1
يختلف الإنسان عن بقية الكائنات الحية بأنه كائن تاريخي يدرك تدفقه في نهر الزمن وأنه يخضع لشروطه، بينما الكائنات الأخرى الملتصقة بالطبيعة لا تعي أكثر من دورة حياتها، وكذا الأمم المتقدمة تكون أكثر إدراكاً وفهماً لحركة التاريخ وقدرة على استغلال اللحظة الراهنة، وهذا يسمى العقل في التاريخ حسب تعبير هيغل، بينما تستعصي جذوع الأمم المتخلفة وحطبها فتعلق عند أحد منعطفات نهر الزمن منشغلة بسرد أساطير الماضي والرغبة بالعودة إلى النبع الأول، إلى أن تأتيها موجة عاصفة فتعيدها إلى مجرى الزمن المتدفق والمعقولية التاريخية، وقد تأخذ الموجة شكل الحرب الأهلية أو الثورة أو الكارثة.. ولكن ما الذي يشغل الشعوب العالقة في الزمن وعلام تتصارع مع بعضها؟ فيما يخصنا نحن العرب المسلمون كنا ومازلنا عالقون نتصارع على التأويل (تفسير الكلام بالكلام)، لأن الكلمات لا تقول الأشياء بدقة وقد تعطي معانٍ مختلفة بالنسبة للمتلقين، ومع مرور الزمن وإضفاء القدسية على شروحات الفقهاء المتعلقة بالنص المقدس يغدو الشرح بحاجة إلى شرحٍ مما يبعدنا عن المعنى الأول للنص الإلهي ويفاقم الإنقسامات المذهبية حول المعنى، ويجعلنا بحاجة إلى المحاكمات العقلية والمنطق التاريخي الذي تُلي فيه النص الذي غدا اليوم نصاً متفجراً يُقتل بسببه المسلمين بسبب اختلاف فهم القاتل للنص عن فهم القتيل له (كما يحصل للطوائف الإسلامية الصوفية على يد السلفيين من الإخونج والوهابيين)! لهذا نرى أن تفكيك الألغام التاريخية وعودة العرب المسلمين للتدفق في مجرى نهر الزمن تحتاج إلى تعزيز معرفتهم بفلسفات التأويل الحديثة، وفهم تجربة المسيحيين الذين مروا بما نحن فيه ومعرفة كيف انتقلوا من السلفية إلى التنوير وحافظوا على إيمانهم بالله ..
2
نشأ التكفير بنشوء الأديان، فكل سلطة دينية أوجدت عدواً يجمّع مؤمنيها بعداوة كافريها.. ويتبنى الإسلاميون التكفيريون شعار "الحاكمية لله" الذي رفعه الخوارج بوجه السلطات الرسمية للدولة الإسلامية مكفرين الجميع؛ وقد كانوا فرقة كلامية يشكلون تياراً سياسياً زمن الخليفة عثمان، لكن اجتهادهم في علم الكلام كان رهين ثقافة بيئتهم في مكة والمدينة آنذاك، وهم لايعتبرون أنفسهم خارجين عن الدين وإنما خارجين من أجل الدين متمسكين بمبدأ "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". وقد أحيا ابن تيمية شعار الحاكمية ولكنه لم ينتشر في زمنه نظراً لمحاربة السلطات الرسمية لأفكاره المتطرفة وسجنه في القاهرة والإسكندرية حتى مات في سجنه بدمشق، فنامت فتاواه زمناً حتى أربعينات القرن الماضي حيث تبناها أبو الأعلى المودودي زعيم الجماعة الإسلامية الباكستانية متسبباً بحرب أهلية ومجازر هائلة، ثم تلقفها الإخونجي سيد قطب في ستينات القرن الماضي وبثها في كتابه "معالم على الطريق" الذي تعتمده الجماعات الجهادية اليوم، ويطرح فيه ثلاثية التكفير: كفر الأنظمة العلمانية، جاهلية المجتمعات، والجهاد ضدها لإقامة الدولة الإسلامية. فالحاكمية تفترض أن الله مصدر السلطات لا الشعب، والجاهلية تشمل كل مجتمع تحكمه المادية الدنيوية وتختلط فيه ألوهية الله بأحكام البشر الضالين عن الحق، وأن كل ما أخذه المسلمون عن الحضارة الغربية هو جاهلية جديدة معاصرة. ويورد الباحث محمد مرتضى في كتابه "منطلقات التكفير السبعة" شرحاً لمفهوم الولاء والبراء باعتبارهما شرطاً في إيمان المجاهدين من أجل الدولة الإسلامية، إذ "يجب على المسلم أن يعادي في الله وأن يوالي في الله، وأن يكون ولاءه للمسلم ولو ظلمه وبغضه للكافر ولو أحسن له". ويشرح الباحث مرتضى كيف تولد مفهوم الإستحلال من عقيدة الولاء والبراء لدى التكفيريين ويقضي بسقوط حرمة كل مخالف لهم في العقيدة والسلوك سواء كان مسلماً أم غير مسلم، بحيث يصبح ماله ودمه وعرضه حلالاً يجوز الإستيلاء عليها وهدرها، قياساً على مرجعية مفهوم الغنيمة في التاريخ الإسلامي! كما يحيل مفهوم الإستحلال بدوره إلى مفهوم آخر هو الطائفة الممتنعة، ويعنون به فئة الحكم وجميع الناس الممتنعين عن تطبيق أحكام الشريعة أو بعضها، وهذا الإمتناع كاف في الحكم عليها بالإرتداد وبالتالي وجوب قتالهم وقتلهم. ويأخذ مفهوم الطائفة الممتنعة مداه في مفهوم (الترس) المذكور في فقه الجهاد والذي يبرر قتل الأبرياء من المسلمين إذا تترس بهم أعوان الظلمة، حيث يمارسه الجهاديون دون مراعاة لسياقه التاريخي. وقد رأينا الكثير من ممارساتهم التي تؤكد ذلك خلال السنوات العشر من الحرب على سورية عندما كانوا يقصفون المدن المكتظة بالمسلمين. وهي الإرتكابات ذاتها التي نفذوها في الثمانينات، دون أن تسعى السلطات الرسمية إلى تطبيق مناهج التأويل الحديثة في مدارسها ومعاهدها الشرعية بحيث تخرج جيلاً مسلماً ينتمي إلى هذا العصر، قادر على فهم النصوص ضمن سياقاتها التاريخية بدلاً من ترك الكثير من هؤلاء الطلاب مطية للجماعات السلفية، و الإكتفاء بسجن من يخرج منهم على السلطة مكررين سياسة الحكومات التاريخية التي اكتفت بسجن ابن تيمية دونما تصحيح لأفكاره وتفكيك ألغامها التي تنفجر بنا اليوم !
فقد أُبعد الدين كثيراً عن الله وعن الأخلاق، وبات رافعوا راياته أقرب إلى عصابات المافيا والقراصنة. وبات الدين كالسياسة والإقتصاد بحاجة إلى تنمية علمية تساعده على خدمة الناس وتقدم المجتمع وليس إعادته إلى الوراء.
3
يقول سبينوزا في كتابه الشهير رسالة في اللاهوت والسياسة: " ليس لتفسير الكتاب المقدس معيار آخر غير ضياء العقل الذي يعم كل شيء". وقد استعاد الغرب المسيحي عقله اليوناني عبر ترجمات سريان سورية لفلسفاتهم، واشتغل عليها مطوراً فلسفة الأنوار التي ساعدته على تحرير اللاهوت من احتكار الكنيسة لتفسير الكتاب المقدس، حيث تطور علم التأويل أو التفسيرية أو "الهرمنيوطيقا" عبر خط زمني ممتد منذ أفلاطون مرورا بهيدغر وسبينوزا وكانط وديكارت وهوسرل وصولا إلى بول ريكور وهابرماس الذي تحدثنا عنه في المراجعة السابقة.. فمع ظهور حركة الإصلاح البروتستانتي ظهرت الحاجة إلى تفسير الكتاب المقدس دون عون من سلطة الكنيسة، و كان على الكهنة البروتستانت، بعدما قطعوا صلتهم بسلطة الكنيسة الكاثوليكية، أن يعتمدوا على أنفسهم في تفسير الكتاب المقدس تفسيرًا لا يستند إلى سلطة الكنيسة، وبالنظر إلى تعدد التفاسير الممكنة لأي نص إنجيلي فقد ألحت الحاجة إلى تأسيس مبادئ أو معايير للتفسير الصحيح فظهر علم الهرمنيوطيقا أي علم التأويل وفهم النصوص باستخدام فقه اللغة واللاهوت والنقد الأدبي، حيث استمر في تطوره منذ رسالة الراهب الألماني الإصلاحي مارتن لوثر إلى البابا عام 1517م ولم يكن يمضي عامٌ دون أن يظهر دليلٌ تأويلي جديد لمساعدة الكهنة البروتستانت في مهمتهم الجديدة.
ويبين بول ريكور آخر فلاسفة التأويل العظام، أهمية الرموز والمعنى المزدوج للألفاظ، ومناهج تأويلها، وقد وسّع نطاق الرموز لتشمل رموز الحلم والرموز الثقافية، ومدّ نطاق التأويل ليشمل جميع تقنيات التحليل النفسي. حيث يقول أن أساطير الخلق والتكوين وأصل العالم هي تفسيرات من الدرجة الأولى لمنشأ الشر في العالم. وقد أفضى به اهتمامه برمزية الشر إلى الاهتمام باللغة الرمزية وبالتأويل وعلم الدلالة إذ تتكشف الرغبات في الكلمات وطريقة التعبير عن المعنى. ففي كتابه "الزمان والسرد" يبين ريكور كيف يولّد السرد معنى جديدا حيث ترتبط خبرة الزمن بالسرد ارتباطًا وثيقًا، فكل سردٍ هو زماني في جوهره وصميمه، والفكرة المركزية هي أن الزمن يصبح زمنًا إنسانيًّا بقدر ما ينتظم في روايات، وهذا يؤدي إلى نوع من "نزع الأسطورية" عن النص بحيث نتمكن من فهمه بمنظور عقلي لا غيبي.. ومن هنا نرى ضرورة استخدام علماء المسلمين لفلسفة التفسير وعلومها بغية إنهاء الصراع على التأويل وعقلنة الفكر الديني بعدما توحش كثيرا على أيدي التكفيريين. لولا أن حكوماتنا العلمانية مازالت جذورها سلفية، وكذا القسم الأكبر من شعبنا العظيم الذي يعرف كيف يموت ولكنه لا يعرف كيف يعيش، فنحن أمم المقابر والموتى الأحياء ننتظر صيحة ربي لتدب فينا الروح ويحيا العقل.
يقول فريدريك نيتشة: الأفعى التي تفشل في التخلي عن جلدها القديم ستموت وكذلك العقول التي تمنع من تغيير آرائها فهي لن تكون عقولا بعد الآن.
4
انغلاق المؤسسة الإسلامية الرسمية ووقوفها عند زمن فقهاء المذاهب الخمسة في القرن الثاني للهجرة ساهم في تحجر الثقافة الدينية وابتعادها عن العصر وخسران غالبية أبنائها المثقفين، حيث حاربت كل محاولات التجديد في الفقه الإسلامي باستخدام علوم التفسير الحديثة والتي كان المفكران الإسلاميان نصر حامد أبو زيد ومحمد شحرور آخر ضحايا شيوخها. حيث تم نفي الأول وتجاهل الثاني من قبل سلفيي المؤسسات الدينية. ورغم تعاطف المثقفين معهما فإن غالبية العلمانيين والسلفيين على حد سواء لم يقرأوا منهجهما في التفسير والتأويل، فكان تأثيرهما إعلامياً أكثر منه دينياً، ومازلنا ننتظر حركة شجاعة من كليات الشريعة بطرح افكارهما من باب الإضاءة او حتى ولو من باب التحدي والرد عليهما بحجج مثبتة، إذ سيفتح ذلك الباب أمام حركة العقل وسط مستنقع النقل ويجعل النص مفتوحاً على الزمان بعد إغلاقه قبل ألف عام حين انتصر الحنابلة على المعتزلة وتبنى الخليفة المتوكل مدرستهم السلفية ..
