «أأنتِ الليل؟»، ويقول شيلر: «نحن إخوة تحت خيمة النجوم»، والشعر عند هلدرلن ليس سوى «لغات السماء وغنائها» (تنظر ترجمات فؤاد رفقة لأبرز رموز الشعر الألماني).
لا نعدم الشواهد الكثيرة في كتابات جبران، على هذه الحلولية ووحدة الوجود معاً. لعل الأسطر الأولى من كتاب «النبي» تدل على ذلك:
«..وظل المصطفى المختار الحبيب الذي كان فجراً لذاته، يترقب عودة سفينته، في مدينة أورفليس اثنتي عشرة سنة، ليركبها عائداً إلى الجزيرة التي ولد فيها» (المجموعة المعربة ص 81)، فلويد دمج للعناصر الطبيعية والإنسانية، وتدوير للأزمنة. تحت عنوان «الفلكي» في «المجنون» وصف للمنجم الأعمى الذي يحصي النجوم لكن في صدره. يقول لسائله: أي مذهب من مذاهب الحكمة تتبع؟: «أنا فلكي منجم».. «ثم وضع يده على صدره وزاد قائلاً: انني أرصد هذه النجوم وهذه الشموس وهذه الأقمار» (ص 37/ المجموعة المعربة). وهو في مقطع «الحنين الأعظم»، يعقد أخوة بينه وبين كل من الجبل والبحر، (المجنون، ص 37)، ويدوّر الأزمنة، كما في مطلع كتابه «السابق»:
«أنت سابق نفسك يا صاح، وما الأبراج التي أممتها في حياتك سوى أساس لذاتك الجبارة، وهذه الذات في حينها ستكون أساساً لغيرها» (المجموعة المعربة ص 47)...» سنبقى بداءة «إلى الأبد» (السابق.. ص 48).
هالة... فوق الضعف الأسلوبي
مرات عديدة، قرأنا جبران: في الصبا، في الشباب، وفي المنقلب الآخر من العمر. والسفر معه بمسافات طويلة، في ما كتبه بالعربية، تجعل منه، ويا للمفارقة، قاصاً هزيلاً بل مضجراً، ونكتشف ان جبران (العربي) يقتات بدم جبران (الانكليزي) ليصمد، بل ليعيش، بل ليتفرد ويصل لحقيقته وليكون ما هو.
وآثاره حين جمعت، جمعت بمجموعتين، فهناك المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران بالعربية، والمجموعة الكاملة لمؤلفات جبران المعربة عن الانكليزية.. (صدرت بهذه التسمية في إصدارات متعددة، من بينها، عن دار صادر في بيروت، بمقدمة لميخائيل نعيمة بعنوان «جبران في آثاره العربية»، وعن دار الجيل في بيروت بمقدمة للدكتور جميل جبر تناولت جميع آثاره العربية والمعربة. الطبعة الأولى 1994. كما صدرت كتبه تفاريق، ونال بعضها شيء من العبث، خاصة بعد ان طارت شهرته.. حتى ان ثمة من جمع له «مقالات شتى كتبها في مراحل مختلفة من حياته لا يربط بينها إلا اسم المؤلف» وهو كتاب «البدائع والطرائف» (المجموعة الكاملة.. العربية، دار الجيل، 1994، من مقدمة الدكتور جميل جبر، ص 45)، والأشد غرابة من ذلك، ما حصل بعد موته في العام 1931، وكانت شهرته قد أصبحت عالمية، فقد عمدت صديقته بربارة يونغ إلى استكمال كتاب كان قد شرع في تأليفه، هو «حديقة النبي»، ووافاه الأجل قبل إكماله، لكنه «وضع تصميماً للبقية الناقصة فأكملته بربارة يونغ» (د. جميل جبر، مذكور سابقاً ص 52). وقد صدرت «حديقة النبي» في العام 1933، أي بعد وفاة جبران بسنتين. كما صدر كتاب «التائه» في العام 1932، بعد موته.
إن الفصل بين كتابات جبران بالعربية، وكتاباته بالانكليزية (المعربة) فصل في محله. انه فصل نقدي في حقيقته، وكاشف عن تطور جبران وصيرورته الأسلوبية والإبداعية.. فمؤلفات جبران العربية وعددها ثمانية تبدأ بمقالة الموسيقى 1905، وتنتهي بالبدائع والطرائف، مروراً بعرائس المروج، 1906 والأرواح المتمردة 1908 و«الأجنحة المتكسرة» و«دمعة وابتسامة» و«المواكب» و«العواصف» 1919... تحتوي على الكثير من المواعظ والاستطرادات والحشو والخطابة، مما يجر الضجر على القارئ، ويخفف من وهج الفكرة، ويخمد من حرارة الروح. ثمة إذاً عطل أسلوبي أو فشل أسلوبي في قصص جبران. لكن الإنصاف يقتضي ان نلاحظ، فوق هذا الفشل الأسلوبي، وبرغمه، حماسة روحية تطفو فوق الكلمات، وجموحاً مما يسميه غارسيا لوركا «الروح المبدع» الذي هو أساس كل فن. و«الروح المبدع» بحسب لوركا «قوة وليس سلوكاً. يظهر أكثر ما يظهر في الموسيقى... انه صراع وليس تصوّراً. سمعت عازف غيتار شيخاً يقول: ليس الروح في الحلق، انه ينبثق عالياً من أخمص القدم» (لوركا ـ مختارات، دار المسيرة 1980، ترجمة عدنان بفجاتي ص 1980 و1981).
