أدونيس: مكان آخر بين المعارضة والموالاة (1)
- 1 –
لو استخدمنا «لغة» اليسار واليمين، الشائعة في الأوساط الثقافية العربية، فمَن بين المثقفين العرب يمكن أن نصفه بأنه «يساري» حقاً، ومَن بينهم يمكن أن نصفه بأنه «يميني»، حقاً؟
وما يكون المعيار؟
هل يكفي، مثلاً، أن ينتقد المثقف العربي السياسة الأميركية أو الأميركية - الإسرائيلية، لكي يكون يسارياً – علماً أن بين أشد نُقادها، اليوم، أشخاصاً ينتمون الى الجهات التي تُعدّ، تقليدياً، يمينية؟
هل يكفي، مثلاً ثانياً، أن يكون هذا المثقف الى جانب القضية الفلسطينية لكي يكون يسارياً – علماً أن القوة الفلسطينية الأكثر جذرية وحيوية، في هذه القضية، هي في الجهة التي تُعدّ يمينية؟
هل يكفي، مثلاً ثالثاً، أن ينتقد هذا المثقف النظام السوري أو السعودي، المصري أو الجزائري القطري أو الليبي، تمثيلاً لا حصراً، لكي يكون يسارياً – علماً أن دعم اليسار، مالياً على الأقل، يجيء من هذه الأنظمة، غالباً؟
هل يكفي، مثلاً رابعاً، كون هذا المثقف صديقاً لمسؤول كبير في نظام يساري لكي نطلق عليه صفة اليساري، أو مسؤول كبير، في نظام يميني لكي نطلق عليه صفة اليميني؟
وفي لبنان، تحديداً، مثلاً خامساً: أين الحدود التي تفصل بين اليسار واليمين؟
أخيراً، كيف نحدد اليوم اليسار في البلدان العربية، وكيف نحدد اليمين؟
- 2 –
المعيار الشائع في إطلاق صفة «يميني» أو «يساري» على المثقف لا يستند الى قاعدة صلبة: الى فكر هذا المثقف، أو الى رؤيته. انه يستند، على العكس، الى المظهر السياسي المباشر الذي تحكمه الصداقات أو العداوات بين الأشخاص، أو تحكمه المصالح والمنافع المباشرة، أو تحكمه الظروف والمناسبات والعلاقات. وهو، إذاً، معيار سطحي، لا يُعتمد عليه، ولا يجوز الأخذ به. إنه يصدر، غالباً، عن عقلية بدائية – سحرية «تصبغ» بصبغة اليمين أو اليسار، من تشاء، كما تشاء، ساعة تشاء. وتمحو هذه «الصبغة»، بالسطحية نفسها، واللامسؤولية الأخلاقية والمعرفية نفسها. إنها عقلية تماهي بين الشخص والنظام، وبين الشعب والنظام، وبين البلد والنظام وهي لا ترى أن للشخص وجوداً مستقلاً عن المؤسسة التي يعمل فيها. وهي لا تتردد في أن تطمس «هوية» الشخص، فلا ترى منها إلا جانباً واحداً يلغي جميع الجوانب الأخرى. كأن لا ترى إلا جملة أو صفحة واحدة من كاتب كتب عشرات الكتب. أو كأن لا ترى من تاريخ طويل إلا «واقعة» واحدة تحكم بها عليه، شخصياً، وعلى تاريخه كله. وثمة أعمال وأقوال يقوم بها شخص فتتهمه هذه العقلية على أساسها، بأنه «يميني» – ويقوم بها ذاتها وبأخطر منها شخص آخر، وتُصِرّ مع ذلك على الاستمرار في القول عنه إنه «يساري»! إنها عقلية بائسة شائعة تهين السياسة والفكر وتشوّه كل شيء.
- 3 –
يُفترض في جميع القوى السياسية والفكرية التي تعارض اليمين، انها تعارض استمرار «وضع» يُعيق النموّ والتقدم، ويعطل الحياة الحرة الكريمة.
لذلك يفترض فيها أن تصدر في معارضتها عن رؤية إنسانية – ثقافية عميقة وشاملة، لا يكون الجانب السياسي فيها إلا جزءاً من كل. غير أن التجربة، منذ خمسينات القرن الماضي، تؤكد ما يتناقض مع هذا الافتراض. فقد أثبت المعارضون السابقون الذين وصلوا الى السلطة أنهم لا يرون من ذلك «الوضع» إلا جانب الحكم، أو الجانب السياسي الخالص في النظام الذي ورثوه. كأنهم كانوا يقلّصون المعارضة في تنحية السياسيين الحاكمين لكي يحلّوا محلهم. ولا تزال المعارضة تمارس هذه السياسة: النضال من أجل استلام السلطة، في معزل عن الكلّ الاجتماعي – الثقافي – الديني. هكذا لم يتغير شيء، على الرغم من وصول كثير من المعارضات العربية الى السلطة. بل، على العكس، ازدادت الأشياء سوءاً.
الحكم «ثمرة». وعلى المعارضة إذا كانت تريد فعلاً أن تذهب في التغيير، كما تدعي، الى ابعد من الإطاحة بالحكم ورجاله، أن تعالج «الشجرة» نفسها: بنية المجتمع – ثقافة، وقيماً، وعلاقات. وانعدام هذه المعالجة هو في أساس تحويل المعارضة الى مجرد وجه آخر للأنظمة التي عارضتها. وفي كثير من الحالات كان هذا الوجه أكثر بشاعة من الوجه الذي سبقه.
- 4 –
يُفترض كذلك في قوى المعارضة، وبخاصة اليسارية، أن تعي، مهما أوغلت في كلامها على «التحديث» أن هويتها التاريخية والثقافية متأصلة في اللغة العربية – لغتها الأم، وأن الدين هو الذي أسس للفكر العربي، ومنه اشتُقّت المناهج التي أسست لتاريخ هذا الفكر. وعليها، إذاً، أن تتساءل، بدئياً، عما إذا كان «العقل الديني» الذي عالج قضايا البشر في الماضي، وابتكر لها الحلول التي رآها صالحة أو ملائمة، لا يزال هو نفسه العقل الذي ينبغي أن تُعالج به قضايا البشر، اليوم؟ إن كان الجواب: نعم، فلماذا المعارضة، وما يكون معناها خارج التسلّط والمصالح والمنافع؟ وإذا كان الجواب: لا، فلماذا لا تعلن المعارضة، وبخاصة اليسارية، القطيعة الكاملة مع ذلك «العقل الديني»، وتجليّاته وانبعاثاته وامتداداته الراهنة، لا في السياسة وحدها، بل كذلك في التربية والثقافة، في الفكر والفن والأدب، وفي كل ما يتعلق بالحياة الاجتماعية؟
ولماذا لا تتذكر المعارضة تاريخها، فتتذكر كيف انها كانت حريصة على محو الأسئلة المتعلقة بهذه القطيعة؟ وكيف كانت تغطيها بتلك «النار» النضالية التي تشعلها على سطح الحاضر؟ إنها في ذلك تمحو الذاكرة التاريخية. وإلغاء هذه الذاكرة إنما هو في الوقت نفسه إلغاء لمعرفة الماضي. وإلغاء هذه المعرفة في مجتمع كالمجتمع العربي إلغاء، في الوقت نفسه، لمعرفة الحاضر.
- 5 –
اليوم، اليوم خصوصاً: لأي هدف «تقدمي»، تتحالف قوى المعارضة اليسارية في البلدان العربية مع تيارات لا مسوّغ لوجودها غير الطائفية، أو غير المذهبية الدينية؟
أليس هذا التحالف، سابقاً وراهناً، في أساس التراجع الثقافي العام، وفي أساس نموّ الأصوليات؟ وها هي هذه الأصوليات، في مختلف أشكالها، آخذة في تنشئة الأجيال الطالعة – بفضل المناخ الذي هيأته القوى اليسارية نفسها. هذا «الفضل» الذي يجيء أحياناً من السلطة (اليسارية) القائمة في البلدان العربية، وبخاصة في سورية، يوفر للأصوليات ثلاثة أنواع من «الهيمنة»:
1 – النوع الأول عضوي يقوم على تمتين العلاقات بالموروث، على نحو تعصبي، مُغلق، ولا إنساني. في البيت، والمدرسة، والجامعة، وفي الحياة اليومية – ثقافة، وقيماً، وسلوكاً.
2 – النوع الثاني تركيبي يقوم على أدلجة الدين، بشكل تبسيطي تعليمي، يلغي أبعاده الروحية، والإنسانية، والحضارية. وهي أدلجة لا تتمحور حول التأسيس لعالم إنساني جديد، بل حول الخلاص من «الجحيم» الأرضي: الكُفر وأهل الكفر، سعياً الى دخول «الجنة»، والإقامة فيها، أبدياً.
3 – النوع الثالث عمليّ، يقوم على فكرة الجهاد – الحرب. وإذاً، على فكرة الشهادة، والتضحية، كيفما كان، حتى «النصر الأخير».
وهي أنواع تتداخل في نوع واحد، غالباً، محكم التنظيم، محكم القيادة، محكم العمل.
فكيف تسوّغ قوى المعارضة اليسارية وقوفها الى جانب هذه الأصوليات؟ وما دوافعها؟
هذا، دون أن نشير الى إمكان «تجدد» العادة اليسارية: افتراس اليساريين بعضهم بعضاً.
ولا تزال قريبة العهد تلك التجربة الفريدة في اليمن الديموقراطية. فهي تقدّم عن هذا الافتراس النموذج العربي الأكثر سطوعاً.
أدونيس
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد