الإعلام والاستدراج
التدفق المعلوماتي الهائل من الفضائيات والإنترنت والصحف وأدوات الاتصال يحتاج في الوقت نفسه إلى مؤهلات وأدوات منهجية جديدة يجب امتلاكها للخروج من الحصار الذي تفرضه على الأفراد والمجتمعات بل والدول والمؤسسات، إلى درجة لا تكاد تختلف عن الحصار بالتكتم والحظر.
وكما يقول المفكر نعوم تشومسكي "نحتاج إلى سلوك طريق الدفاع الفكري عن النفس لحماية أنفسنا من الخداع والسيطرة، فالحكم سواء كان ديمقراطيا أو استبداديا يقوم على الرأي، وكذلك الإنتاج والاستهلاك".
نحتاج إلى قدر كبير من التمحيص والذكاء في التعامل مع الطوفان الإعلامي والمعلوماتي الذي تغرقنا به وسائل الإعلام المتنوعة، ليس فقط من أجل تمييز الصواب من الخطأ والكذب من الصدق فيها، ولكن لتجنب حالة خطرة تستدرج إليها المجتمعات والحكومات والمؤسسات العاملة في الإصلاح والتنمية وحتى الأفراد أيضا، وهي أن تخضع الاهتمامات والبرامج والاتجاهات على مستوى الأمم والأفراد والمجتمعات والحكومات في العمل والتفكير والترويج والإنتاج والاستهلاك والتجارة والرأي وأنماط الحياة والتفكير والطعام واللباس والسكن حتى في الدواء والعلاج، لاتجاهات إعلامية ذات دوافع هي ابتداءً سياسية أو احتلالية أو ترويجية، فيتحول الإعلام إلى مصدر أساسي للسياسات واشتقاق البرامج والخطط، وتغيب حينها القضايا والأولويات الكبرى والمهمة لأنها لا تملك الاهتمام الإعلامي أو لأنها تخضع لحرب من التجاهل والصمت.
ولعل أسوأ أنواع الحروب الإعلامية على القضايا والأولويات المهمة التي تتطلع إليها الأمم والمجتمعات هي تجاهلها بالصمت وعدم النشر حولها، فذلك يقلل أهميتها ويبعدها عن الاهتمام ويحولها إلى قضية ثانوية أو مجهولة، ويشغل الناس بغير أولوياتهم واحتياجاتهم.
ويحتاج الناس لمواجهة هذا الطوفان الدعائي إلى استخدام ذكائهم العادي، وتفحص الطوفان الإعلامي بالحس السليم العادي والذكاء المتشكك، وربما لا يلزمنا أكثر من دقيقة ونحن نراقب محطات التلفاز ونتصفح وسائل الإعلام للتفكير ببساطة وبداهة ماذا يجب أن نعرف؟ وماذا يريدون لنا أن نعرف أو لا نعرف؟
فعلى سبيل المثال هل يشكل شريط أبو مصعب الزرقاوي حالة سياسية وإعلامية تستدعي أن تشغل كل وسائل الإعلام، وتستضيف المحللين والخبراء ليقدموا توقعاتهم وتحليلاتهم: لماذا يلبس أبو مصعب ملابس سوداء وليست خضراء؟ وأن له يدين ورجلين وعينين، ويستطيع الجلوس والمشي أيضا، ثم تتحرك البعثات الإعلامية من جميع أنحاء العالم في عملية مكررة مثل طقوس الحج والزيارة إلى بيت الزرقاوي الذي غادره منذ سنوات طويلة لتصور نوافذه وسطوحه وتتحدث مع العابرين والجيران، ثم يغرقون العالم بتحقيقات وتقارير وكتابات صحفية تبدو كأنها مغامرات سرية محفوفة بالمخاطر في الصحارى والأدغال، ودراسات تشغل حلف الأطلسي والدول والأمم المتحدة.
