«داعش وعودة الجهاديين»
التحولات السياسية العاصفة في الشرق الاوسط، وخاصة في سوريا والعراق، لا تزال تخضع لتفسيرات وتأويلات متباينة ومتناقضة. فهل ما يحدث يصب في خانة التحول الديموقراطي وسقوط أنظمة الاستبداد، ام انه على عكس ذلك تماماً، يؤسس لأنظمة تيوقراطية متخلفة موغلة في الماضوية ليس في اجندتها أي حساب لحقوق الانسان والمساواة المواطنية أو الإنسانية؟
في هذا الاطار يركز باتريك كوكبيرن في «داعش، عودة الجهاديين» دار الساقي 2015، على تطورات عدة، اهمها نهوض جماعات من نوع «القاعدة» تسيطر اليوم على منطقة شمال وغرب العراق وشمال وشرق سوريا. وهي منطقة أضخم بمئات المرات من أي منطقة كانت تحت سيطرة بن لادن، الذي اعتبر قتله العام 2011 ضربة قاسية للارهاب العالمي. لكن، على العكس من ذلك، أحرزت فروع «القاعدة» والجماعات التي تقلدها أضخم نجاحاتها التي تضمنت الاستيلاء على الرقة شرق سوريا العام 2013، وعلى الفلوجة القريبة من بغداد العام 2014. ومع توسع سلطتها واعتداءاتها وسط العراق وشماله، حلت «داعش» مكان «القاعدة» كأقوى مجموعة جهادية وأكثرها سيطرة في العالم.
شكلت هذه التطورات صدمة للكثيرين في الغرب، حتى ان اوباما اعتبر ان التهديد الرئيسي للولايات المتحدة لم يعد يأتي من تنظيم «القاعدة» المركزي بل من «تنظيمات القاعدة غير المركزية التي تزداد قدرة على الانتقام منا»، وعليه طلب اوباما من الكونغرس 500 مليون دولار لتدريب وتجهيز المعارضة السورية. لكن ذلك ليس إلا تضليلاً للذات في رأي المؤلف، فـ «داعش» و «النصرة»، الممثلان الرسميان لـ «القاعدة»، يهيمنان على المعارضة السورية، ولن يكون هناك أي حظ للحرب على الارهاب من دون مواجهة فعلية مع السعودية وباكستان وتركيا. فالسعودية كما يرى كوكبيرن، تلعب دوراً بارزاً في دعم الجهاديين، ليس بالموارد المالية وحدها، بل بالترويج للوهابية التي تصنف النساء كمواطنين من الدرجة الثانية، وتنظر الى الشيعة والصوفيين والمسيحيين بوصفهم هراطقة وزنادقة يجب اضطهادهم. ان ايديولوجية «القاعدة» و «داعش» ترتكز على الكثير من مبادئ الوهابية، كما ان الجهاديين يمكنهم فقط الوصول الى سوريا والعراق على امتداد الحدود التركية من دون أي عرقلة أو تدخل من قبل السلطات التركية.
هكذا رأى المؤلف ان تنظيمات «القاعدة» باتت قوة عظيمة بطاشة في منطقة تمتد من مقاطعة ديالى شمال شرق بغداد الى شمال اللاذقية على البحر المتوسط، بحيث أصبح وادي الفرات بأسره مروراً بغرب العراق وشرق سوريا وصولاً الى حدود تركيا تحت حكم «داعش» أو «جبهة النصرة»، وهي منطقة بحجم بريطانيا، أما المنطقة حيث يمكنهما القيام بالعمليات فهي أكبر بكثير، اذ لم يعد للحدود السورية العراقية من وجود، فضلاً عن ان حنكة وخبرة «داعش» العسكرية اهم واكبر بكثير من حنكة وخبرة تنظيم «القاعدة»، حتى في قمة نجاحه.
ويرى المؤلف انه لمن الوهم المراهنة على تنظيمات علمانية في الحراك ضد نظام الاسد، فالمعارضة المسلحة يسيطر عليها جهاديون يرغبون في انشاء دولة اسلامية، وفي صفوفهم مقاتلون اجانب لديهم سجل إجرامي باقتراف مجازر في حق الاقليات في سوريا، ومنها العلويون والمسيحيون.
وإذ يتطرق المؤلف الى الاسباب المباشرة لانبعاث «داعش» وتمددها، يرى ان ثمة ضعفاً حقيقياً في قوات الامن العراقية المؤلفة من 350000 جندي و650000 شرطي. فالسلطة منقسمة، وقد ساعدت الانقسامات «داعش» على التحرك في العراق بقوة اكبر واسرع. فضلاً عن ذلك، فقد نخر الفساد الجيش العراقي، فلم يكن الجيش الحالي جيشاً وطنياً، ولم يكن جنوده مهتمين بغير رواتبهم، فيما الحكومة العراقية هي عبارة عن فساد مؤسساتي مستفحل يسمم حياة العراقيين ولا يقتصر فقط على سرقة عائدات النفط من قبل طبقة من السياسيين والاحزاب والمسؤولين، إذ إن عقوبات الامم المتحدة دمرت المجتمع العراقي في التسعينيات، ثم دمر الغزو الاميركي الدولة بعد سنة 2003.
تمكنت «داعش» من استغلال الحس المتنامي بالاضطهاد بين سنة العراق، وحتى سنة 2012، كان الكثير من السنة يأملون ببعض التنازلات من الحكومة، لكن مخططاتها السيئة أدت الى انبعاث الجهاديين المذهل وتعاطف فئات شعبية مع هؤلاء، حتى ان الكثيرين من اهل الموصل باتوا يفضلونهم على قوات حكومة المالكي.
في قراءة لمآل الثورة السورية، رأى المؤلف ان حالة الانحطاط السائدة في هذه الثورة نابعة من الانقسامات السياسية والدينية والاقتصادية العميقة في البلاد والتي زاد التدخل الخارجي من تفاقمها. فقد اقترف العالم الخارجي وكذلك المعارضة أخطاء كبيرة، كان أخطرها الاعتقاد بأن الاسد سيتعرض للهزيمة نفسها التي تعرض لها القذافي، وعندما فشلت تلك التوقعات لم تكن هناك خطة بديلة. فالمشهد السياسي في سوريا مختلط اكثر بكثير مما يبدو من الخارج، ونظراً الى ان حركة التمرد الآن خاضعة لـ «داعش» و «النصرة»، فمن المستبعد ان ترغب حتى واشنطن ولندن والرياض في رؤية الاسد مهزوماً. ولقد بات العديد من السوريين الآن يرون ان نتيجة حربهم مرهونة بالخارج، ولعلهم محقون في ذلك.
يحمّل المؤلف السعودية مسؤولية اساسية في العنف الدائر في سوريا والعراق، فالتورط السعودي كان على المدى الطويل اعمق واكبر من مجرد التمويل، مع مجيء المزيد من المقاتلين الى سوريا من السعودية اكثر من اي بلد آخر. وقد قلل التدخل السعودي، بالاضافة الى تدخل قطر وتركيا، من شأن التغيير الديموقراطي العلماني كإيديولوجية للانتفاضة، التي تحولت الى مسعى طائفي للوصول الى السلطة. لكن المؤلف يستدرك بالقول ان السعوديين يساورهم القلق من عودة الجهاديين، وثمة دلائل تفيد بأن الحكام السعوديين قد يكونون نادمين الآن لإعطائهم هذا الكم الكبير من الدعم للجهاديين في محاولتهم إطاحة الأسد، وبخاصة بعد تحول العديد من مقاتلي المعارضة الى لصوص مبتزين وقطاع طرق عندما تولوا السلطة في المناطق الواقعة تحت سيطرة الثوار. إلا ان المؤلف مع ذلك يبقى على إصراره بأنه ما لم تعترف الولايات المتحدة والغرب بأن السعودية وباكستان هما السبب الاساسي في الترويج للتطرف الإسلامي، فلن يحصل أي تقدم حقيقي في المعركة لعزل الجهاديين. وهو بهذا يتجاهل أسباباً كثيرة اخرى تقف وراء الارهاب، وقد اشار اليها، اذ أكد ان الاغلبية السورية ترى ان رواتبها في ركود، وان ما بين مليونين وثلاثة ملايين سوري يعيشون في فقر مدقع، وان أفراداً من الاستخبارات يحاولون البقاء على قيد الحياة براتب 200 دولار في الشهر.
النتيجة التي خلص اليها المؤلف هي ان المعارضة ترزح تحت ثقل الاحداث، وانها تفتقر الى أي رؤية لدولة غير سلطوية قادرة على منافسة التعصب الديني لمسلحي «داعش» والحركات المماثلة لها. وها قد دخل الشرق الاوسط مرحلة طويلة من الغليان، يمكن ان تثبت ان توطد الثورة المضادة صعب بصعوبة الثورة نفسها.
(]) باتريك كوكبيرن «داعش وعودة الجهاديين» دار الساقي 2015 ترجمة ميشلين حبيب، 191 صفحة.
كرم الحلو
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد