القبضايات والمنافيخ
الجمل- خطيب بدلة: تحدثت في مقال سابق عن "الشام" المدينة المتحضرة الراقية، وبعض كتاب الدراما الذين أصبحوا كتاباً بالاستناد إلى نظرية القلة التي يلخصها المثل الشعبي القائل: من قلة الزفر أصبحنا نقول للمعلاق مرحبا يا خال!.. وقلت إن هؤلاء الكواتيب يشوهون- من حيث يدرون والأرجح من حيث لا يدرون- تاريخ أهل الشام حينما يظهرونهم لنا في المسلسلات والواحد منهم يغرز خنجره في مقدمة جسمه لكي يراه الناس، ويمشي مصعراً خده للناس ويلوح في مشيته على طريقة (خصلة وعنقود والباقي فراطة!)، وحينما يتحدث تراه يرخي حنكه ويمط الحرف الصوتي قبل الأخير إلى حد الميوعة.
وأعود وحضراتكم الآن إلى الموضوع نفسه بقصد أن نتفق ونتفاهم على أن القبضاي الذي عرف في الشام قديماً على نحو محدود هو الذي كان يسمى (الزكرتي)، وهو رجل شجاع من دون ادعاء أو منفخة، ولا يدري أحد إن كان يحمل سلاحاً تحت ثيابه أم لا، وهو صبور، وحليم، وميال إلى الصلح والمسالمة، فإذا خرجت الأمور من يده، ولم يترك له الآخر أية فرصة للتفاوض، يضطر للعراك، ووقتها يظهر للجميع أنه قوي ومقدام وغالباً من يربح الجولة، وعند اللزوم يعفو عن خصمه، وربما اعتذر له لأنه اضطر لأن يقسو عليه.
القبضايات المنافيخ الذين يتحفوننا بهم في المسلسلات يذكرونني بواحد منفاخ تحدث عنه الأديب الراحل نجاة قصاب حسن في كتابه "حديث دمشقي". هذا الرجل كان يرتدي ثياب القبضايات ويدخل إلى الحمام لكي يستحم، وخلال وجوده في الحمام يعتدي على الزبائن وينغص حياتهم، ولا أحد يرد عليه لأنه (وسخة).. دواليك حتى طفح الكيل بصاحب الحمام وطلب منه ألا يأتي إليها بعد اليوم، تحت طائلة تسليمه للشرطة.
شعر ذلك المنفاخ بأن صاحب الحمام جاد في كلامه فرضخ للتهديد. ووافق على ألا يكلم أحداً ولا يعترض على أي شيء يراه مهما كان هذا الشيء.
قال: موافق. وهذه مسكة على شوارب القبضاي على أني لا أعترض.
في اليوم التالي خلع القبضاي ثيابه وعلقها في (البراني) وعلق فوقها خنجره، ودخل إلى الحمام. وحينما خرج لم يجد ثيابه، بل وجد الخنجر فقط يتدلى في حمالته، وتذكر العهد الذي قطعه لصاحب الحمام على عدم الاعتراض، والمسكة على الشوارب، وعرف أنه بلع المقلب، فارتدى الخنجر (على الزلط) وقال لصاحب الحمام بانكسار:
- أنا لم أحنث بوعدي ولم أعترض، ولكن بربك قل لي: هل أتيت أنا إلى الحمام بهذه الهيئة؟!
للكاتب أيضاً:
إضافة تعليق جديد