الإرهاب لا دين له... ولا تعريف
لم تأتِ مفردة الإرهاب من عدم، كذلك فإنها ليست بجديدة أو طارئة، بل لها مصدر وتاريخ وشواهد من مختلف المراجع والموارد والنصوص وغير ذلك. وهي مفردة أطلقت على الأفعال والارتكابات التي يقوم بها فرد أو مجموعة من الأفراد، قد تكون هذه المجموعة صغيرة لأهداف وغايات صغيرة، وقد تكون بحجم جيوش وبوزن دول وممالك لها أهدافها وغاياتها التي تناسبها. وكانت دائماً هذه المفردة لا ترتبط بدين أو أمة، بل كانت توصف ارتكابات أي ظالم أو معتدٍ أو من يمارس العنف والترهيب على الآمنين والعزل دون أي مبررات موجبة بل لغايات غير محقة.
في وقتنا الحاضر، أصبحت مفردة الإرهاب من أكثر المفردات استخداماً في العالم وبكل اللغات، وفي سبيل محاربة الإرهاب تشكلت التحالفات وحشدت الجيوش وتحركت البوارج والمدمرات. وكان من الطبيعي والسهل جداً أن تلقى هذه الحشود والجيوش تأييداً عاماً استناداً إلى القناعة المحفورة في ذهن وذاكرة البشر بأن الإرهاب من فعل الأشرار والمجرمين والخارجين على القانون. ومن الواجب الإنساني القيام بكل ما من شأنه وقف ومكافحة هذا الإرهاب، إلا أنه في خلال العقود القليلة السابقة رأينا أن تهمة الإرهاب استخدمت في حالات كثيرة كذريعة ضعيفة المبررات ومهزوزة الصدقية، من قبل أطراف وقوى استعمارية كبرى لتبرير تدخلها في شؤون بعض الدول والقيام بأعمال عسكرية وصلت إلى حد شن الحرب على بعضها الآخر. لكن الهدف الحقيقي على المدى البعيد كان تحقيق غايات ومكاسب خاصة، والسعي إلى رسم خريطة جيوسياسية جديدة للعالم تخدم مصالح هذه الأطراف ورؤيتها لهذه الخريطة، مطمئنةً إلى التأييد الكامل لدى الرأي العام الذي يرفض الإرهاب ويدعو لمحاربته. فشنت حروبها التي بررتها بأفعال إرهابية غالبيتها مصطنعة وبعضها غير ذلك، فكانت النتيجة هدر دماء وكرامات واستباحة ملكيات وأعراض ونهب ثروات وتدمير دول وشعوب، والمؤسف أن كل ذلك ارتكب بعيداً عن الأهداف السامية والحقيقية التي وفرت هذا الدعم والتأييد. واللافت المحزن أيضاً أن تهمة الإرهاب أصبحت تستخدم بسهولة ويسر ضد أي شكل من أشكال الحراك لجهة ما في وجه جهة أخرى، إن كانت محتلة أو معتدية أو نظام مستبد أو دولة مارقة أو أي شكل أخر من الأشكال، كذلك إن استخدام هذه المفردة بات يشكل رعباً على جميع الأطراف التي لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالحراك الذي قد تلصق تهمة الإرهاب به. وبالتالي، يفرض عدم الاعتراض على أي فعل مهما كان قاسياً من قبل الجهة التي تدعي مكافحة هذا الإرهاب ومحاربته.
لكن يبقى الشيء الأهم على الإطلاق في موضوع مفردة الإرهاب، أنها رغم الدعوات الكثيرة لوضع تعريف واضح لها بقيت متروكة بقصد أو عن غير قصد، دون أي تعريف أو توصيف ودون وضع معايير ضابطة لهذه المفردة قبل أن تلصق بأي شخص أو مجموعة أو جهة أو دولة، على اعتبار أنّ هذه المفردة الفاقدة التعريف هي التي تقدم أهم المبررات والذرائع للقوى الاستعمارية المهيمنة على القرار الدولي وعلى مقاليد السياسة والاقتصاد للتدخل في شؤون غير الداخلية والخارجية، ولتحقيق أكبر قدر من النفع والفائدة.
أقامت هذه القوى شراكة معلنة مع الدول التي تنتج الفكر الذي يتبنى مفردة الإرهاب عقيدةً، وينطلق ممتطياً لها إلى المناطق والمواقع التي تشكل أهدافاً مدروسة ومحددة من قبل كلا الشريكين لتجعل منها نقاط توتر يستوطنها الإرهاب، الذي يبرر التدخل للجهات الطامعة لأسباب مختلفة في هذه المناطق لتصبح مناطق متنازعة السيطرة عليها وعلى شريانات الحياة الاقتصادية والسياسية فيها.
هنا تكون مفردة الإرهاب أقصر وأسهل وأسرع الطرق لتبرير التدخل دون أن يتمكن أي طرف أو أي جهة من الوقوف في وجه هذا التدخل لكي لا يصور كأنه طرف يحمي أو يدافع عن الإرهاب، بل هو مضطر دائماً إلى رفض الإرهاب المعمم والفاقد للتعريف والتوصيف، وتأييد محاربته والقضاء عليه، ما يدرجه حينها حكماً في عداد المؤيدين لهذا التدخل وفق ذلك المبرر. وبالتالي يعجز أي مستهدَف عن إثبات وجهة نظره وإن كانت محقة، ولا أحد يطالب بضرورة معالجة القضايا التي تدرج تحت عنوان الإرهاب بنحو يعتمد على تعريف واضح وتوصيف دقيق للحالة عينها، والفصل بين حق الشعوب في المقاومة والدفاع عن نفسها ضد أي خطر محدق بها وضد أطماع الطامعين بثرواتها والخائفين من نهوضها وحضارتها وبين الإرهاب الذي ينطلق من عقائد مجرمة ولغايات كثيرة مختلفة تبدأ من الاستعمارية وتنتهي بالشخصية.
وبإلقاء نظرة على ما سمي حرب مكافحة الإرهاب خلال العقود القليلة الماضية، التي ترفع رايتها الولايات المتحدة الأميركية والدول الحليفة لها، مثل الحرب على طالبان والقاعدة في أفغانستان وباكستان والعراق وغيرها من الدول والشعوب التي تركتها هذه الحروب تعاني ما تعاني من ويلات ونتائج هدامة، مروراً بساحات صراع مختلفة عانت من ويلات الإرهاب، مثل سوريا والجزائر واليمن والشيشان وغيرها من المناطق التي دفعت أثماناً باهظة في حربها ضد هذا الإرهاب، إضافة إلى ما عانت منه بلدان أخرى كبعض دول الاتحاد السوفياتي السابق ودول أوروبا الشرقية سابقاً ودول جنوب شرق أسيا، وفي مقدمة كل ذلك، الإرهاب الأكبر والأعرق الذي يمارسه الكيان الصهيوني على الشعب الفلسطيني، نجد أن كل طرف من هذه الأطراف له مبرراته وغاياته في حربه على ما يسميه هو الإرهاب. ويحصل على الدعم والتأييد لحربه هذه من جهات وأطراف تلاقت أو تقاطعت مبرراتها وغاياتها مع مبرراته وغاياته، إلا أننا نجد أن مفردة الإرهاب في كل حالة من حالات الحرب ضده يمكن أن تعرَّف بنحو مختلف عن الآخر، ومبررات الحرب عليها تختلف من حالة إلى أخرى. لذلك اتسع طيف التعريف إلى حده الأقصى، وجعل من أي جهة أو طرف قادراً على إطلاق هذه المفردة التي تعتبر حكماً مبرماً لا مراجعة فيه على أي جهة أو طرف أخر يريد شن حرب عليه لإقصائه أو فرض حكمه أو هيمنته عليه، أو فرض شروطه التي تجعله تابعاً له وتحت سطوته.
وبعد عقود من هذه الحرب على هذا العدو الذي لا يملك ملامح أو توصيفاً، بل هو لبوس يمكن إلباسه لأي جسم مستهدف، نرى على أرض الواقع نتائج أقل ما توصف به أنها كارثية، ولم تحقق إلا الخراب والتدمير لدول وشعوب ومجتمعات، حتى على مستوى العائلة والأفراد. حيث أنشات أجيالاً مقوضةً من الداخل، ولا تمتلك مقومات النهوض والتقدم، بل تتمسك بالجهل والتخلف، وتشد مجتمعاتها للماضي وما سلف، اعتقاداً منها أن فيه الخلاص. كذلك فإنها بالتوازي مع ذلك حققت لمن شنّ هذه الحروب غاياته في النفوذ والسيطرة والهيمنة على حساب أرواح ودماء وثروات وتاريخ وحضارة شعوب وبلدان مستهدَفة ومستضعَفَة.
كل ما سبق يستدعي بالضرورة من قبل الدول والهيئات والمنظمات والمؤسسات الدولية التي من المفترض أنها تسعى للقضاء على ظاهرة الإرهاب، العمل على وجه السرعة وبجدية وشفافية لوضع تعريف واضح لمفردة الإرهاب وتوصيف صحيح للإرهابي، والآليات الواضحة للتعامل مع الإرهاب بعد ذلك، حينها فقط نتمكّن من سحب الذرائع من يد من يمتلك قوة غاشمة وتاريخاً وفكراً استعماريين بنى قوته عليهما ولم يتخلص من أطماعه وجشعه، ويلوح بتلك القوة وتلك المفردة «الإرهاب» كرادع مرعب في وجه من يملك حقوقاً مغتصبة من واجبه الدفاع عنها أو استرجاعها، أو أنه يملك ما يسيل له لعاب أصحاب هذا الفكر الاستعماري، من ثروات وإمكانات ونقاط قوة اقتصادية أو جغرافية أو غيرها، تفرض حضوره الفاعل والمؤثر في قضايا كثيرة في منطقته والعالم. وتسعى الأطراف المتضررة من ذلك إلى استخدام تهمة الإرهاب بعد أن تبثه سماً عبر أدواتها، كذريعة متاحة للتدخل في شؤونه والاعتداء عليه وتدميره إن أمكن. وستبقى هذه الذريعة متاحة إن بقيت مفردة الإرهاب عامة وفضفاضة لا تضع التوصيف والتعريف الصحيح الذي يميز بين من يطلب الحق ومن يطلب الباطل بكلمةٍ حق.
طارق عجيب
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد