عن صناعة الموت وزراعة " العبوات الناسفة " في عقول أطفال سوريا
لم يكن يظن السوري يوماً أنه سيرى ابن بلده يبحث بين اشلائه عن "الجنة". ولم يتوقع يوماً ان يرى فتى، لم تنبت لحيته بعد، يفجر نفسه في جمع من المدنيين بحثاً عن الحوريات بين دماء واشلاء أصدقائه. كما لم يكن يظن أن شعباً لطالما أتقن صناعة الحياة، تسكنه اليوم صناعة جديدة، هي الموت.
منذ دخول المسلحين مدينة حلب في العام الماضي، توقفت معظم المدارس عن العمل في المناطق التي تمكنوا من السيطرة عليها، وعقدت اتفاقيات عديدة بين قيادات المسلحين ومديرية التربية في مدينة حلب، بوساطة من شخصيات مدنية ووجهاء بعض الأحياء، حيث أرسلت وزارة التربية الكتب المدرسية وتم افتتاح بضع مدارس في أبنية خاصة تبرع بها مواطنون.
إلا أن هذه المبادرة لم تتمكن من استيعاب جميع طلاب المدارس، الذين بدأوا يتوجهون تدريجيا إلى تلقي التعليم الديني في المساجد، ولدى رجال الدين، تحت رعاية كاملة من قبل فصائل مسلحة متشددة.
"أرسلت ابني إلى المسجد ليتعلم القرآن والحديث النبوي الشريف"، يقول "أبو مصطفى"، وهو موظف حكومي ترك وظيفته ويعمل في الوقت الحالي بائع خضار في أحد أحياء مدينة حلب الشرقية الخاضعة لسيطرة مسلحي المعارضة.
ويوضح "قمت بإلحاقه بالمسجد بسبب عدم وجود أية مدرسة قريبة، بعد أن دُمرت المدرسة الموجودة في الحي، كما أن معظم المدارس هنا في هذه المنطقة متوقفة، بعضها مدمر، والبعض الآخر تحول إلى مقارّ للمعارضة".
ويضيف "تأكدت قبل أن أرسله أن الشيخ الموجود في المسجد شيخ سوري"، قبل أن يتابع "يتعلم ابني ايضاً القراءة والكتابة، هذا أفضل من جلوسه في المنزل وتحوله إلى شخص أمّي، كابن خاله الذي رفض والده إرساله إلى المسجد".
و يفيد تقرير حديث أعده "المركز السوري لبحوث السياسات" بالتعاون مع منظمة "الأونروا" التابعة للأمم المتحدة، نشر باللغة الانكليزية بأن نحو خمسة آلاف مدرسة خرجت عن عملها، إضافة إلى انخفاض معدل الالتحاق بالمدارس إلى نحو 46.2 في المئة، مع نقص في المعلمين، حيث انضم معظمهم إلى آلاف اللاجئين والمشردين داخليا.
وفيما يقتصر التعليم الذي يتلقاه الأطفال في المدارس "الدينية" داخل المدينة على بعض التعاليم الدينية الإسلامية وحفظ القرآن والأحاديث النبوية، تعمل عدة تنظيمات على جذب الأطفال للانخراط في مشروع الحركات الأصولية المتمثل بتنشئة جيل "إسلامي"، وفق المنظور الإسلامي الذي يرونه.
و يتلقى الأطفال، إضافة إلى التعاليم الدينية، مجموعة دروس مكثفة حول "الجهاد" و"أسس الدولة الإسلامية"، قبل أن ينتقلوا في مرحلة لاحقة إلى تلقي التدريبات في معسكرات خاصة، أقيمت لهذا الهدف.
وفي وقت لا توجد فيه إحصاءات دقيقة لعدد المدارس "الدينية" المنتشرة في الأحياء التي يسيطر عليها مسلحو المعارضة في مدينة حلب، إلا أن مصدرا معارضا يؤكد أن "عددها كبير"، ويكاد يغطي معظم الأحياء، لافتاً إلى أن الفصائل المتشددة عملت خلال الفترة الماضية على نقل عدة مدارس دينية أنشأتها بداية في مدينة حلب إلى مناطق في الريفين الشرقي والشمالي.
و تعتبر قرية تركمان بارح شمال حلب، التي تضم الثانوية الشرعية الحكومية، أحد أكبر مراكز التعليم الديني للأطفال بإدارة "شيوخ" تابعين لـ"جبهة النصرة" وتنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام".
كما تعتبر مدينة الباب شمال شرق حلب معقلاً مهماً ايضاً بالنسبة إلى المسلحين المتشددين، الذين أقاموا في "الجامع الكبير" بالمدينة مدرسة دينية كبيرة، يشرف عليها مدرّسون غير سوريين.
الرقة، شمال سوريا، باتت هي الأخرى تعتبر أحد أهم معاقل الحركات الأصولية، بعد دخول مسلحي المعارضة إليها وسيطرة مسلحي تنظيم "داعش" (الدولة الإسلامية في العراق والشام)، حيث عمد مسلحو هذا التنظيم إلى افتتاح عدة مراكز كبيرة لتأهيل الأطفال وتدريسهم، وانتقاء بعض اليافعين للانخراط في معسكرات خاصة بتأهيل "الجهاديين"، تتضمن برنامجاً مكثفاً للتعامل مع السلاح.
"أحد التدريبات التي يتلقاها الأطفال في هذه المعسكرات يتضمن إخراجهم إلى مناطق نائية، ووضعهم في ظروف قاسية، ليعيشوا ضمن ظروف مشابهة للظروف التي عاشها الرسول محمد وصحابته"، يقول المصدر، ويضيف "تتراوح أعمار الأطفال الخاضعين لهذه المعسكرات بين 16 و20 عاماً، فيما يتم تعليم من هم أصغر سناً وفق منهاج ديني دقيق، وضعه علماء أصوليون".
وانتشرت في الآونة الأخيرة ظاهرة "تحية القاعدة" بين نسبة من أطفال مدينة حلب، وهي تحية تعتمد مد سبابة اليد اليمنى وإطباق بقية الأصابع الأربع، في وضعية تشبه وضعية التشهّد المعروفة: أشهد أن لا إله إلا الله.
من الكتب التي يتم تدريسها للأطفال المنخرطين في معسكرات التدريب يذكر المصدر "كتاب الأصول الثلاثة" لمحمد بن عبد الوهاب، وكتاب "بيان حقيقة التوحيد الذي جاءت به الرسل وضحد الشبهات التي أثيرت حوله" لصالح صالح بن خوزان خوزان وهو عضو هيئة كبار علماء السعودية وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية.
وكتاب "كيف نفهم التوحيد" للشيخ محمد بن احمد باشميل، وكتاب "حقيقة شهادة أن محمد رسول الله" وهو من كتابة مفتي السعودية الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ، وكتاب "نصيحة جامعة ووصية نافعة" لكاتبه الشيخ فيصل بن عبد العزيز آل مبارك، وكتاب "سلم الوصول إلى الفرقة الناجية" وكتبه شخص يدعى أبو إبراهيم واطلع عليه الشيخ صالح بن عبد العزيز بن عثمان هادي.
"ليس كل من ينخرط في هذه المعسكرات يتحول إلى انتحاري"، يشرح المصدر، ويتابع "يتم انتقاء الانتحاريين بعناية فائقة، وينظر خلال انتقائهم إلى ظروف حياتهم، ويفضل عادة من فقد أسرته، أو بعضاً منها".
ويضيف "يتم نقل من يتم اختيارهم إلى مراكز خاصة، ويخضعون لبرامج نفسية مركزة، تعتمد على الشحن النفسي المقرون بمشاهد العنف لإثارة غضبهم، بالتوازي مع التركيز على الجائزة التي تنتظره في الجنة، السكينة، المغريات بشتى أنواعها، ويترك بمفرده لفترات طويلة لترسيخ الفكرة، وعندما يصبح جاهزا يتم تحويله لانتقاء العملية المناسبة له".
وفي الوقت الذي لا يمكن فيه تحديد عدد الأطفال السوريين الذين انخرطوا في هذا النوع من المعسكرات "الجهادية"، يقول المصدر إن عدداً كبيراً من "الانتحاريين" هم من المراهقين. ويشرح "المراهق هو الهدف الأسهل، فشحنه عاطفياً وإعداده لا يستغرق وقتاً طويلاً".
وفيما تعتبر "جبهة النصرة" أولى الجماعات المتشددة التي تبنت مفهوم العمليات الانتحارية في سوريا، قبل أكثر من عامين، يؤكد المصدر أن تنظيم "داعش" أكثر معرفة وخبرة بهذا النوع من العمليات، ويقوم على إعداد "كوادر جديدة متنامية من الانتحاريين وفق منهج يبدأ من مرحلة الطفولة وحتى مراحل الحياة الأخرى".
ويضيف "يعملون وفق استراتيجية متكاملة، ويستفيدون من خبراتهم في أفغانستان، والعراق. إنهم شديدو الذكاء، ويستفيدون إلى أقصى درجة من حالة الفوضى التي يعيشها المجتمع السوري، وسط غياب مظاهر الحياة المدنية، والخدمات بمختلف أنواعها، أهمها التعليمية"، قبل أن يختم بالقول "إنهم يتقنون بالفعل صناعة الموت".
المصدر: الخبر
إضافة تعليق جديد