الحضارة الفينيقية في معهد العالم العربي بباريس
حين تشاهد لدى زيارتك معرض «المتوسط الفينيقي: من صور الى قرطاج» الذي يقيمه معهد العالم العربي متعاوناً مع متحف اللوفر، الألواح الحجر التي نقشت عليها حروف الأبجدية التي ابتدعها الفينيقيون، لا تتوانى عن طرح السؤال الذي طالما طرحته على نفسك في السابق: الحضارة التي اخترعت الأبجدية الأولى لماذا لم تبتدع كتباً وملاحم مثلما ابتدعت الحضارات القديمة، المصرية والأشورية والبابلية وسواها ملاحم مثل «جلجامش» أو كتباً مثل «كتاب الموتى»؟ ويزداد هذا السؤال إلحاحاً كلما شاهدت المزيد من تلك الألواح التي حفرت عليها جمل كأنها مقطوفة من نصّ مندثر. كان يحاول البعض الرد على مثل هذا السؤال متذرعاً بأن الأدب الفينيقي الذي وجد حتماً، لم يصل منه إلا القليل، حتى الآن. والمثل الذي يُضرب في هذا القبيل هو ما ظهر من كتابات الكاهن الفينيقي الشهير الذي يدعى سنكن يتن بحسب قول فيلون الجبيلي. وعندما اكتشف المنقبون آثار رأس شمرا في سورية عثروا على ملاحم تدور حول الأدب الديني والطقوس والزراعة وسواها. إلا أن ما من نصّ ترجم وطبع حتى الآن. هكذا بقيت هذه الحضارة التي عرفت معظم أنواع الفنون القديمة كالنحت والخزف والموسيقى وسواها، بلا كتب ولا ملاحم. وقد يكون من المستحيل ألا تعرف هذا النوع من التدوين، هي التي ابتدعت الحروف الأبجدية ونشرتها في العالم.
معرض «المتوسط الفينيقي» الذي حمل عنواناً إضافياً هو «أي وجه هو وجه الحضارة التي أعطتنا الأبجدية؟» معرض فريد في ما ضمّ من آثار تلتئم للمرة الأولى لتؤلف ما يشبه «الملحمة» الفينيقية التي تمتد امتداد الساحل الفينيقي من فلسطين الى لبنان وسورية وقرطاج مروراً بالجزيرة القبرصية وجزر بحر إيجه وسردينيا ومالطا وصقلية وضفاف ايطاليا واسبانيا وشمال إفريقيا... إنه المتوسط الذي أقام فيه الفينيقيون وغزوه، هم الذين عرفوا بالبحارة والتجار وناشري الحرف.
تتيح الآثار المعروضة على اختلافها اكتشاف التاريخ الحقيقي الذي لا يزال شبه مجهول لهذا الشعب وللمدن التي بناها وانطلق منها عبر شبكة من الخطوط البحرية بغية التبادل التجاري والحضاري مع العالم من حوله. يضمّ المعرض زهاء ستمئة قطعة أثرية استعارها متحف «معهد العالم العربي» الذي يديره الآن الكاتب والأكاديمي السوري بدر الدين عرودكي من متاحف عالمية، وتتوزع بين الكتابات المحفورة على الألواح الحجر وشواهد القبور والنواويس والأختام والقطع النقدية وقطع العاج والزجاج والسيراميك أو الفخار والتماثيل النصفية وسواها. وتنمّ هذه المعروضات عن مهارة الفينيقيين في الفنون الحرفية واليدوية وعن الجماليات الباهرة التي رسّخوها، متأثرين أحياناً ببعض الفنون التي عرفتها الحضارات الأخرى. فبين المنحوتات الفينيقية أعمال يمكن وصفها بـ «الهجينة» لتأثرها مثلاً بالنحت الفرعوني وسواه. لكن الفينيقيين كانوا يصدّرون أعمالهم الفنية الى مصر، وكذلك خشب الأرز الذي كانوا يصنعون منه سفنهم وأسطولهم التجاري والحربي.
تقف أمام الألواح التي حفرت عليها الأبجدية وتتذكر أن أهم ما قدّم الفينيقيون للبشرية هو اختراعهم الحرف الذي أصبح أساساً لمعظم أبجديات العالم. ونظراً الى حاجاتهم الملحاح للتواصل مع العالم ولتدوين عقائدهم وحفظها من الاندثار سعوا الى البحث عن أشكال جديدة للكتابة بعدما اطلعوا على طرق الكتابة لدى المصريين وشعوب بلاد ما بين النهرين. لكنهم أدركوا أن الكتابة الهيروغليفية ليست إلا كتابة تصويرية معقدة، فسعوا الى تبسيط الكتابة باذلين جهداً كبيراً ومجتازين مراحل عدة. ثم لم يلبثوا أن اكتشفوا أن اللغة قائمة على اثنتين وعشرين نبرة صوتية فوضعوا لها رموزاً أو أحرفاً فكانت الأبجدية الأولى. هذه الأبجدية نقلها قدموس الى بلاد اليونان كما يذكر المؤرخ الشهير هيرودتس. إلا أن العالم لم يكن يعلم حتى القرن التاسع عشر أن الفينيقيين هم الذين اكتشفوا الأبجدية إلا من خلال أقوال اليونان. ولكن سرعان ما أثبتت الحفريات هذا الاكتشاف الفينيقي. فناووس الملك أحيرام الذي عثر عليه عام 1923 في مدينة جبيل اللبنانية يحمل نصاً أبجدياً كاملاً. أما النقوش التي اكتشفت في مدينة أوغاريت في سورية عام 1929 والمحفورة على الآجر فهي خُطّت بالأحرف الفينيقية نفسها، ويعود تاريخها الى مطلع القرن الرابع عشر قبل الميلاد. وفي العام 1949 عثر في رأس شمرا على أجرة حفرت عليها الحروف الاثنان والعشرون، مرتبة وفق الترتيب الهجائي.
بعض المعروضات الأثرية لا سيما النواويس والمنحوتات النصفية تتيح للزائر أو المشاهد أن يستعيد الطقوس الدينية التي كان يمارسها الفينيقيون. وكان الدين الفينيقي ينطلق من فكرة الخصب، ولم يكن غريباً في بعض نواحيه عن الدين المصري والبابلي وسواهما من الأديان التي اقتبس الفينيقيون منها. وكان لديهم آلهة متعددة ترمز الى القوى السماوية والطبيعية. ومن آلهتهم الشهيرة: إيل وآدون وملكارت وأشمون. وكان لدى الفينيقيين أعياد وكانوا يحجون خلالها الى المعابد البعيدة. وكانوا يقرّبون الأضاحي ويقدمون القرابين. ومع أنهم يعتقدون بأن الثواب والعقاب يتمان في هذا العالم فهم كانوا يكرّمون موتاهم مثلهم مثل المصريين القدامى. ووجدت في قبور لهم سرج وجرار وأوانٍ للطعام، ما يؤكد أنهم يعتقدون بأن ثمة حياة بعد الموت تشبه الحياة على الأرض.
وإذا كان المعرض يلقي ضوءاً ساطعاً على الحضارة الفينيقية من خلال تجلياتها الفنية والحرفية فإن هذه الحضارة لا تزال شبه مجهولة، مثلما كان الفينيقيون أنفسهم مثار اختلاف بين المؤرخين القدامى. ثمة مؤرخون يمتدحون هذا الشعب الذي خاض البحار واكتشف الأبجدية وتواصل مع العالم، وثمة آخرون، لا سيما المدوّنون الاغريق والرومان يصفونهم بأنهم «برابرة» حاولوا السيطرة على المواقع والمستعمرات في هدف التجارة والمال. واتهم المؤرخ الاغريقي ديودور دو سيسيل الفينيقيين بأنهم كانوا يضحون بالأطفال للآلهة، لكن هذه التهمة لم تؤكدها المكتشفات الأثرية.
إلا أن الحضارة الفينيقية التي امتدت وسع أصقاع المتوسط وأبعد منه، كانت الحضارة البحرية الأولى، في ما يعني البحر من نزعة الى المغامرة وخوض المجهول والتحدي والاكتشاف. والمعرض «الملحمي» يؤكد فعلاً أن الفينيقيين سعوا الى غزو العالم، قدر ما أمكنهم، ليس بغية التجارة فقط وإنما سعياً وراء المعرفة التي لا حدود لها وإشباعاً لفضولهم الذي طالما ساور نفوسهم.
عبده وازن
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد