الإسكندرية والفاتيكان..سردية اتساع الفكر والقلب
لعله في مقدمة المشاهد المثيرة للتأمل والتفكير ذلك اللقاء الذي جمع في حاضرة الفاتيكان بابا الإسكندرية للأقباط الأرثوذكس تاوضروس الثاني وبابا روما فرنسيس الأول ، اذ انه وللمرة الأولى بعد أربعة عقود يلتقي رأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم اجمع، مع رئيس الكنيسة القبطية الأرثوذكسية والتي تعد اكبر واهم الكنائس المسيحية في العالم العربي وأعرقها وأكثرها عدداً.
الزيارة في واقع الحال تركت العديد من الأسئلة وربما أثارت الكثير من الظنون والهواجس عند البعض ،لا سيما أن أحوال الأقباط في مصر بعد ثورة 25 يناير يجتاحها غموض، وقد جاءت الزيارة في أعقاب الحادث الذي تعرضت فيه الكاتدرائية مقر البابا في وسط القاهرة لاعتداءات، الأمر الذي استنكره غالبية مسلمي مصر قبل مسيحييها، لأنها تمثل رمز الكنيسة، ما دعا البابا تاوضروس نفسه لإلقاء اللوم بدرجة أو بأخرى على المسؤولين.
وفي نفس الوقت تأتي الزيارة كأول زيارة للبابا الأرثوذكسي الجديد خارج حدود الوطن، وتوجهه إلى روما وزيارته إلى حاضرة الفاتيكان لا تخلو عند البعض من إشارة ما، لا سيما ان مضيفه البابا فرنسيس الأول عطفاً على انه رئيس اكبر كنيسة في العالم، فانه أيضا رئيس دولة لها تمثيل ديبلوماسي رفيع المستوى حول العالم.
كانت علامة الاستفهام الأولى التي طرحت مواكبة للزيارة « هل هي زيارة سياسية أم دينية؟ وهل ذهب بابا الأقباط إلى بابا الكاثوليك بحثاً عن الدعم الأدبي في مثل هذه الأوقات التي تمر بها كنيسته في ارض مصر؟
قدر لصاحب هذه السطور أن يوجه السؤال للبابا تاوضروس في مقر إقامته صبيحة يوم السبت الذي يسمى بـ «سبت النور أو الفرح» وعشية ليلة عيد القيامة، وكانت الإجابة ببساطة شديدة «انها زيارة محبة» تأتي من بابا جديد في الإسكندرية إلى بابا جديد أخر في الفاتيكان، وتهدف إلى تعميق المودة المشتركة والسعي نحو الوحدة الإيمانية، وتعزيز النهج المسكوني بين اكبر كنيستين لهما من الحضور الروحي والتاريخي الكثير حول قارات الأرض الست. وعلى هذا فإن الزيارة لا تحمل أي دلالات سياسية، وان كانت السياسة من طبيعة الأشياء.
لماذا الاهتمام الإعلامي والكنسي إقليمياً وعالمياً بمثل هذه الزيارة؟
لأنها تعيد شيئاً ما من الدفء والحرارة للعلاقة بين الكنيستين وقد شاب الفتور بينهما نحو خمسة عشر قرناً انقطعت فيها العلاقات منذ منتصف القرن الخامس الميلادي، وفي أعقاب مجمع خلقيدونية عام 451 ميلادية، غير أن القرن العشرين شهد حلحلة لذاك الفتور المتبادل، ذلك انه حدث أن سعى الأقباط في مصر للحصول على رفات القديس مرقس الذي بشر بالمسيحية في ارض مصر والمحفوظة في كاتدرائيته الشهيرة في مدينة البندقية الايطالية، وبالفعل وافق البابا بولس السادس في ذلك الوقت، على منح الكنيسة القبطية جزءاً من رفات مار مرقس، وكان ذلك في عام 1968 وفي مناسبة مرور 1900 عام على استشهاده في مدينة الإسكندرية.
وبعد نحو خمس سنوات قام البابا شنودة الثالث بزيارة إلى روما التقى خلالها أيضاً البابا بولس السادس نفسه، والذي أهدى للكنيسة القبطية نسخة ميكروفيلمية من بعض المخطوطات القبطية القديمة المحفوظة بمكتبة الفاتيكان.
والثابت انه منذ ذلك الوقت نشأت لجان للحوار المسكوني بين الكنيستين حاولت إنهاء كثير من الخلافات اللاهوتية، وقد توصلت بالفعل إلى البعض من الحلول المشتركة، كما في قضية الكريستولوجي أي طبيعة السيد المسيح، وتعثرت وربما توقفت لفترات لاحقة، غير أن زيارة البابا القبطي الأرثوذكسي الجديد رقم 118 لا بد ستعمل على إعادة الحوار من جديد لا سيما عبر القنوات التي تعاني من انسدادات تاريخية.
ما هو الجزء المثير في تلك الزيارة؟
قطعاً تبقى شخصية الباباوات هي المحرك الرئيسي، إما لدفع العلاقات المسكونية إلى الأمام، أو لتكريس الطائفية والتمذهب العقائدي والشقاق والفراق الأيديولوجي، وفي الأشهر الأخيرة كانت العناية الإلهية في تقدير المراقبين للمشهد تدفع باثنين من البابوات بدا وكان هناك بينهما هارموني شخصي، فالناظر لشخصية البابا تاوضروس الثاني يلحظ فيها الكثير من البساطة والتواضع والميل إلى التصالح والاهتمام بالأخر، ومد جسور المودة مع كافة الأطراف والأطياف الفكرية والدينية داخل مصر وخارجها، ما يعني انه شخصية اجتماعية كاريزمية تهتم بالإنسان وبالبشر قبل الحجر، ولهذا فهو ينشد بناء الجسور لا إقامة الجدران، وقد تجلى هذا بوضوح في مواقف كثيرة داخل مصر ولا سيما مع الطوائف المسيحية غير الأرثوذكسية مثل الكنيسة الكاثوليكية، والجماعة الإنجيلية أو البروتستانتية، بل وكان له الفضل الأول في إنشاء ما يسمى بمجلس كنائس مصر.
في الوقت ذاته كانت المشيئة الربانية تجعل على رأس الكنيسة الكاثوليكية بابا فريد بدوره إذ هو الأول في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية الأتي من أميركا اللاتينية حيث الكنيسة هناك عاشت لعقود طويلة مؤخراً في مواجهة مع أنظمة سياسية ديكتاتورية وحيث كان منطلق وفكر لاهوت التحرير داعماً وداعياً للمقاومة الوطنية.
وفي شخص البابا فرنسيس الأول تجلت ملامح الزهد والبساطة فالرجل يستقل الحافلات مع الأساقفة، ويفضل العيش بعيداً عن القصور الكنسية، ويرفض ارتداء الأيقونات الذهبية، وفي هذا كله يقتدي بمن حمل اسمه «فرنسيس الاسيزي» الفقير المتجرد وصاحب الدعوى للحوار مع العرب والمسلمين على نحو خاص.
هل كانت زيارة بابا الأقباط إلى بابا الفاتيكان ضرباً من ضروب أو محاولة من محاولات التمايز الديني أو الطائفي أم أن مصر أولاً وأخيراً كانت هي الحاضر الأكبر والاهم في تلك الزيارة، ما يكسبها مذاقاً وطنياً عطفاً على الملمح والملمس الديني؟
في الكلمة التي ألقاها البابا تاوضروس في حضرة البابا فرنسيس كان الحديث عن مصر هو المقدمة، فقد أشار إلى انه قادم من مصر بلد النيل، ذلك البلد الذي يتمتع بمواقع جغرافية خلابة وفيه ولدت الثقافة والحضارة الأعرق في العالم ألا وهي الحضارة الفرعونية. وأكد البابا تاوضروس على أن مصر أيضاً هي مهد للكثير من الحضارات المهمة في العصور القديمة مثل اليونانية والرومانية والقبطية وأخيراً الإسلامية.
وفي كلمته كان بابا الأقباط يؤكد أن في مصر ولد وعاش عدد من الأنبياء والقديسين، كما أن مصر عرفت جيداً بروح التعايش الديني، وان كلاً من الكنيستين الكاثوليكية والأرثوذكسية تعملان سويا في الشرق الأوسط والعالم الغربي من اجل إحلال السلام عبر هدف سامي ومشترك يتمثل في تعزيز الحوار بين الأديان وأتباعها من اجل خير البشرية جمعاء. والمقطوع به أن من يطلع على الكلمة الرسمية بكاملها سيتيقن من أن قضية إثارة مشاكل الأقباط في مصر مع بابا الفاتيكان لم تكن أبداً على أجندة الزيارة، فبابا الأقباط وطني حتى النخاع ولا يقبل أن تناقش مشاكل المصريين على موائد خارجية، أو يتدخل غير مصري في مسار الحياة المشتركة لمسلمي مصر ومسيحييها.
هل وجدت تلك الزيارة مردوداً ما أو تقديراً بعينه عند الحبر الروماني؟
كان ذلك محققاً بكل تأكيد وتحديد، وتجلى في اهتمام البابا فرانسيس بالحديث عن مصر وحضارتها وعراقتها، وكيف انه يصلي من اجلها، بل إلى ابعد من ذلك فقد تردد أن قداسته قبل دعوة البابا تاوضروس لزيارة مصر رداً لزيارة البابا تاوضروس رغم انه يلزم لزيارة بابا الفاتيكان أي دولة في العالم أن يتلقى دعوتين الأولى من رئيس الكنيسة المحلية للدولة، والثانية من رئيس الدولة، وربما يضع هذا الأمر الحكومة المصرية أمام استحقاق حواري تعايشي وانفتاحي مهم جداً على الغرب عامة وعلى اكبر مؤسسة دينية مسيحية على الأرض خاصة.
وقد لفت سفير مصر في ايطاليا السيد عمرو حلمي الأنظار إلى أهمية تلك الزيارة بالنسبة الى مصر، عندما أشار إلى أنها زيارة تعمل على تعزيز التسامح الذي نحن في اشد الحاجة إليه من اجل تجنب المصادمات الثقافية والدينية، ومؤكداً روح التسامح عند البابا تاوضروس وحبه الشديد لمصر، بالإضافة إلى شخصيته المحبة والمتواضعة وكيف انه ينقل هذه الروح لنحو مئة وتسعين ألف مصري يعيشون في ايطاليا، ما يجعل منهم اكبر تجمع جالية مصرية في دول الاتحاد الأوروبي.
على أن الزيارة وأهدافها الدينية لم تكن لتمنع الآخرين من النظر إلى الداخل المصري وإمعان النظر فيه لا سيما على صعيد التعايش الطائفي والديني المشترك بين الأقباط والمسلمين في مصر، فقد عاش الأقباط عيد الفصح الأخير والجدل يكثر من حولهم في شان هل يقوم الشقيق المسلم بتهنئة أخيه القبطي بمناسبة العيد أم لا؟
وقد كان الدكتور عبدالرحمن البر مفتي جماعة الإخوان المسلمين وعضو مكتب الإرشاد قد أفتى بأنه «لا يجوز شرعاً تهنئة الأقباط بالمناسبات الدينية المخالفة لعقائدنا ومن ذلك تهنئة الأقباط بعيد القيامة».
هذا الأمر قد رصدته المراكز البحثية المتخصصة حول العالم ومنها معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، فقد كتب «اريك تراجر» المهتم بالشأن المصري وبإشكاليات «الإخوان المسلمين» على نحو خاص تحت عنوان «عدم التسامح الغريب من جانب جماعة الإخوان المسلمين» يقول: «أن الفتور الذي يبديه الرئيس المصري محمد مرسي تجاه الأقباط يعكس مفارقة جوهرية حول النهج الإسلامي لـ «الجماعة» فرغم وعدها منذ فترة طويلة بـ «تطبيق الشريعة» لدى وصولها إلى السلطة إلا أن الجماعة تقدم فقط تفسيرات محددة لمبادئ الشريعة الإسلامية عندما ترغب في تبرير دوافعها المفرطة في عدم التسامح».
والمقطوع به انه إذا كانت الزيارة إلى الفاتيكان قد جرت في وقت قال البعض فيه أن الأقباط تأثروا حزناً إلى حد كبير من جراء تلك الفتاوى، إلا أنها كانت أهون شراً واخف ضرراً من فتاوى أخرى أطلقها سياسيون وإعلاميون محسوبون على التيار الإسلامي في مصر تحرض على قتل الأقباط ومنهم الأمين العام لحزب الجهاد الإسلامي «محمد أبو سمرة» الذي احل بفتواه إراقة دماء المسيحيين وقال بالنص «بعض النصارى يجوز قتلهم اليوم وهم الذين خرجوا بالسلاح فهؤلاء دمهم حلال عندنا لأنه لا يعتبر من أهل الذمة بل هو مقاتل»، الأمر الذي أثار فزعاً واضحاً في قلوب الأقباط كما أثار جدلاً واسعاً في أوساط المجتمع المصري الذي يعاني من أزمات متلاحقة بعد الثورة.
بابا الأقباط لم يمض إلى الفاتيكان ليشكو من هذه الآلام والمخاوف، لكنها ولا شك كانت قائمة في ذهن البابا فرنسيس والذي تحدث عن الأقباط ودورهم في خدمة المجتمع المصري بوصفهم جزء من نسيجه الاجتماعي التاريخي، إلا انه وفي نفس الوقت كان يشير إلى تلك الآلام والمخاوف عبر ما أطلق عليه لفظة «مسكونية الألم» وهو تعبير جديد يصكه البابا للمرة الأولى وان كانت له أصول كتابية إنجيلية، ومشيراً كذلك إلى انه من أحشاء الألم المشترك يمكن بالفعل أن تولد بمعونة الله مغفرة ومصالحة، وهي عبارات تستدعي في واقع الأمر التوقف عندها وتحليلها بشكل معمق لضرورتها في الحال وأهميتها في الاستقبال.
ويبقى القول إن زيارة بابا الأقباط إلى الفاتيكان تمثل انعطافة مهمة في التاريخ المصري الحديث، في إطار «اتساع القلب واتساع الفكرة»، في زمن العولمة الذي حطم القيود وأزال الحواجز والسدود، وبات على الجميع المضي في طريق «الجسور لا الجدران» فهل من مجيب؟
إميل أمين
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد