الإسلام العثماني واستعصاء الحداثة العربية

09-04-2021

الإسلام العثماني واستعصاء الحداثة العربية

 

1 

 

من نحن وكيف تشكلت هويتنا؟ ما الذي استمر فينا من ثقافة عصور الضعف والإنحطاط وكيف نعالجه؟ هذا هو هدف هذه المراجعات.. وفي حقيقة الأمر أني لا أقوم بذلك من أجل القراء فقط، وإنما لأجلي أيضا، ذلك أن تصحيح الحاضر وتهيئة المستقبل مرهونان باكتشاف فايروس الماضي داخل الجينوم السوري الذي جعلنا نصطدم ببعضنا اليوم! كيف تمدد الخراب في حياتنا حتى أنكرنا بعضنا وبات الجميع ضد الجميع لتتكرر أسطورة قابيل وهابيل على أرض الشام مرة أخرى.. وخلال بحثي تأكدت أن المشكلة في سورية هي نفسها في مصر والجزائر وتونس وكل البلدان التي حكمها العثمانيون وتركوا فيها بقايا نسختهم من الإسلام العثماني المتحور التي يعيد العثمانيون الجدد العمل عليها وكأن الزمن واقف لا يتجدد!

 

2

 

يمكننا النظر إلى دمشق بكونها متحفاً طبيعياً مصغراً عن البلاد السورية، دمشق داخل السور، حيث تراكمت طبقات الأمم بأمرائها وتجارها وكهنوتها ومعابدهم عبر آلاف السنين، فاختلطت سلالات الغزاة مع السكان السابقين لتنتج لنا كائنات عالمية هجينة تحمل الهوية السورية: آراميون وحثيون وأنباط ويونانيون ورومان وعرب ومغول ومماليك وصليبيون وعثمانيون، اندثرت نسختهم البدائية وبقي حمضهم النووي وأظافرهم وطباعهم وثقافاتهم مستمرة فينا.. مع التمايز بين ثقافات الأمم التي حكمتنا كرهاً، حيث جاء اليونانيون معهم بالمسرح والفلسفة والأولمبياد، واستمر الرومان بعدهم برعاية المسرح وتطوير الزراعة وأنظمة الري والدفاع عن المدن والأرياف من غزو البدو، ونافسهم الفرس على استقطاب القبائل في نزاعاتهم حيث كان العرب يحاربون العرب لصالح روما أو فارس، ثم جاء الأمويون بنسختهم من الإسلام التي مرت عبر فلتر الثقافة الشامية ومنها انتشرت نسخة الإسلام الشامي في العالم القديم، ثم جاء العباسيون فعولموا الإسلام وحولوه إلى امبراطورية تستقطب نخبة الأمم.. وبعد الوصول إلى الذروة بدأ العالم الإسلامي بالإنحدار منذ زمن المتوكل بالله آخر خلفاء بني العباس الذي قرب عسكر الترك  حتى بات ألعوبتهم بعدما كان والده المعتصم بالله أبعد جنده الأتراك عن بغداد لصعوبة السيطرة على فرقهم العسكرية وسلوكهم الذي تسبب بصدامات متكررة بينَ أهل بغداد وهؤلاء الجند الغلاظ صعبي القياد في الفترة الأولى من حكمه.. لكن المتوكل قريهم وانتصر لابن حنبل وجماعة السلفية ضد المجددين من المعتزلة، واضطهد الشيعة وأعاد سب الإمام علي وهدم قبر الحسين، وراح يضيق على رعاياه من الكتابيين (أهل الذمة) واعتمد على الأتراك في العديد من مفاصل الدولة ومهامها الحيوية في قمع الثورات والقلاقل الداخلية المتكررة، ثم انتهى أمره بعدما تحالف الترك مع ابنه المنتصر من زوجته التركية، فانقضوا عليه وقتلوه في مجلس شرابه، هو وخصمهم الوزير الفتح بن خاقان، وبايعوا المنتصر بالخلافة التي باتت ألعوبة بأيديهم إذ استهلكوا  4 خلفاء في عشرة سنوات بين قتل وخلع، واستمرت سيطرة عسكر الترك على السلطة حتى عصفت جحافل المغول ببغداد سنة 1258 م فانتهت الخلافة العباسية واستمر الصراع على الإسلام حيث تبنى العثمانيون فيما بعد نسخة المتوكل من الإسلام السلفي، وكذا فعل أعداءهم المماليك الذين حكمونا 250 سنة ومن بعدهم استمر العثمانيون في حكمنا 400 سنة استنقعت خلالها الثقافة الإسلامية، بينما كانت أوروبا تؤسس لحداثتها..

 

3

 

وسم العثمانيون مدننا العربية بالإنغلاق والاستعصاء حتى باتت مجتمعاتنا تشبه القفل، بدءاً بهندسة البيوت وانتهاء بالحارات المغلقة على نفسها والنساء المشرنقات بالجلباب والنقاب.. وقد جهد آباء الإستقلال العلمانيون كثيرا للإنتقال بالمجتمع نحو الحداثة، إلا أن بقايا المجتمع العثماني المغلق تمنّع بقوة على الأفكار الجديدة ولم تتمكن مياه الحداثة من اختراق طبقته الكتيمة حتى نهاية القرن التاسع عشر.. وقد بينا في الحلقة السابقة كيف أن حركة الحداثة الإجتماعية بدأت مع نزع حجاب المرأة وخروجها للعلم والعمل، ولكن الطبقات المحافظة أبقت على العادات والتقاليد العثمانية والحجاب العثماني ومنع الإختلاط بين الجنسين وقوامة الرجل على المرأة وغير ذلك.. بينما حداثة المؤسسات الوطنية جاءت أولاً مع الإستعمار الفرنسي والبريطاني، ثم تولاها بعد الإستقلال قادة الأحزاب وجنرالات الإنقلابات العسكرية، في تركيا أولا ثم مصر وسوريا والعراق وليبيا فاليمن والجزائر والسودان، لكن نسخة الإسلام العثماني بقيت معششة داخل مجتمعاتنا وتجلت من خلال جماعة الإخوان المسلمين الذين كانوا يعرقلون تحديث قوانين الأحوال الشخصية في الدول العربية وعملوا للعودة إلى نظام الخلافة الإسلامية بنسختها العثمانية، كما هو حالهم اليوم، حيث تقاتل فصائل الإخونج والتركمان السوريين إلى جانب الأتراك في الشمال السوري ضد الجيش السوري  العلماني، بالتعاون مع ورثة الدولة العثمانية..

 

فمنذ الإستقلال جوبهت الحداثة الفكرية والإجتماعية بالرفض من قبل الأعيان الذين كانوا من بقايا النظام العثماني في البلاد، حيث يقول الباحث صقر أبو الفخر في دراسته عن أعيان الشام واستعصاء العلمنة : " رفضت مدينة دمشق عبد الرحمن الشهبندر، وهو مؤسّس أوّل حزب عَلمانيّ في سورية هو حزب الشعب، والقائد السياسيّ للثورة السوريّة الكبرى سنة 1925 إلى جانب سلطان الأطرش قائدها الحقيقي، ولم يتورّع بعض أعيانها عن القيام بحملةٍ عاتيةٍ ضدّه وفّرت بيئةً مناسبةً لاغتياله في سنة 1940 (اتّهم بذلك لطفي الحفار وجميل مردم، وسعد الله الجابري، بعد فتوى من الشيخ مكي الكتاني).. رفضت دمشق عبد الرحمن الشهبندر وحاربه أعيانها، فهو لم يكن سليل العائلات المالكة للأرض، بل سليل التجّار الصغار. وكما رفضت عبد الرحمن الشهبندر رفضت ميشال عفلق المسيحيّ الميدانيّ المتحدّر من الأطراف السوريّة (وادي التيم)، لم يكن من ملّاك الأرض أو من رجال الدين أو من الآغوات، بل كان والده من أصحاب الدكاكين الذين يتاجرون بالبضائع البسيطة مع فلّاحي حوران وجبل العرب، وكان شكري القوتلي يصفه ساخرًا "معلم الأولاد الصغار". ولهذا، لم تتقبّل دمشق حزبًا قوميًّا بزعامة مسيحيّ، ذلك أنّ أعيان مدينة دمشق، لأسباب تاريخيّة متراكمة، حالوا دون أن تتطوّر سورية 1946 إلى دولة ديمقراطيّة حديثة، وأنّ عدم تطوّرها على هذا النّحو، لم يكن خيارًا خالصًا للحكّام الذين تعاقبوا على السلطة السياسيّة، بل إنّ أسبابًا تاريخيّة واجتماعيّة واقتصاديّة ودينيّة كانت تعيق مثل هذا التحوّل، منها ضعف البنية التجاريّة للمدينة في عصر اندماج السوق السوريّة في السوق العالميّة في القرن التاسع عشر، وغلبة ملّاك الأرض على الحياة الاقتصاديّة للمدينة، ودور رجال الدّين (وبينهم كثير من ملاك الأرض والتجّار) في السعي الدائم لتلطيف الصراعات الاجتماعيّة كونهم وسطاء اجتماعيّين بين الفلّاحين والملاّك الذين كانوا مرتبطين -إلى حدٍّ بعيد- بعلاقات أبويّة متوارثة، والطابع المحافظ للصناعيّين والحرفيّين ورجال الأعمال. وهذه العناصر كلّها تشابكت معًا لتصبح سبباً رئيساً، من بين أسبابٍ أُخرى، في عدم تبلور فئة اجتماعيّة (أو طبقة اجتماعيّة) تتبنّى -عضويًّا- مفاهيم الحرّية والتعدديّة، وتحمل مشروعًا سياسيًّا جدّيًّا لبناء نظام سياسيّ ديمقراطي معاصر".

والواقع أن فكرة الوطن والمواطنة لم تكن قد ترسخت بين عموم الناس بعد وإنما كان الإنتماء للمدن وأحياءها، وكذا العائلات الريفية التي كانت تنتمي لعشائرها.. وكان الوالي العثماني يحكم المدينة وريفها في التنظيم الإداري العثماني، وكان يتوجب عليه أن يدفع للسلطان ثمن منصبه كل عام، ليُحَصّل بدل الأجرة من جيوب الرعايا، حتى بات (التحصلدار) هو السمة المحركة للسلطنة والمجتمعات العثمانية ..

 

4

 

ولكن لماذا لم تنجح المؤسسات العسكرية العربية بالنهوض بدولها وبقيت تراوح بين برزخي التراث والحداثة؟  الواقع أن اشتغال القادة العسكريين بالسياسة يرجع إلى زمن المماليك، فكان الوالي هو القائد العسكري، وقد ورث العثمانيون ذلك، حيث تسلط قادة الانكشارية على مفاصل الدولة والمجتمع، ورافق ذلك ضعف مركزي ساهم في انفصال ولايات أو استقلالها، كما حصل مع محمد علي باشا في مصر، وبعد الإستعمار الأوروبي للبلدان العربية خرب قادتهم العسكريون تجربة الإنتداب التي اشتغل عليها السياسيون، بعدما استعدوا رعايا المستعمرات عليهم، ولكنهم زرعوا بذرة العسكرة السياسية في الجيوش العربية التي شكلوا بعضها وضمت ضباطاً عرب تدربوا في مؤسساتهم العسكرية. ويرى الباحث خالد زيادة في كتابه عن المدينة العربية والحداثة: " أنه ليس من الغريب أن نصل حتى في عصرنا الحاضر، إلى ما يتماثل مع تاريخنا من حيث سيطرة العسكر على مجمل البلدان العربية، إما مباشرة أو بالواسطة. وما التغيير في هذه الأحوال إلا انقلاب العسكر على بعضهم بعضاً في أحداث لا تنتهي، أو في تداول للسلطة بالقسر دون إراقة دماء؛ ويبقى المجتمع في مكان آخر لا يصل إليه إلا النزر اليسير من التغيير“.
هذا ما جرى عليه الحال بعد تحرر البلدان العربية ، ثم وفَّر قيام الكيان الإسرائيلي أولوية سياسية للمؤسسات العسكرية العربية، معيداً ثقافة النضال ضد المستعمر، فكان من الطبيعي أن تدير المؤسسة العسكرية سياسات بلدانها، حتى لو لم تكن حدود بعضها تتقاطع مع حدود دولة العدو، ذلك أن عصبية القومية العربية التي استخدمت ضد العثماني كرستها  فيما بعد لترسيخ سلطاتها، رغم  أنها لم تخلص فعلياً للوحدة التي نادى بها آباء الأحزاب الوحدوية العلمانية ، فأفشلوا كل التجارب الوحدوية ولكنهم حافظوا على شعارات الوحدة من أجل الإستقطاب .. هذا في الجمهوريات العربية ولكن ماذا عن الممالك؟ الواقع أن الإستبداد كان أشد حيث ورثت الفايروس العثماني ذاته من تسلط وظلم وفساد وتخلف رغم توسع دائرة التعليم في المجتمع، فجاءت الممالك نسخة عن السلطنة وبابها العالي في احتقار حقوق الرعايا، ذلك أن الأنساق الدينية بنسختها العثمانية المتفشية في المجتمع كانت تعرقل وصول المجتمعات العربية وحكوماتها إلى ضفاف الحداثة.

 

5

 

يؤرخ الأوربيون لنهضتهم بالإصلاح الديني مع الراهب الألماني مارتن لوثر، ولحداثتهم مع اختراع غوتنبرغ للطباعة سنة 1436 كما يؤرخ العرب لنهضتهم مع الحملة الفرنسية على مصر سنة 1798 وإدخال المطبعة مع أربعين عالماً من كل الاختصاصات.. غير أن الحداثة الأوروبية انطلقت فعليا عبر صياغة مناهج جديدة للبحث الفلسفي على يد هوبز وديكارت وسبينوزا وليبنتز وبيكون، بينما لم يتوفر للحداثة العربية فلاسفة عرب، وإنما حمل الشعراء والروائيون والمسرحيون والصحفيون لواء الحداثة الإجتماعية فكانت حداثتهم ذات صبغة فنية وعاطفية أكثر منها فكرية  (نستثني طه حسين في كتابه في الشعر الجاهلي الذي استخدم فيه مبدأ الشك الديكارتي في قراءة التراث)، أما رجال الدين المتنورين الذين نادوا بإعلاء شأن العقل والإصلاح الديني فقد وقفوا عند حدود الدعوة وتهيبوا الإيغال فبها ومواجهة المجتمع التقليدي، كما حصل مع الشيخ علي عبدالرزاق. بينما أخذ الآباء المؤسسون للأحزاب الوطنية عن الفلاسفة الألمان : هيغل وماركس وفيخته في رسائله الشهيرة إلى الأمة الألمانية، وحاولوا الإنتقال بالأمة من مفهوم  الإسلامية إلى مفهوم  القومية أو الأممية، فجاءت أفكارهم كما لو أنها ترجمة غير متناسبة مع ثقافة المجتمع  بإرثه العثماني المغلق، ولم يتبعهم غير الطلاب وشرائح المتعلمين من الشباب التواقين إلى التغيير، ولكن تأثيرهم الإقتصادي والسياسي كان ضعيفا في مقابل  طبقة الأعيان والتجار، فكانت حمولة القاطرة الشعبية أكبر من قدراتهم الأيديولوجية، كما كانوا على عجلة من أمرهم لتثبيت سلطاتهم فلم يعالجوا المشاكل التي ستنفجر بوجههم لاحقا . ولكن يحسب لهم أنهم أحلوا الرابطة القومية بدلا من الرابطة الدينية التي كانت تعتمدها السلطات العثمانية، وبالمجمل لم يتمكن المثقفون العرب من  نشر الحداثة خارج أوساطهم، وبقي المجتمع يراوح في مرحلة النهضة دون التمكن من العبور نحو الحداثة بسبب بقايا العثمنة في ثقافة المجتمع ، إذ أن المغلوب ـ طبقا لرأي ابن خلدون: " مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه و نحلته و سائر أحواله و عوائده"، حيث تمسك السلفيون بنهج العثماني الغالب لهم، بينما حذا المجددون حذو دول الإستعمار الأوروبي الغالب للجميع، ومازالت ثقافات الغالبين تتصارع في مجتمعنا منذ الأزل، غير أن أسوأها وأكثرها رجعية وعدوانية كانت النسخة العثمانية التي انفجرت بمجتمعاتنا العربية من المحيط إلى الخليج فيما سمي بالربيع العربي.

 

6

 

في تعريفات مفكرينا للحداثة، ينفي محمد آركون أن تكون الحداثة خاصية غربية، كما ينفي زمان ومكان الحداثة، فالحداثة ليست المعاصرة، فقد يعاصرنا أشخاص لاعلاقة لهم بالحداثة وإنما ينتمون عقلياً إلى القرون الوسطى، وقد يوجد في  القرون السابقة شخصيات تمثل الحداثة. بينما يربط حسن حنفي الحداثة بالتراث وقدرة التراث على أن يجتهد طبق ظروف العصر. أما محمد عابد الجابري فيرى أنه ليس هناك حداثة مطلقة وإنما هناك حداثات تختلف من وقت لآخر ومن مكان لآخر ومن تجربة تاريخية لأخرى، فالحداثة في أوروبا غيرها في الصين وغيرها في اليابان.. ففي أوروبا باتوا يتحدثون اليوم عن مابعد الحداثة ومابعد الماركسية. هشام شرابي يرى أن الحديث هو الجديد والطلائعي بمعنى المغامرة نحو المستقبل والإنفلات من قيود الحاضر والماضي. بينما يقول طه عبد الرحمن أن الحداثة هي نهوض الأمة بواجبات وطنها.

وقد أجمع غالبية من ذكرناهم في كتاباتهم أن الميراث الإسلامي كان ضاغطاً على حركة الحداثة إن لم يكن معرقلاً لها، رغم أن شيوخ النهضة كجمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده دعوا إلى اعتماد المنهج العقلي بدلا من النقلي في قراءة التراث، ولكنهم لم يجرؤوا على مناقشة تاريخية النصوص المقدسة التي بدأت فعلياً مع المعتزلة في القرن الثالث الهجري، من حيث أن الآيات قد نزلت بسبب أحداث تاريخية متغيرة وهي مرتبطة بأسبابها بدليل آيات الناسخ والمنسوخ، وأنه من غير المنطقي أن يتوقف التاريخ ويُجمّد لحظة صدور النص، حيث تسبب ذلك بنشوء مذاهب فقهية متخالفة مع بعضها من سنة وشيعة وخوارج نتيجة الفهم المغلوط للنصوص، إلى أن تحولت نصوص الفقهاء بدورها إلى نصوص مقدسة غير قابلة للنقد !؟ فنحن لا يمكننا أن نتخيل أن إلهاً رحيما قد يصدر كتباً يمكن أن تتسبب في ذبح عباده لبعضهم بعضا، فالله تعالى أعطانا النص القرآني وأعطانا العقل كي نفهمه، والنص مجمد في الزمان واللغة بينما العقل متجدد في الزمان والمكان، فأيهما نعتمد: الفهم العقلي المتجدد أم النقل النصي الجامد ؟ إنه نوع من الوثنية الفكرية التي يتوجب تحطيمها لا عبادتها، على غرار مافعله الرسول الأكرم بأصنام السابقين..

لم يقدم (العلماء) الذين ملأوا بلاط السلاطين والولاة خلال القرون الماضية أي مراجعات نقدية للتراث وتلفيقات الرواة بما يتناسب مع خلفياتهم السياسية، إلى أن جاء مفكرو الحداثة العرب في الربع الأخير من القرن العشرين وقاموا بنقد التراث مستخدمين مناهج التحليل العلمي التي لا يفهمها العامة، فلم يتمكنوا من الوصول إلى الشارع الديني الذي يملك مشايخ النقل منابره، فظلوا أسيري التراث في دعوتهم للحداثة، كما حصل مع حسن حنفي ومحمد عمارة وحسين مروة ومحمد عابد الجابري ونصر حامد أبوزيد.. بمعنى أنهم أرادوا تحديث التراث وليس التخلي عنه، فلم يربحوا المجتمع السلفي وقصروا عن مواكبة حركة الحداثة العالمية، بينما اكتفت المجتمعات العربية المحافظة باستيراد منتجات الحداثة مع رفض الإطار الفكري والقيم الأخلاقية التي مثلت الإطار المرجعي للحداثة ومنتجاتها، أما الجماعات الإسلامية فقد استخدموا منتجات الحداثة لاستعادة الماضي وتكريسه.. وخلال ذلك كان القوميون ينكشون في طبقات الماضي المجيد كي يجدوا مقدمات عربية للحداثة الأوروبية، فحصل نوع جديد من السلفية العلمانية لم يكن مساعداً على تطوير ثقافة الحداثة بين الشرائح الحزبية، وتحولت أحزابهم إلى أحزاب أصولية محافظة ترفض التغيير، بل وزادت في عدائها لنخبها الحزبية المتنورة، وقد رأينا كيف عاقبت الأحزاب الشيوعية والقومية الكثير من مفكريها المجددين (ياسين الحافظ والياس مرقص وأدونيس مثالا)..وعلى أي حال فقد أجهض الربيع السلفي حركة الحداثة العربية وارتد الناس إلى كهف الملّة وبات لهم محاكم شرعية، مثلما أُجهض تيار الحداثة العقلاني في القرن الثالث للهجرة، الذي تأثر دعاته بعلوم وفلسفة اليونان والفرس المترجمة، وكانوا يقولون "كل نقل لا يوافق العقل فهو مرفوض" ثم هاجمهم الغزالي وشيوخ السلفية، وحُرقت كتبهم على أيدي الحنابلة، واختفت معظم مؤلفاتهم. وطمست كل محاولة لإعمال العقل في النصوص الدينية، وأجهضت حركة الإصلاح الديني بعدما قتل الكثير من المسلمين في سبيلها. ثم جاء الأوربيون بعد عدة قرون فاستعادوا معرفة المعتزلة وبنوا حداثتهم على ترجماتهم للفلسفة اليونانية..

 

7

 

لدينا اليوم ثلاث نسخ من الإسلام السياسي: الإسلام السعودي الوهابي، والإسلام الإيراني الشيعي، والإسلام التركي الإخونجي الذي أعاد الصراع بين الإسلامي والإسلامي وبين الإسلامي والعلماني في حرب أعادتنا مئة سنة إلى الخلف.. ففي كل عصر إسلامي كانت السلطات تشكل إسلاماً يمثل مصالحها ويرسخ دعائمها برعاية المؤسسة الدينية الرسمية، وكذا كان معارضوهم يستخدمون الإسلام لتقويض السلطة بواسطة فقهائهم .. وقد بدأت النسخ المتتالية عن الإسلام السياسي الرسمي منذ أيام الدولة الأموية وصولاً إلى النسخة العثمانية التي شكلها فقهاء البلاط وشيخ الإسلام كما تقتضي مصالح سلاطين بني عثمان الذين لم يعرف من بين ال 36 سلطاناً أن أحدهم حج إلى بيت الله الحرام ! وكان سلاطين الدولة العثمانية وأمهاتهم يقومون  بقتل  الذكور من إخوتهم وأبنائهم للحفاظ على كرسي الحكم حتى بلغ عدد الأمراء العثمانيين الذين قُتلوا بأوامر من آبائهم وأشقائهم وأبنائهم ستين أميراً، وكانت فرقة الجلادين المنفذة لعملية الإعدام مختارة من بين الصم والبكم حتى يضمن صمتهم، وكانت عمليات القتل تتم في حديقة القصر بخيوط من حرير إذ لا يجوز إعدام الأمراء بالسيف، بينما اجتهد علماء السلطان بإصدار فتاوى تشرعن إجرامهم تحت اسم "فتوى البغي"، والتى تنص على: "أن قتل الأخ والابن جائز للسلطان، لأجل المصلحة العامة وحفظ النظام" !؟  مثل هؤلاء العلماء هم من شكل نسخة الإسلام العثماني وأشرفوا عليها في ولايات السلطنة خلال أربعة قرون. وقد ورث الإخونج نسخة الإسلام العثماني وحرصوا على تسمية مجموعاتهم المسلحة بأسماء سلاطين بني عثمان. لهذا مازلنا نؤكد أن المعركة بيننا قديمة ومن قبل أن تنتقل إلى استخدام السلاح كانت موجودة في الثقافة: جماعة النقل ضد جماعة العقل، وهي معركة مستمرة يفترض أن تنتهي بسيادة العقل العلماني، كما تقتضي حركة التاريخ والتقدم الإنساني.

 

نبيل صالح: عربي برس

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...