استخدم المفكر الإسلامي نصر حامد أبو زيد في كتبه ال 34 (المتوفرة على النت) علم "الهرمنيوطيقا" في قراءته للنصوص الإسلامية المقدسة واشتغل في تأويله بتبيان بنية النصوص الداخلية والوصفية ووظيفتها المعيارية والمعرفية، والكشف عن الحقائق المضمرة في النصوص وربما المطموسة لاعتبارات تاريخية وإيديولوجية رابطاً بين الماضي والحاضر، من حيث أن الحاضر يحمل الآليات والوسائل والأهداف، والماضي هو موضوع البحث والتنقيب والحفر، فناقش مفهوم التاريخية، وعلاقتها بتأويل النص الديني خاصة القرآني، انطلاقا من أن مفهوم التاريخية يعني الحدوث في الزمن، حتى لو كان هذا الزمن هو لحظة افتتاح الزمن وابتدائه؛ إنها لحظة الفصل والتمييز بين الوجود المطلق المتعالي والوجود الزماني. واعتبر أن العلمانية بما تقدمه هي الحماية الحقيقية لحرية الدين والعقيدة من حيث أن العلمانية تساعد على الفهم الصحيح للنص الديني بل وتوفر الشروط اللازمة لذلك، ذلك أن العلمانية لا تعادي الدين، بل تعادي التأويل الحرفي للعقائد، وتناهض محاولة المؤسسات المذهبية فرض تأويل الأئمة في القرنين الثاني والثالث للهجرة من أجل استمرار هيمنتها وسيطرتها. ففي ظل العلمانية ازدهرت الأديان وتحرر أصحابها من الاضطهاد والمطاردة والمصادرة، فالعلمانية هي الملجأ الذي يحافظ على الحريات والحقوق، وفي ظلها يؤوِّل المفكِّر النص الديني تأويلا يحقق الغاية المرجوة منه.
وبالطبع نحن لا ندعو أن يتحول أبو زيد إلى مذهب فقهي لا يحتمل النقد، بقدر ما نبارك الفتح الفكري الذي يحققه العلماء باستخدام مناهج التأويل الحديثة فلا يبدو الدين كشيء رجعي في زمن الحداثة.
وعلى أي حال فإن كوارث الربيع السلفي التي عصفت بالأنظمة قد بدأت تدفع باتجاه فتح باب الإجتهاد، إذ أن مصر منشأ مدرسة الإخونجية والسعودية منشأ مدرسة الوهابية السلفيتان بدأتا حركة التغيير الديني، حيث صرح الأمير محمد بن سلمان مؤخرا أن "باب الاجتهادُ مفتوح، وفق النصوص، مع مراعاة تغيّر الزمان والحال"، منوها أن "إغلاق باب الاجتهاد كان بفتاوى شيوخ الدولة العثمانية". وفي مصر قالت الدكتورة آمنة نصير أستاذ العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر: "إن باب الاجتهاد ترك مفتوحًا حتى يوم القيامة ليواجه مستجدات العصر. وأنا مع الاجتهاد لمنع التطرف ومواكبة المستجدات، ألا نؤمن أن الدين صالح لكل زمان ومكان، والزمان كل يوم في شأن، وفيه مستجدات لا تعد ولا تحصى ". ويؤكد هذا التوجه محمد مختار جمعة وزير الأوقاف المصري بقوله ” باب الاجتهاد لم ولن يغلق وهو مفتوح إلى يوم القيامة، وأننا في حاجة إلى الاجتهاد والتجديد في عصرنا أكثر من أي عصر مضى، لكثرة المستجدات”.. إذا فالغالبية تؤكد اليوم بأن باب الاجتهاد مفتوح ونأمل أن تتضافر المؤسسات الإسلامية وتتعاون من أجل دين مسالم ومنتج ومعاصر يسهّل حياة المسلمين وينزع منها ألغامها التاريخية.
5
يجب على المسلمين إخضاع تراثهم للدراسة العلمية والمساءلة الشديدة، فالإنسدادات التاريخية ناتجة عن هيمنة مجموعة من اليقينيات المطلقة التي لا تقبل النقاش والتي أصبحت عالة علينا وعلى العصر والبشرية. هذه اليقينيات التي تحظى بمرتبة القداسة والعصمة هي التي تخلع الحماية المعنوية والمشروعية الإلهية على أعمال الإجرام. فعندما يتلو الجهادي آية قرآنية قبل أن يذبح الرهائن أمام الشاشات فهذا يعني أن المساءلة لم تعد تقتصر عليه وحده اليوم وإنما ستتجاوزه حتى تصل إلى الطريقة الخاطئة لفهم النص واستخداماته بأسلوب وحشي ما أنزل الله به من سلطان.
في ظل هذا الواقع يتساءل المفكر السوري هاشم صالح في كتابه "الإنسداد التاريخي" عن سبب فشل مشروع التنوير في البلاد العربية ويجيب أن ذلك "كان بسبب التناقض المطلق بين النص والواقع، بين النص وكل التطورات العلمية والسياسية والفلسفية التي جاءت بها الأزمنة الحديثة. فالالتزام بحرفية النص يؤدي بالمسلم إما إلى إنكار منجزات الحداثة كلها، وإعلان الحرب عليها كما يفعل الظواهري وغيره، وإما إلى إنكار النص ذاته والشعور بعد ذلك بالإحساس الغريب بالخطيئة والذنب. وهكذا يقع المسلم في تناقض قاتل لا مخرج منه. والحل لا يكون إلا بالتأويل المجازي للنص والإعتراف بالمشروطية التاريخية للنص، والظرف الذي جاء فيه، كما فعل المسيحيون في أوروبا بعد التنوير في القرن التاسع عشر. فقد عانى المسيحيون الأوروبيون من الإنسداد التاريخي ولم يستطيعوا الخروج منه إلا بعد القبول بتطبيق المنهج التاريخي على الإنجيل والتوراة مما أتاح تصالح المسيحيين مع الحداثة".
فالصدام الإسلامي مع الحداثة هو أمر ضروري ويجب أن يحدث بعنف كي يتم فتح الملفات القديمة للمناقشة والإنتقال إلى المرحلة التالية بعد أن تم إغلاق النقاش قبل ألف عام في موضوع خلق القرآن وانتصار الحنابلة على المعتزلة في زمن المتوكل ، حيث تم الإنقلاب على المأمون وحركة العقلانية العربية الإسلامية الذي مازلنا ندفع ثمنه دما ولو حصل العكس لكنا أنجزنا المصالحة بين الإسلام والحداثة وألغينا نصف قرن من الصراع الديني.
لكن ورغم أن الهزة حصلت وخلخلت أركان المجتمعات الإسلامية فإن القيادات السياسية العربية مازالت أقل من أن تعي أهمية الصدام وتستغله، وبدلا من النوم في أحضان رجال الدين المحافظين، الذين لم يقوموا بأي فعل إيجابي بعد تجاه إعادة تصحيح الخطأ التاريخي، يتوجب عليهم أن يأخذوا برأي المفكرين العرب و يشتغلوا على تصحيح الأخطاء المتراكمة عبر التاريخ الإسلامي، فلدينا اليوم عشرات المفكرين العرب ممن قدموا قراءات مهمة لموضوعات الإسلام والفكر الديني منذ سبعينات القرن الماضي حتى اليوم، ومازلنا نستشهد بالكثير من أفكارهم في هذه المراجعات، لعل جمهور المسلمين يضغط على قياداته الروحية والسياسية باتجاه التنمية والتحديث الديني..
إن الخراب عام والسقوط شامل وقد دفعنا الثمن فما الذي يمنعنا من مواجهة العقل السلفي لتحرير الناس من تكرار أخطاء الماضي؟ العدو القريب موجود داخل رؤوسنا وعلينا مواجهته بشجاعة كي نتمكن من إعادة تنظيم صفوفنا ومواجهة العدو البعيد، وهذا ما أغفله القوميون رافعو شعار الوحدة العربية الذين أرادوا تحقيق شعارهم سياسيا ولم يستطيعوا استقطاب المسلمين الأكراد والتركمان والأمازيغ بل حتى توحيد الطوائف الإسلامية العربية!؟
هل يوجد مواطن في أي دولة عربية يعيش بكرامة كما ينبغي لإنسان القرن العشرين بالمقارنة مع شعوب الأمم الأخرى؟ فقد فشلت مايسمى ثورات الإسلاميين التي غيرت الرؤساء ولم تغير الأنظمة، إذ كان ينبغي تحرير العقل السلفي أولا، فدفعت الأمة ثمنا غاليا من دون مقابل.. إن الأرضية التراثية تخترق وعينا جميعا كإسلاميين وقوميين وشيوعيين مع حليب الطفولة، وهذا سبب ارتكاس العديد من الماركسيين باتجاه الأسلمة في آخر حياتهم !؟
قبل ثلاثة قرون نشر عمانويل كانط كتابه "الدين ضمن حدود العقل" فاحتج رجال الدين حتى وصل صوتهم إلى ملك ألمانيا الذي حذره من إفساد الشبيبة بالأفكار الضالة، واليوم تُدرج مناهج تدريس اللاهوت كتاب كانط في مناهجها بعد تقبل رجال الدين المسيحي للعلم والحداثة.
6
هل يمكن أن نتوقع مستقبلا ظهور نهضة عربية إسلامية؟
منذ صدور كتابات ابن خلدون التي شكلت نقلة نوعية في مجال التنظيم السياسي الإسلامي لم تظهر اسهامات ذات قيمة في هذا المجال، منذ القرن الـعاشر حتى سبعينات القرن العشرين. فقد تحدث ابن خلدون عن وسائل تحقيق التنمية، وأكد على أن الزراعة والتجارة والصناعة تمثل أوجه المعاش الطبيعية وأن المجتمعات تزاول الزراعة أولاً، فإذا تقدمت نسبياً أضافت اليها التجارة، فإذا ارتقى عمرانها جمعت اليها النشاط الصناعي الذي يتطور بشكل تدريجي بمرور الزمن. كما رأى بأن للدولة دور كبير في تحقيق عملية التنمية والتقدم، يتمثل في إزالة العقبات أمام نشاط الأفراد وتمهيد السبيل لهم لتحقيق العمران.
والواقع أن الأزمة السياسية التي تعاني منها الأنظمة العربية، هي جزء من مشهد أكبر تعاني منـه المجتمعات القائمة في البلاد العربية هو مشهد التخلف العام الذي أنتجته حالة التخلف الديني التي تحتاج إلى تنمية المعرفة وثقافة المواطنة والديمقراطية من داخل الثقافة الدينية والمذهبية باستخدام المناهج العلمية الحديثة في التأويل، حيث يلتقي جميع الفرقاء عند الإيمان بالله في الفهم المعاصر للنصوص التوحيدية. فعلوم الدين كبقية العلوم معرضة لبلى الزمن وغباره، و لا يمكن أن نقبل باستخدام نفس الحلول التي استخدمتها الأنظمة الإسلامية قبل 1400 عام وكأن الزمن واقف لا يتغير في المتحف العربي الإسلامي الكبير الذي تستثمره أنظمة الغرب الإمبريالي.
في نهاية كتابه الفكر والسياسة في العالم العربي يقول المفكر اللبناني جورج قرم: "أن الأحداث التي طرأت منذ العام 2011 تظهر شبه انهيار التوافقات الإجتماعية التي سادت حياة المجتمعات العربية منذ الإستقلال، وهو انهيار ناجم إلى حد كبير عن مطامح الحركات الإسلامية، وعن أساليب توظيفها من قبل الأنظمة العربية نفسها، كما على يد القوى الإقليمية مثل تركيا، وللدعم الذي قدمته الدول الأوروبية والولايات المتحدة للبعض منها". ويبرئ قرم الفكر السياسي العربي بشكله الإصلاحي الديني أو القومي التقدمي من الإنزلاق الآيديولوجي نحو مختلف أشكال الإسلام السياسي، وينتهي إلى أن الفكر النقدي العربي لم يخبُ بعد، وأن المواجهة مازالت مفتوحة بين فكر منفتح ونقدي، علماني وضعي، يضاف إليه فكر الإصلاحية الدينية المتنورة الذي يستمد جذوره من جهود الأسلاف الكبار في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين من جهة، ومن جهة أخرى فكرٌ مغلق معلّب في مخيال تراث لاهوتي سياسي هائم في العهود الأولى للإسلام التي ينبغي في نظره أن تبعث من جديد.
إن تحقيق التنمية السياسية في البلدان العربية يحتاج إلى علمنة الدين وتحديث مفاهيمه السلفية القديمة، ذلك أن الجماعات الإسلامية اليوم تستغل أدوات الحداثة وتدخل في اللعبة الديمقراطية لنشر التخلف والإستبداد والعداء وتفكيك النسيج الإجتماعي، كما حصل خلال حكم الإخونج في فلسطين ومصر وتونس والسودان والدولة الإسلامية في الشام والعراق.. أما في تركيا فالأمر معقد حيث تقود سيارة الدولة العلمانية مجموعة إخونجية بعقلية رجعية وبدلا من أن تذهب بالشعب نحو المستقبل فإنها تعيدهم إلى الماضي، نحو متحف الخلافة العثمانية وعفونته التي ماتزال بقاياها منتشرة في بعض مجتمعات البلدان العربية بدليل تواطؤها معها!؟
إن ميزة الإنتفاضات التي حدثت منذ 2011 الوحيدة هي أن الجماعات السلفية فتحت باب الحرب على نفسها، بعدما اكتشفت الشعوب الإسلامية خطرها على مستقبلها الذي تتوق إليه منذ الإستقلال ولم تصله بعد.
نبيل صالح: عربي برس
إضافة تعليق جديد