ماذا عن الموارد المائية في الوطن العربي التي تتعرض للاستنزاف والتلوث وتهدد مستقبل الحياة؟ وماذا عن الفساد الذي يستهلك مئات المليارات كل عام من أقوات الناس واحتياجاتهم الأساسية؟ وماذا عن موارد الطاقة بعد ارتفاع أسعار النفط واحتمال نضوبه؟ وماذا عن التعليم والأمية والبؤس والفقر والصراعات الإثنية والعرقية والقبلية، والتصحر وتدمير البيئة والغابات، والاستبداد، والتفرد بالسلطة والموارد والفرص، والبطالة وعمالة الأطفال، وضعف الإنتاج والخبرات الفنية والحرفية والمهنية، والثقافة والنشر، والحكم والإدارة وأزماتها الفنية والإدارية والتقنية، والطرق والإسكان، والصحة والدواء، والأوبئة والوقاية من الأمراض، وسوء التغذية، والاستهلاك وأنماط الحياة الجديدة التي تهدد الموارد والاحتياجات، وحوادث المرور التي تحصد كل عام 20 ألف عربي على الأقل، وحقوف الإنسان والسجون والمعتقلات، وحريات الرأي والتجمع والعمل والسفر والتنافس، والمساواة، وتداول المعلومات، والرقابة على السلطات ومحاسبتها، وتنظيم موارد الدول والمجتمعات، والعدالة الضريبية، والهيمنة والاحتلال ومقاومتهما، والذاكرة الجماعية للعالم والشعوب والمجتمعات، وثقافات الشعوب وتجاربها ولغاتها التي تتعرض للانقراض، وحقوق العمل والأجور والنقابات، والتبادل التجاري والسلعي، والطرق وسكك الحديد الإقليمية في العالم العربي والإسلامي، والعلاقة بين المجتمعات والدول، والتحالف المريع بين السلطات ورجال الأعمال؟
"التلاعب بالعقول" الذي يمارس بدهاء وتحت غطاء من الديمقراطية والحياد والموضوعية والحرية الإعلامية والسياسية، هو محصلة ما يقدمة كتاب "المتلاعبون بالعقول" من تأليف هربرت شيلر أستاذ الإعلام والاتصال بجامعة كاليفورنيا والذي نشره المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت في عدة طبعات (50 ألف نسخة في الطبعة الواحدة).
فقد تمثلت العبقرية المرعبة للنخبة السياسية الأميركية في قدرتها على إقناع الشعب بالتصويت ضد أكثر مصالحه أهمية دون حاجة إلى القمع والاضطهاد، فيقوم مديرو أجهزة الإعلام في أميركا بوضع أسس عملية تداول الصور والمعلومات ويشرفون على معالجتها وتنقيحها وإحكام السيطرة عليها، تلك الصور والمعلومات تحدد معتقدات الناس ومواقفهم، بل وتحدد في النهاية سلوكهم.
وما يذكر من أمثلة عن وسائل الإعلام والاتصال في الولايات المتحدة فإنها تعني العالم كله، فالإعلام الأميركي -كالسياسة الأميركية- يصوغ مواقف العالم واتجاهاته، والثقافة الأميركية يجري تصديرها عالميا، وقد أصبحت بالفعل النموذج السائد في العالم.
ومن الأساطير الشائعة عن محطات التلفزيون أنها تعمل بوصفها ديمقراطية ثقافية تستجيب كلية لإرادة أغلبية المشاهدين فيما يتعلق باستمرار برامج معينة واختفاء أخرى، والأدق أن يقال إنه يمثل رغبة واتجاه المعلنين وإن المصمم الحقيقي للبرامج هو صناع المواد الغذائية والأدوات المنزلية ومستحضرات التجميل والسيارات والأدوية. والواقع أن برامج كثيرة اختفت رغم شعبيتها وكثرة الإقبال عليها ولكنها لم تجذب اهتمام المعلنين.
ويبدو في الظاهر أن ثمة تنوعا كبيرا في البث الإعلامي مستمدا من العدد الكبير للصحف ومحطات الإذاعة والتلفزيون، ولكن النتيجة كما لو كان ثمة مصدر واحد، فالمادة الترفيهية والأخبار والمعلومات العامة والتوجهات والأفكار يجري انتقاؤها جميعا من الإطار المرجعي الإعلامي نفسه من جانب "حراس" للبوابة الإعلامية تحركهم دواع تجارية لا يمكن التخلي عنها، وقد يختلف الأسلوب والتعبير المجازي لكن الجوهر واحد.
ورغم ذلك فإن شرط التعددية الاتصالية هذا والخالي تماما من أي تنوع حقيقي هو الذي يوفر أسباب القوة للنظام السائد لتعليب الوعي، فالفيض الإعلامي المتدفق عبر العديد من القنوات يخلق الثقة ويضفي المصداقية على فكرة الاختيار الإعلامي الحر ويتمثل تأثيره الأساسي في توفير الدعم المستمر للوضع القائم، في حين يعتقد المشاهد والمستمع والقارئ أنه في جو تلقائي من الحرية والتعددية. وهكذا تختفي الحقيقة فأجهزة الإعلام لا تلفت أنظار جمهورها إلى أسلوب عملها.
وعند وقوع أزمة حقيقية أو كاذبة أو مفتعلة ينشأ جو هستيري محموم بعيد تماما عن المعقولية ويؤدي إلى الإحساس الزائف بالطابع الملح للأزمة المترتب على الإصرار على فورية المتابعة يؤدي إلى النفخ في أهمية الموضوع ومن ثم تكون الخطوة التالية هي إفراغه من أهميته، ونتيجة لذلك تضعف قدرة الجمهور على التمييز بين درجات الأهمية، فالإعلان متلاحق السرعة عن تحطم طائرة وعن هجوم إرهابي وعن جريمة قتل ما أو اختلاس وعن إضراب وموجة الحر أو البرد، يتحول معها العقل إلى غربال تصب فيه التصريحات والإعلانات أقلها مهم وأكثرها لا أهمية له.
وبدلا من أن يساعد الإعلام في تركيز الإدراك وبلورة المعنى نجده يسفر عن الإقرار الضمني (اللاشعوري) بعدم القدرة على التعامل مع موجات الأحداث المتلاحقة التي تطرق بإلحاح وعيَ الناس فيتعين عليه دفاعا عن النفس أن يخفض درجة حساسيته واهتمامه، فتكنولوجيا الاتصال باستخداماتها الحالية تروج لتوجهات مضادة للمعرفة.
وهكذا يبقى الجمهور في دوامة من الأحداث والتدفق والإغراق ولا يجد فسحة للتأمل والتفكير والتحليل، ويقدم إليه الوعي جاهزا ولكنه وعي مبرمج ومعد مسبقا باتجاه واحد مرسوم، وعندما يجد البعض فرصة للتساؤل والشك فإنهم يتحولون إلى أقلية تفكر عكس التيار وتخالف المجموع العام ويبدون مغفلين ومجانين ولا يفهمون، وقد يضطرون -وهذا ما يحدث غالبا- إلى إخفاء تساؤلاتهم وقناعاتهم وهاتف ضميرهم ويتظاهرون بأنهم مثل كل الناس ويقتلون بالتدريج ملكة التساؤل والضمير المزعج، أو يقبلون على مضض ويمارسون سرا متعة اللوم والتأنيب كأنما يهربون من أنفسهم أو يكفرون عن ذنوبهم.
ويلقي كتاب "قصف العقول" لمؤلفه فيليب تايلور والذي أصدره أيضا المجلس الوطني الكويتي ضمن السلسلة العظيمة (عالم المعرفة)، الضوء على أبعاد وجوانب يجب إدراكها واستيعابها في عمليات الاستهلاك الإعلامي الجارية اليوم، فالإعلام من أدوات الحرب والصراع والهيمنة والترويج والحظر وإرهاب الناس وتغييبهم، وتبدو مقولة إنه ينبغي السماح للرأي بأن يتطور بشكل طبيعي دون أي تدخل خارجي وهماً في الدول الديمقراطية كما في الدكتاتورية. وما نعرفه عن الدول في كثير من الأحيان سواء ما تبثه وسائل الإعلام أو الدراسات أو المناهج المدرسية، تعبير عن التوجهات الدفاعية.
ويكاد التاريخ يكون دعاية، وإن نظرة على كتب التاريخ الأميركي التي تتناول فترة الخمسينات أو على الكتب المؤلفة في بريطانيا في ذروة عصر الإمبراطورية، تؤكد على الجانب الدعائي والتعبئة المستخدمة في صياغة الرأي العام والمناهج التدريسية.
عبادة الحرب أقدم عمرا من عبادة السلام بكثير، والدعاية الموجهة لدفع الناس إلى القتال في الحرب عملية أقدم كثيرا من الشكل غير المتطور نسبيا للدعاية الموجهة لجعل الناس يقاتلون من أجل السلام، وتاريخ الشعوب وتراثها يزخر بقصص البطولة والقتال أكثر من أي شيء آخر.
والدعاية صارت علما قائما بذاته من العلوم الإعلامية وهي فن الإقناع الذي تقوم قواعده على كسب مظهر الصدق (ليس بالضروة أن تكون الرسالة صادقة) لكسب ثقة الجمهور المتلقي المراد إقناعه، والبساطة والتكرار للوصول إلى أذهان الناس بسرعة، والنفاذ إلى ذاكرتهم التي لن تتذكر إلا ما استوعبته بسهولة وكثرة، واستخدام الرموز وضرب الأمثلة، فالذاكرة البشرية يسهل أن تختزن وأن تستدعي الصور ذات الدلالة المرتبطة بمخزون الذاكرة الموروث أو المكتسب.
ويكاد لا يكون ثمة فرق يذكر في وسائل العمل الدعائي بين الدول الديمقراطية والدكتاتورية، فقد لجأت جميعها إلى أساليب التأثير والعواطف وتحريك الحماس والحقد والكراهية والتمجيد، لا فرق في ذلك بين النازيين في الحرب العالمية الثانية أو الشيوعيين البلاشفة في مخاطبة العمال والمثقفين والفقراء أو الرأسماليين الأميركيين الذي يدعون إلى الليبرالية والحرية أو الثوار الفرنسيين. إنها دائما عند أصحابها وسيلة لتحقيق هدف والعبرة بالمحصلة، ولا بأس بإخفاء الحقائق أو التدخل في تفسيرها أو حتى قلبها.
ومن طرائف الدعاية اتخاذ شعارات مثالية جذابة ثم تبدو مع الزمن مصطلحا كريها تستخدم للدلالة على عكس ظاهرها اللفظي، مثل "الاستعمار" فهو وصف أطلقه المستعمرون على أنفسهم بمعنى الإعمار، ولكن الكلمة تدل اليوم على الاحتلال والاستغلال والبشاعة ولا تفهم إلا على هذا النحو. ويطالب الإعلاميون العرب والفلسطينيون استخدام كلمة المستعمرين بدل المستوطنين والمستعمرات بدل المستوطنات رغم أن الدلالة الأصلية للاستيطان هي الاحتلال والاعتداء ودلالة الاستعمار هي الإصلاح.
ويثير المصطلح نفسه دلالات متناقضة متباينة حسب اختلاف القوم مثل الحروب الصليبية، فقد سمى الصليبيون أنفسهم كذلك ولكنها تحولت إلى الدلالة على الكراهية والبشاعة عند العرب والمسلمين، وما زالت في الغرب تراثا بطوليا يحشد الرأي العام ويحرك عواطف الناس في الغرب. وربما لهذا السبب أطلق بوش على حربه الأخيرة "الحرب الصليبية" دون أن يلاحظ مدى استفزازها للمسلمين وكراهيتهم لها. وتحول مصطلح "التبشير" إلى عبارة مرفوضة يصعب استخدامها عند الحاجة الحقيقية لها مثل الحديث عن العمل على توعية الناس لأنها ارتبطت بحملات التنصير والتجسس ومعاونة المستعمر.
لقد تحولت الحرب الإعلامية في العصر الحديث من استهداف الجنود والمقاتلين سلبا أو إيجابا إلى التوجه نحو المجتمعات والأمم، ويمكن ملاحظة ذلك في الغزو الفكري والثقافي وتعميم أنماط الحياة والاستهلاك والطعام والأزياء وقصات الشعر، وصار الإعلام حربا شاملة على ثقافات الأمم وحضاراتها وتاريخها وتراثها، بل لقد اختفت ثقافات ولغات كثيرة ولم تعد موجودة ولا يعرفها حتى أصحابها، وباتت لغات وثقافات أخرى مهددة بالانقراض.
وبذلك يمكن القول بحق إن الدعاية صارت أهم الاستعدادات الحربية وتعد جزءا رئيسيا من المجهود الحربي، فهي كما يقول تايلور قذائف من الكلمات التي تختار بعناية وتصاغ بحساب دقيق، مستهدفة تشكيك شعب دولة العدو وجنوده في قضيتهم وهدم ثقتهم بقيادتهم وحكومتهم وبقدرتهم على تحقيق النصر أو هي "قصف العقول".
إبراهيم غرايبة
المصدر : الجزيرة
إضافة تعليق جديد