الأوقاف في سورة الأحقاف
الجمل ـ د.نزار العاني:
جاء في سورة الأحقاف : (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ) وجاء : ( إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) 15. صدق الله العظيم . فلماذا تمطر وتبرق وترعد سماء وزارة الأوقاف بعدما أعلن الكاتب وعضو مجلس الشعب "نبيل صالح" أنه عمل بالوصية ، وأعلن التوبة ، ونحن على أرضٍ سورية ليست قاحلة كما تصف الآية الكريمة ، ولسنا مثل قوم عاد الذين عاشوا في الربع الخالي في الجزيرة العربية ، تحاصرهم الرمال والنقص في الجمال وقلة الأكل والمال . فما شأن وزارة الأوقاف السورية بأمر علاقة المذكور أعلاه وعلاقتنا بربّنا؟
وجاء في السورة : (إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ)23، فلماذا تتعالم الوزارة فوق علم الله وتزعم أنها ستنقلنا بطرفة عين إلى الجنة الأرضية . هو الله وحده الذي وعد عباده الصالحين - وأظن أن "نبيل صالح" من بينهم كما يشير إلى ذلك إسم عائلته - بقوله : (وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ ) 16، فما بال الوزارة العتيدة تنذر ، وترغي وتزبد ، وتتهم معظمنا بداعي التقيّة بالإفك المحتمل ، وبالإستكبار ، وتهددنا باحتمال الحرق بالنار والعذاب ، إن نحن لم نبصم لها بالإستغفار ، وقد جاء صريحاً في الأحقاف لا الأوقاف : (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم) 8 . هي البدعة وأساطير الأولين وضلال مبين في مطلع القرن الواحد والعشرين .
يا سادة يا كرام : منذ نشرت مقالتي الأولى في جريدة الثورة السورية أواسط العام 1964 وإلى اليوم ، وأنا لا أقترب أبداً من قضايا الدين ، لألف سبب وسبب ، وأهمها انشغالي واشتغالي بأمر الدنيا وبهذا العالم اللعين ، وأخرج من هذه القاعدة بهذا المقال الإستثناء الذي يوضح موقفي من "حضارة الإسلام" ، وهو العنوان المحبب للمفكر الإسلامي مصطفى السباعي .
1- يقول عبد الرحمن بدوي : (الحضارة الإسلامية تقوم على أسس حضارية ثلاثة ...أولاً الشرق القديم خصوصا فيما يتصل بالنبوة السامية والشريعة الموسوية والثنائية والتصورات الأخروية الفارسية ، والصورة التي رسمها البابليون للكون.والأساس الثاني هو الحضارة اليونانية الرومانية على صورة الهلينية وبخاصة فيما يتعلق بالحياة اليومية وبالعلم والفن . والثالث والأخير : المسيحية ما لها من عقائد وتصوف ) 1 . هذه النزعة الإنسانية يجب أن تسود وتلقى الإهتمام والتجاوب .
2- هناك من يقرأ واقعنا أفضل منا . أحد هؤلاء المستشرقين مكسيم رودنسون الذي كتب تشخيصا جارحاً وصادقاً في آنٍ معاً لحضارتنا الإسلامية ، إذ أنه يقول تحت عنوان المثل الأعلى والواقع : (الطريق الذي اختطته إلى الخلاص كل من المسيحية .. والبوذية باتجاه التحرر من سلسلة آلام الإنبعاث المتجدد، كانت ناجعة . لكن المسلمين خلال أربعة عشر قرناً من مراعاة التعليمات الإلهية بدقة.. توجب عليهم أن يشاهدوا ، والأسى يملأ قلوبهم أن المجتمع الإسلامي، كان مليئاً بالظلم ..) 2. أفما آن الأوان أن نقلد إجرائيا الذين انبعثوا قبلنا وتجاوزوا تراثهم وعقيدتهم ، كي نحجز مكاناً لنا في واقع هذا العصر المعقد والمتشابك .
3- المستشرق الفرنسي الذي أسلم ودافع عن عقيدتنا ، وأقصد روجيه غارودي، له جملة حكيمة تقول : ( التطرف الإسلامي مرض الإسلام ، كما أن الأصولية مرض جميع الأديان)3 . ويرى غارودي أن الأديان فشلت في حل المشكلات الإقتصادية والسياسية ، ويسأل : ( لِمَ لَم تستجب إلى ذلك الدياناتُ المؤسّسيةُ ؟ لا الكنيسةُ المسيطرةُ لدى المُسيطرين: الكنيسة الكاثوليكية ؛ ولا الدينُ المُسيطر لدى المُسَيطر عليهم : الإسلام ) 4 . وبشيءٍ من الشجاعة يمكننا تفادي هذه الورطة بالقفز إلى حلول العَلمانية الوضعية للمشكلات الموصوفة أعلاه . ووزارة الأوقاف السورية تورط نفسها بمسائل اقتصادية وسياسية أرضية لا شأن لحكمة السموات والدين بها .
4- يرى الدكتور نصر حامد أبو زيد أن كل موقف أو تحرك أو تجمع ديني إسلامي سينضوي حتماً في إرساء سلطة سياسية مقدسة تناهض الدولة . القطبة الخفية في تحرك وزارة الأوقاف هي الصراع على السلطة السياسية تحت قناع ديني . يكتب أبو زيد : (آن الأوان للّعب على المكشوف لحسم القضايا على أرض الفكر .آن الأوان لكي نناقش مفهوم العَلمانية ومفهوم الإسلام معاً، وربما نجد أن الإسلام دين عَلماني لو أحسنّا الفهم والتدبر : تدبّر النصوص والتاريخ والواقع في الوقت نفسه) 5 .معنى الكلام فصل الدين عن الدولة ونقطة على السطر .
5- منذ خمسين سنة وأكثر قرأت كل مؤلفات المفكر الإسلامي المصري الأزهري "خالد محمد خالد" ، ولم يعد الإسم ولا كتبه متداولة اليوم ، ربما لوسطيته واعتداله .وسأذكر عناوين كتبه التي لها دلالات كاشفة لأولئك الذين يعتقدون أن في الدين وحده خلاص البشر ، ولا طريق آخر يفضي إلى هذا الخلاص .وٍسأعلق على العناوين وأسوق نماذج ومأثورات من الكتب .
- (الدين في خدمة الشعب)6 ... خدمة الشعب وليس خدمة رجال الدين والمشايخ والوزراء . يكتب فيه عن المرأة : (سيدتي ..إن العمل يجلو الشخصية ويجدد شبابها ، ويجعلك في المجتمع خيراً لا غنى عنه ..)7 .
- (من هنا نبدأ) 8 ... هناك مكان وزمان وفكر جديد يتوجب أن نبدأ منه ، والعودة إلى الماضي دائماً ليست محمودة . و الفصل الأول يحمل العنوان التالي : الدين لا الكهانة . ويرى العالم أن الكهانة بدأت تتسرب إلى مفاصل الدين ، وهذا لا يبشر بالخير . يكتب عن الزكاة والصدقة التي تريد وزارة أوقافنا تحويلها إلى معبرٍ ضريبي فاحش : (إن الإسلام حين دعا إلى العدل والتكافل الإجتماعي ، لم تكن الصدقة في حسابه قط كوسيلة تنهض بها حياة الشعب ..بل هي شيء يشبه "أكل الميتة" فتباح لبعض الأفراد الذين لا يجدون ما يقيم الأود ويمسك الرمق .. فلقد وضع عليه السلام الصدقة في مكانها اللائق بها حين قال :"إنها أوساخ الناس .. إنها غسالة ذنوب الناس" )9 . وحين امتدت يد حفيده الحسن نحو تمرة من تمر الصدقة ، انتزعها منه وهو يقول له كخ . كخ. وأن الرسول ، (في الوقت الذي حقر فيه الصدقة والمسألة، راح يمجد العمل وحده)10 . بمعنى أن الإسلام لايريد من المسلم أن يلبس ثوب الذل والسؤال (الشحاذة) وأن يكون عبداً "للسيّد" الذي يتولى توزيع الصدقة أو الزكاة والضريبة الإسلامية ،( حيث تمتد اليد السفلى لتلتقط ما يهبط عليها من اليد العليا )11 وهي سياسة مرسومة تحافظ على معادلة ( العبد عبد والسيد سيد) 12.
- (الديمقراطية .. أولاً)13 .. ولا خوف ولا حذر عند هذا العالم من استخدام مصطلح غربي محض ، ويصف الديمقراطية بأنها ضرورة أخلاقية . ويكتب الرجل : (أسمع غمغمة استنكار وتذمر .. وأسمع همهمة سؤال يقول : إذا كنتَ قد نفيتَ عن الدين ، الحكومة الدينية ، والقوانين الدينية،وتوشك اليوم أن تنفي الأخلاق الدينية .. فماذا أبقيت للدين إذن؟؟) 14. وكتب آخرون من السوريين أن وزارة أوقافنا العتيدة شرعت في حَبْك منظومة حكومة دينية داخل الدولة ، وهذا مالا يقبله العقل المثقف العارف في عصرنا هذا . فكيف يرد مفكرنا الرائد على التهمة ؟ يقول : (أجل، إن إنسان هذا العصر إنسان جديد ،خالق قيم ،ورائد حضارة .. وهو إذ يرفض أن يكون امتداداً أفقياً لسلفه ، يريد أن يكون امتداداً رأسياً صاعداً .. ولم يعد هدفه في الحياة أن يفلسفها، بل أن يحياها .. فلنسأل الله .. أن ينفعنا بعقولنا ، وأن يجعل اهتمامنا بالمستقبل أكثر من اهتمامنا بالماضي ..)15.
- (الديمقراطية ..أبداً) 16 . في هذا الكتاب يلح العالم خالد محمد خالد على أن طوق النجاة لهذه الأمة الغارقة في التخلف هو المزيد من الديمقراطية ،عجرها وبجرها أي مهما تكن عيوبها الظاهرة والباطنة . ولم تعد "الكينونة" هي الوصف الملائم للحياة ، بل "الصيرورة" ، وهذه الأخيرة تقتضي الإنتقال من التشريع الديني إلى التشريع الإنساني ، والإستفادة من إنجازات المدنية . لقد قال الرسول : (أنتم أعلم بشؤون دنياكم) 17. وينقل عن "سافيني" في الصفحة ذاتها قوله : ( إن القوانين تخرج من فطرة الشعوب واحتياجاتها، كما يخرج النبات من الأرض) ، وأن (المدنية : موكب واحد) 18 . فما بال "أوقافنا" يتوقف بنا عند تربية شريحة من الشباب على شاكلة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي نبذها نظام الحكم السعودي ، وهو الذي ابتدعها . }تيتي تيتي ، مثل ما رحتِ مثل ماجيتِ{ ومن الدولة الشمولية إل الفاشية الدينية !
- (مواطنون ..لا رعايا) 19. سورية ليست أمارة إسلامية ، وأراد لها الخليفة أبو بكر البغدادي أن تكون رأس جسر هي والعراق لخلافة جديدة ونكون نحن الرعيّة وهو الراعي !ولم يفلح . لكن روح الخلافة وجوهرها يظهر في عتاد وزارة الأوقاف السورية المُضمر . الأوقاف هي الرقيب والحسيب، ويا سبحان الله ، على الطريقة العثمانية التي انقلب عليها "أتاتورك" . نحن مواطنون وواقفون ولسنا جالسين يا وزارة الأوقاف ، وكما يكتب خالد : ( المواطنية ، هي المحور الذي نختاره لننظم حوله شتى قيمنا ، وكافة معاييرنا . والمواطنية، تقتضيك أن تكون فاضلاً، لا لمجرد حب الفضيلة ،وخيّراً ، لا لمجرد الرغبة في الخير .. بل لتكون جديراً بوطنك .. وتتضمن هذه المواطنية كل شيء تقتضيه شرائع الدولة ، ويتطلبه الضمير الإنساني ) 20 . فلماذا، وأنا المواطن الواقف على مشارف كنوز العلم والمعرفة والفلسفة الوضعية ، تريد الأوقاف السورية ، أن ترعاني كما يرعى الراعي غنمه ، وتهشّ بعصا وزيرها إذا شردتُ عن القطيع .
- ( هذا .. أو الطوفان ) 21.في جانب من هذا الكتاب ، يدعو المفكر إلى تبنّي علوم العصر، من طب وتقانة وهندسة وأن لا تنحصر هموم المسلم بالروحانيات والمثاليات ، وأن يغامر ويقتحم عالم وعلوم الماديات ، وأن لا يخشى المجهول . وكل هذه القضايا ، يجملها الكاتب تحت عنوان جريء : ( من المحراب .. إلى غرفة التشريح ) 22. وفي دفاعه عن العلم يقول : (لم يجحد العلم فضل الدين وضرورة بقائه في الميدان ، ولكن بعد تطهيره من بعض رجاله أولاً، ومن الطفيليات التي أقحمها عليه سفهاء شريرون ثانياً.. واشترط العلم على الدين أن يقتسما التبعات ، ويعمل كل في نطاق اختصاصه )23 .فلماذا تريد أوقافنا المبجلة أن تدس أنف ولحى هيئتها الشبابية الدينية بعد تحفيظ أفرادها للقرآن ، في النانو تكنولوجي والألياف الزجاجية والخلايا الجذعية والمعلوماتية . لماذا بعد أكثر من سبعين سنة من مقولة خالد محمد خالد حول عدم كفاية المحراب ، يهب من صحن الوزارة من يريد جرّنا ( من غرفة التشريح .. إلى المحراب ) .
- (لكي لا تحرثوا في البحر) 24. ولن أقتطف من الكتاب شيئاً ، لأن الكتاب مفقود من مكتبتي ، ولا أملك سوى الغلاف ، والذي يحمل عنواناً فرعياً طويلاً يقول : " اعرِفُوا الحَقّ ، ثم اتَّبِعُوهُ ، وسَيَجْعَلكُم الحقُّ أحْرَاراً " ...ولكم أن تختاروا ما يتفق مع قناعاتكم . لقد كنت دقيقاً وجاداً في توجيه النقد ، بروح الباحث الموضوعي ، لجلال الموقف ، ولانقسام السوريين حوله . وخلاصة الرأي عندي ، أن وزارة الأوقاف لا تقوم في تشريعها الذي شغل الرأي العام بحراثة البحر فحسب ، بل ذَهَبت لتحرث أيضاً في نهر قويق ! وأنا عَلماني وسأبقى . المعرفة والعقل هو الكفيل بإخراجنا من مأزق التخلف ، والسلفية والأصولية ستعمق هذا التخلف .
الخميس 4 أكتوبر 2018
ملاحظة : لا أمانع في المشاركة لأهمية الموضوع .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- البدوي ، من تاريخ الإلحاد في الإسلام ، سينا للنشر ،ط 1993 ، ص 17-18 .
2- رودنسون،الإسلام سياسة وعقيدة ، دار عطية ، ط 1996،ص 39 .
3- غارودي، نحو حرب دينية ، دار عطية، ط 1996 ،ص 30 .
4- المرجع السابق ، ص 15 .
5- أبو زيد ، التفكير في زمن التكفير ، سينا للنشر،ط 1995،ص40 .
6- خالد ، الدين في خدمة الشعب، وهبة/دار الفكر، ط أولى ، 1953 .
7- السابق ،ص 62 .
8- خالد،من هنا نبدأ، مطبعة مخيمر ، ط 7، يوليو 1954 .
9- السابق ص 30.
10- السابق ص 32 .
11/12- السابق ص30 .
13- خالد ، الديمقراطية أولاً ، مجهول التوثيق لفقدان الغلاف وبقاء الكتاب .
14- السابق ص168.
15- السابق ص 171- 172 .
16- خالد ، الديمقراطية .. أبداً،دار الفكر العربي، ط الثانية 1953.
17- السابق ص 83 .
18- السابق ص 87.
19- خالد ، مواطنون لا رعايا ، مكتبة وهبة ،ط الرابعة ، دون تاريخ .
20- السابق ، ص 154 – 155 .
21- خالد ، هذا .. أو الطُّوفان ،مكتبة الأنجلو المصرية، ط الثانية ، يناير 1954 .
22- السابق ص 13 .
23- السابق ص 17 .
24- خالد، لكي لا تحرثوا في البحر ، مكتبة الأنجلو المصرية ، مارس 1955 .
إضافة تعليق جديد