هذا الروح المبدع الجبراني يظهر باكراً في أول كتابة له في «الموسيقى» التي هي، كما يقول «أداة انعتاق» (المجموعة العربية، دار الجيل ص 85)، وهي «كالمصباح تطرد ظلمة النفس» (نفسه ص 86) عبدها الكلدانيون وألهها الرومان واليونان وسبح بها داوود في المزامير والأسفار. بعد ذلك سيقول جبران في كتابه «المجنون»: «قال لي العراف: انخرط في سلك أبناء الموسيقى» (المجموعة العربية ص 23). أحياناً، لا تنقص جبران في قصصه عبقرية الفكرة، كما في قصة «رماد الأجيال والنار الخالدة» (من مجموعة عرائس المروج، ص 97 وما بعدها، العربية، الجيل) حيث يربط الكاتب بين زمنين: قديم يعود لخريف 116 ق.م. حيث عاش في هيكل عشتروت في مدينة ما لبثت ان مرضت وماتت بين يديه «فهام في البرية مع أسراب الغزلان».. وزمن جديد يعود لسنة 1890 لمجيء الناصري، حيث في الربيع، يظهر الراعي البعلبكي على الحسيني يقود قطيعه في السهل نحو خرائب الهيكل. ينام بين الخرائب ويناجي تمثال امرأة محطماً، ثم يستيقظ ليرى أمام عينيه صبية تحمل جرّة ماء تسقيه منها الحب...
الفكرة الجبرانية عبقرية بلا ريب. لكن ميخائيل نعيمة يعلّق على هذه القصة قائلاً انها ليست أكثر «من تناسخ أرواح» (مقدمته للآثار العربية.. ص 9) ويضيف ان جبران «لم يبدع في الفن القصصي ولم يحلق» لأن فيه «طبيعة المرشد والمصلح والواعظ» (مقدمة.. ص 10).
لكن، علينا الاعتراف، كما سلفت الإشارة، بأنه في عمق الضعف الأسلوبي الجبراني تكمن عبقرية الفكرة. في قصص اخرى، لا تستطيع الفكرة، برغم قوتها، أن تشيل بالنص القصصي لتمنحه هويته الإبداعية من خلال تقنيته وصورته. أحياناً، في ذروة المأساة التي غالباً ما هي موضوع قصص جبران، يبدر ما يدعو لرسم ابتسامة أو ضحك في القارئ. من ذلك على سبيل المثال، ما يرد في قصة «مضجع العروس» وهي مأساة عروس ترفض الرجل الذي اختير لها زوجاً، في يوم عرسها، لتتبع حبيبها، وتنتهي معه في حمّام من الدم: يقتل الحبيب نفسه، و«ترفع العروس خنجرها نحو العلاء وتغمده في صدرها فتمتزج دماؤها بدمائه..» في تلك اللحظة الدرامية تخطب العروس في الحشود، وهي تحتضر، خطبة طويلة... بين الوعظ والتبكيت والتفجع (عرائس المروج ص 164 ـ العربية). ومثل هذه الخطب كثير في قصص جبران. جميع أبطاله (نساءً ورجالاً) وهم من المعذبين والمضطهدين في الأرض، ينتهون وعاظاً وخطباء. وغالباً ما يتدخل المؤلف كسارد واعظ أو خطيب أو شارح (قصص مرتا البانية، وردة الهاني، صراخ القبور... الخ).
يلاحظ باحثون كثر هذا الضعف الأسلوبي لقصص جبران بالعربية. من بينهم خليل حاوي في الفصل الثامن من أطروحته حول جبران بالإنكليزية وهو بعنوان «تحليل الشكل والأسلوب لدى جبران» «Analysis of this form and style» ويبرر ذلك بقوله «إن ما يبدو لأول وهلة افتقاراً إلى البراعة الفنية، ليس في الحقيقة سوى نتيجة حتمية لنظرة جبران إلى الحياة» (خليل حاوي، فلسفة الشعر والحضارة، تحرير وترجمة وتقديم ريتا عوض، دار النهار أيار 2002، ص 174).. فالحياة بالنسبة له مقسومة لقسمين: خير وشر. كما انه يعتبر جميع قصصه مشاريع قصائد، بل يرى في «الأجنحة المتكسرة» انها «عمل شعري بأكمله» (المرجع المذكور السابق ص 174)، معززاً نظرته بمقارنة المسودات الأربع المحفوظة في متحف جبران لعمله الروائي ذاك، فإن «التغييرات المدونة فيها تشير لرغبة الكاتب بالارتقاء بالأسلوب لأعلى ذرى الشعرية» (المرجع نفسه ص 175).
يلاحظ صلاح لبكي في كتابه «لبنان الشاعر» شعرية القصص الجبراني.. ولا تخفى وعظيته على كل من يقرأ هذا القصص. ولعله في رسومه المرافقة لقصصه أكثر تعبيراً وتأثيراً في النفس من تلك القصص.. كما نرى في رسم «اليد المتألمة» ورسمة «للأسف» و«الملاك النائم»، ورسومه المرافقة لديوانه بالعربية «المواكب» حيث بالإمكان نقد الشعر ومديح الرسم.
التحوّل الأسلوبي الكبير:
المجنون، النبي، يسوع ابن الإنسان ـ اللغة
هل كان للغة (وهي هنا الانكليزية) التي كتب بها جبران أهم كتبه، ذاك الدور القوي والذي يكاد يكون حاسماً، في تطوير تجربته الإبداعية والوصول بها إلى المقام الرفيع؟ فهو قد توقف عن الكتابة بالعربية، إلا لماماً، بعدما شرع في التعبير عن تجاربه الكتابية بالإنكليزية. فبالإمكان اعتبار أول كتبه بالإنكليزية وهو «المجنون» الذي صدر في العام 1918 فتحاً قوياً في التجربة الجبرانية. تبعه «السابق» في العام 1920، فـ«النبي» في العام 1923، فرمل وزبد في العام 1926 فـ«يسوع ابن الإنسان» 1928، فـ«آلهة الأرض» 1931. وصولاً للتائه، فمقاطع من «حديقة النبي». إذ ما إن تحوّل جبران عن التأليف بالعربية إلى التأليف بالإنكليزية، حتى اندلع اسمه في الولايات المتحدة الأميركية أولاً ومن ثم في بريطانيا وباقي البلدان الناطقة بالإنكليزية، وترجمت أعماله، لا سيما كتاب النبي، إلى جميع لغات العالم الحيّة...
الإنكليزية أمنت لجبران انتشاراً أفقياً لا مثيل له. لقد أصبح من خلالها، مبدعاً عالمياً.. تطبع كتبه وترجماتها بملايين النسخ، وتقرأ في المحافل، بما في ذلك الكنسية منها، وتتشكل حولها جماعات دينية وروحية، مدفوعة بالشغف الروحي الذي فيها، وهجائها العميق للحضارة بوجهها المادي، ونشيدها لرعوية حالمة يزداد انتشارها بازدياد ضغط الآلة على الكائن البشري وتحويله إلى مسخ استهلاكي...
لكن: هل اللغة تخلق المبدع؟ ليست لدينا إجابات حاسمة عن هذا السؤال الخطير، إذ كيف مثلاً، ولماذا، يكتب شاعر بالعربية أجمل إبداعاته، وحين يكتب بالعامية (وهي لغة المهد عنده والحياة) يفشل؟ كيف يبدع ابن العربية بالفرنسية أيضاً ولا يبدع بالعربية؟ الإنكليزية لدى جبران كانت مكتسبة، ولغته الأم هي العربية الفصحى والعامية، وقد قصد للتعمق في العربية، تاركاً بوسطن في خريف سنة 1898، ليلتحق بمعهد «الحكمة» في بيروت.. ويتعلم من العربية ما ساعده على الكتابة بها.. فقد كان مطلعاً، كما تروي سيرته، على أشعار المتنبي، ونهج البلاغة، ووُجد بين مقتنياته دفتر صغير كتب فيه مئتي قول من أقوال وأحاديث النبي العربي (محمد)، كما ترك تخطيطات بريشته لكل من ديك الجن الحمصي ومجنون ليلى والخنساء وأبي نؤاس والمتنبي والمعري وابن خلدون وابن سينا والغزالي وابن الفارض، وكتب ملاحظات عميقة حول عينية ابن سينا في النفس والغزالي وابن الفارض.. ما يعني اشتماله على أسس متينة للثقافة التراثية العربية بوجوهها الأدبية والفلسفية.
