الآخر (العربي) كما يراه «المغلوبون»

06-05-2011

الآخر (العربي) كما يراه «المغلوبون»

في «الفتوحات العربية في رواية المغلوبين» (دار الساقي) يقدّم حسام عيتاني مادة تاريخية مقارنة، يرصد فيها رؤى الجماعات الدينية والإثنية تجاه الآخر العربي المسلم، الخارج من الصحراء، عبر الفتح، إلى عوالم جديدة. من هم العرب؟ بدءاً من هذا السؤال، يتحرى الكاتب التسميات التي أطلقها «المغلوبون» على الغزاة الجدد. المصادر التاريخية لا تعطي تسمية موحدة لهويتهم. وعلى قدر الالتباس الذي أثارته، تعددت الألقاب من السراسنة والهاجريين، إلى الطائيين والإسماعيليين.
منذ عام 634، دشن العرب فتوحاتهم في ذروة الصراع الفارسي ـــــ البيزنطي. الشعوب المغلوبة نظرت إليهم من زاوية ماورائية، وجاء الفتح بمثابة العقاب على ذنوبها. وهنا يستشهد الكاتب بعظات بعض رجال الدين في الإمبراطورية البيزنطية الذين أدانوا المدّ العربي، وعدّوه عقاباً على البدع الدينية التي غزت الكنيسة من دون أن يتوانوا عن اعتبارهم «أعداءَ الله والمجدفين على المسيح».
المتخيّل المسيحي القديم لم يرَ في الإسلام إلّا ذاك الدين الهمجي الآتي من الجزيرة. هذا المتخيّل اتخذ مسارات تراكمية، بدأ بعقاب «الذات الخاطئة»، وانتهى إلى التأسيس للنظريات القائلة بالمركزية الأوروبية في العصر الراهن. يجري صاحب «هويات كثيرة وحيرة واحدة» مقارنةً بين النظرتين القديمة والحديثة لتاريخ الفتوحات العربية، فيتعقّب دور الأدبيات الاستشراقية التي أسبغت أيضاً صوراً عنفيّة على ذاك العربي/ المسلم.
المستشرقون حاولوا تفسير الفتوحات على قاعدة الإفراط الإيديولوجي من جهة، والعامل الاقتصادي من جهة ثانية، ما يعني أنّ الفتوحات لم تهدف إلى نشر الدعوة المحمدية، بل الاستيلاء على ثروات الشعوب المغلوبة. لكن للحروب الصليبية أهداف اقتصادية هي «الاستيلاء على ثروات الشرق» تحت راية الصليب. في معركة اليرموك، حسم العرب وجودهم في سوريا، ولم تكن مدونات المؤرخين البيزنطيين أقلّ صخباً من عشايا بداية الفتح. فالهزائم تولِّد التخيلات من باب المعطى الديني... لكنَّ المستفاد من وصول الفاتحين المسلمين إلى بلاد الشام هو الآتي: بداية نهاية الثقافة الهيلينية، وتراجع دور المسيحيين الشرقيين، كما يلفت الكاتب. العامل الأخير ما زال حتى اللحظة يمثّل مساراً للجدال الديني السياسي الذي ظهر منذ طرح ما سُمي «المسألة الشرقية».
توالت أفكار المغلوبين في سرد الفتح العربي لمصر. كتاب «تاريخ البطاركة» ـــــ عبارة عن وثائق كنسية قبطية ـــــ يصوِّر قدوم الغزاة بأسلوب دموي. ارتكب الإسماعيليون المجازر في أرض الكنانة: عمرو بن العاص ارتكب ما لا يحصى من أعمال العنف، والمصريون تركوا إيمانهم وتبعوا إيمان هذا «المخلوق الكريه»، وخدم المسيح أصبحوا أعداء الله، هذا ما يسرده يوحنا من نيقوس في حولياته. العلاقات الإيرانية ـــــ العربية في إشكالياتها التاريخية والمعاصرة، تمثل امتداداً للآخر الملتبس في ذاكرة العرب والإيرانيين معاً. بلاد فارس أصابها الفتح العربي بصدمة جرحية، ما زالت قائمة حتى الأزمنة الراهنة. لا يحفل التاريخ الإيراني، كما يشير عيتاني، بالمعلومات الكافية لتحديد العلاقة بين الفاتح الإسلامي وبلاد فارس. مجدداً، تحلُّ «النبوءات مكان التاريخ»، لكنّ هذا لا يمنع توافر بعض المصادر التي تروي تاريخ الفتح العربي لإيران، ومنها «تاريخ الرسل والملوك» للطبري، «وذكر أخبار أصبهان» للحافظ الأصبهاني.
رؤية الجماعات اليهودية للفتوحات الإسلامية التصقت بالبعد التوراتي. اليهود رحبوا بدايةً بالفاتحين العرب، تحت شعار الخلاص الإلهي الذي سينتشلهم من البيزنطيين. وبناءً على هذا، تذكر النصوص اليهودية، كما يلفت الكاتب، الكثير مما يمكن تسميته «أدبيات التحرير الخلاصي» التي تبدأ مع نبوءة أشعيا، وتعرِّج على اللقاء الذي جمع الخليفة عمر بن الخطاب بكعب الأحبار. عمر أو «الفاروق» ـــــ والكلمة من أصل آرامي تعني المخلص ـــــ لقي حظوة عند اليهود بعد فتح فلسطين.
صورة الآخر المسلم عند المسيحية اصطدمت بالخلاف الديني/ السياسي. حالما ظهر الإسلام، حوّل النسق البيزنطي «آخرويته» من البرابرة إلى المسلمين واليهود. الخلاصات البيزنطية استندت إلى ثنائية المؤمنين وغير المؤمنين، والفقه الإسلامي المتأخر تأثر فيها، فقسم العالم إلى دار الإسلام ودار الحرب. وبناءً على التصنيف الدوري الذي وضعه القديس أوغسطينوس للعالم، تبادل «أعداء المسيح» أدوارهم، فحلّ الإسلام بفتوحاته مكان روما، «عاهرة بابل» التي نكّلت بالمسيحيين الأوائل قبل «تنصر الإمبراطور قسطنين».
الرؤية المسيحية/ الغربية للآخر المسلم ارتبطت بالمقياس الديني الذي تقاس على أساسه تراتبية الحضارات. ورغم القطيعة التي أحدثتها مع الدين، ما زالت الذهنية الالتباسية حول الإسلام العنيف والمسلم الهمجي حاضرة. ولعلّ أزمة المآذن في سويسرا مثال ساطع، من دون أن يعني ذلك الترويج لصحوة الهويات في الغرب.
«الفتوحات العربية في رواية المغلوبين» أطروحة علمية تعتمد المنهجية التاريخية المقارنة، وكثافة المعلومات، وتتجنب الانزلاق نحو الخطاب الإنشائي. وقد رفد الكاتب بحثه بقائمة غنيّة ومنوّعة من المراجع العربيّة والأجنبية.

ريتا فرج

المصدر: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...