ومع ذلك يبقى السؤال مطروحاً: هل الإنكليزية ساعدت جبران على الحذف والتركيز والتخلي عن إسهاباته الوعظية والخطابية في قصصه بالعربية، باعتبارها (أي العربية) لغة مترادفات واسعة، وذات إغراء بالشحن الخطابي والوعظي؟ لكن من أين جاءه هذا الأسلوب الذي تجلى في «المجنون» بداية، ومن ثم في «السابق» وصولاً للنبي، تتويجاً بيسوع ابن الإنسان؟
يعتبر «المجنون» فتحاً أسلوبياً في أدب جبران. فقد استطاع ان يضغط تجاربه العميقة والفنية في الحياة والموت والحب والبغض والولادة والحكمة والظاهر والباطن والله والناس والوجود... الخ بكلمات معدودات، وصور غالباً ما تتخذ شكل المثل أو الحكمة أو الحكاية المختزلة أو المروية.. وقد يكون ابن المقفع في «كليلة ودمنة» أعطاه مثالاً، لكن جبران وسع المثل ليشمل الحيوان والإنسان والطبيعة. فلم تعد المخيلة تتشطط، بل ضبطها شكل المثل، ولم تعد الحكمة بحاجة لشروح وتدخلات من خارج بنيتها... وما حام حوله في جميع ما كتبه بالعربية، وقع عليه فجأة في «المجنون» بالإنكليزية. يكتب تحت عنوان «القفصان» ما يلي: «كان في حديقة أبي قفصان، وكان في أحدهما أسد أحضره عبيد أبي من براري نينوى، وفي الثاني زرزور غرّيد لا يمل الإنشاد، وكان الزرزور يأتي في كل فجر إلى الأسد فيحييه قائلاً له: عِم صباحاً يا أخي السجين» (المجموعة المعربة، المجنون، ص 25). ثم تركز أسلوبه في «النبي» واكتمل، على ما نرى في «يسوع ابن الإنسان» حيث يتقارب عنده في الشكل المثل والمقطع الحكمي وقصيدة النثر الحرة.
ولعله تأثر في ذلك بترجمة البستاني البروتستانتية للكتاب المقدّس، وبالوجه الفني لكتابات فرنسيس مراش الحلبي، وهو ينتمي أسلوبياً، على ما لاحظه خليل حاوي، إلى التراث الأدبي المسيحي ويدين بالكثير للغة الكتاب المقدّس.. (خليل حاوي، فلسفة الشعر والحضارة، سابق ص 179). في طريقة جبران الحكمية والحكمة المستقلة، تتعدد الروافد المغذية لجبران، فقد أنشأ بعض الرومانطيكيين الغربيين حكماً خاصة بهم مثل شليفل ونوفالليس وهوغو، وكتب وليم بلايك، كما رسم، «أمثال الجحيم».. ويعترف جبران بتأثره ببلايك في أمثاله ورسومه.. وتم الكشف عن أثر نيتشه في كتابه «هكذا تكلم زرادشت» في قصيدة «نفسي مثقلة بثمارها» لجبران، كما أدخل صورة الوجه العنفي للقوة الذي رسمه نيتشه، في وجه من وجوه المسيح، في كتابه «يسوع ابن الإنسان».. ولعل ثمة عبارات بعينها، أخذها جبران من زرادشت (نيتشه)، مثل قوله: «أأنا فجر ذاتي في الأزقة المظلمة؟»، يقول جبران في النبي، إنه «فجر ذاته».. وثمة وجوه نيتشوية للعنف على لسان كل من يوحنا المعمدان ونثنائيل في «يسوع ابن الإنسان». (المجموعة المعربة.. ص 242، 248، 265) في قسوته على المرائين. وأحسب أيضاً، وفي النهاية، ان جبران سعى لأن يكون عظيماً بالمحاكاة.
والمحاكاة هنا هي محاكاته للناصري يسوع المسيح، وقد اكتملت في كتابيه: «النبي» و«يسوع ابن الإنسان» وكلاهما بالإنكليزية. وهي سيرة جبرانية مقترحة للسيد المسيح على لسان شهودها. سبق كلام كثير حول كتاب النبي.. لكننا نرى أن نقاط التشابه بل التداخل لحدود التماهي بين جبران و«يسوع ابن الإنسان» تبدأ من الصور التي رسمها جبران بريشته، لوجهه هو ولوجه المسيح، وتكمل في مسرح متشابه للسيرة، فمدينة «النبي» هي أورفليس، وتحديداً ساحة أورفليس، ومدينة يسوع هي «أورشليم» وتحديداً ساحة أورشليم، مع ما في الإسمين من تشابه في اللفظ، ومولد النبي هو عينه مولد جبران، والتكلم من أعماق القلب هو أسلوب كل منهما، وكذلك الصيغة النبوية للكلام: «.. أما أنا، فأقول لكم»...
محمد علي شمس الدين
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد