المثقفـون الفرنسـيون والثـورة العربيـة..بيــن حمايــة إســرائيل والانتصــار للحريــة

18-03-2011

المثقفـون الفرنسـيون والثـورة العربيـة..بيــن حمايــة إســرائيل والانتصــار للحريــة

قبل الحديث عن المثقفين الفرنسيين والثورة العربية، أسمح لنفسي، أوّلاً، بأن أفتح قوسين وأتوجّه إلى الذين راهنوا وما زالوا يراهنون على إصلاح الأنظمة العربية التي لم تسقط بعد، والفنان السوري صفوان داحول (مواليد ١٩٦١) التي بدأت تنادي بالإصلاح، تحت ضغط الشارع والخوف. تلك الأنظمة التي وقفت عقوداً من الزمن ضدّ تقدّم المجتمع، بعدما صادرت الرأي وحكمت بالترهيب والرعب وحاولت أن تشوّه أجيالاً بأكملها، غير قادرة على التغيير مهما تشدّقت به. وفي هذا المجال، لا أجد أفضل من عبارة المفكر الفرنسي ألكسي دو توكفيل القائلة «إنّ اللحظة الأكثر خطورة في تاريخ ديكتاتورية ما، هي عندما تشرع في الإصلاح».
[[[
الثورة العربية التي انفجرت كبركان كانت ناره تعتمل بصمت في باطن الأرض، فاجأت العالم أجمع. وإذا رصدنا ردود الفعل في فرنسا، نكتشف أنّ الشرارة التي اندلعت في تونس وانتقلت إلى القاهرة وغيرها من المدن العربية، تركت نسبة كبيرة من المثقفين الفرنسيين في حال من الارتباك، فتأخرت ردود الفعل. حالة من الصمت، بل من الإغماء، أصابت تلك الفئة من المثقفين الأكثر شهرة إعلامياً في فرنسا وفي مقدمتهم الفلاسفة برنار هنري ليفي وألن فنكلكروت وأندريه غلوكسمان الذين سارعوا إلى التشكيك في أهمية هذه الثورة وفي ما ستؤول إليه في المستقبل، وعبّروا عن خشيتهم من أن تكون لحظة التحوّل التاريخي التي يعيشها العالم العربي الآن مناسبة لوصول المتشددين دينياً إلى السلطة، على غرار ما حدث في إيران. هذا بينما كان عنوان افتتاحية صحيفة «لوموند» في الثاني من شباط الماضي: «الأمل الذي يولد عند ضفاف النيل». وجاء في الافتتاحية أنّ الشعب المصري استعاد كرامته وتمكّن من هدم جدار الخوف، وأنّ هناك إمكانية لتحقيق ربيع عربي لأنّ «الديكتاتورية ليست قدراً يُفرض على الشعوب».
في السادس من شباط، نشرت الصحيفة تحقيقاً بعنوان «إنتلجنسيا الصمت في باريس» وتمحور حول الأسباب التي تقف وراء صمت المثقفين. فالذين يهللون في العادة لسقوط الديكتاتوريات في العالم أصيبوا بالهلع حيال الانتفاضة العربية. المفكّر والفيلسوف ريجي دوبري علّق متسائلاً: «ماذا تنتظرون من أشخاص يمضون عطلاتهم في قصورهم في مراكش أو في تونس أو مصر؟» واعتبر أنّ هؤلاء يشعرون بالضياع في تعاطيهم مع «الحركات الشعبية التي قد تتحوّل، عاجلاً أم آجلاً، ضدّ إسرائيل».
معاداة السامية
يتأكد هذا الموقف عندما نقرأ ردّ كلّ من الفيلسوفين ألن فنكلكروت وبرنار هنري ليفي اللذين يعبّران عن قلقهما مما يجري في العالم العربي وبالأخص في مصر لأهمية دورها الاستراتيجي في المنطقة وطبيعة علاقتها بإسرائيل. كيف يطمئنّ فنكلكروت وهو يرى أنّ مصر «تعيش، منذ سنوات، حالة مناهضة لإسرائيل ومعادية للسامية؟» ويشكّك في جدوى انتفاضة مصر طالما أنها، بحسب رأيه، لا تمتلك التقاليد الديموقراطية التي كانت تمتلكها أوروبا الشرقية (صحيفة «ليبيراسيون»، 3 شباط). أما برنار هنري ليفي فيدعو إلى مساعدة الديموقراطيين لتحقيق رهانهم السياسي وذلك «من خلال تشجيعهم على التقيد بالتزامات واضحة منها حرية التعبير واحترام التعددية وخصوصاً احترام اتفاق السلام المنعقد عام 1979 بين إسرائيل ومصر»، لأنّ هذا الالتزام، كما يقول، هو أيضاً تعبير عن الديموقراطية.
في اللحظة التي أكتب فيها هذا المقال، يتصدّر أكشاك الصحف التي تملأ شوارع العاصمة الفرنسية وساحاتها ملصق كبير وزّعته «صحيفة الأحد» ويمثّل صورة الفيلسوف ترافقه العبارة التالية: «برنار هنري ليفي يدافع عن حقوق الإنسان في إيران». هو الذي يقف مع الشعوب المقهورة في العالم، من دارفور إلى البوسنة ومن أفغانستان إلى جورجيا، تتوقّف حركته الدؤوبة فجأة عند أبواب غزّة! ألم يكتب في السابع من حزيران الماضي مقالاً بعنوان «لماذا أدافع عن إسرائيل؟»، وقد أبرز فيه «حسنات الاحتلال الإسرائيلي» ورسم صورة مزيّفة عن حقيقة الوضع القائم في أراضي الاحتلال، مشيحاً بنظره عن مأسوية ذاك الوضع وعبثيته. ولا يمكن إدراج زيارته الأخيرة لـ«ساحة التحرير» في القاهرة ومدينة بنغازي، إلاّ في سياق ما يمكن اعتباره «السياحة الثورية» وتأكيد الحضور الإعلامي وتسجيل المواقف.
في السياق نفسه جاء موقف أندريه غلوكسمان والكاتب مارك ألتير والإعلامي ألكسندر أدلر، وهذا الأخير كان سبّاقاً ونشر في صحيفة «لوفيغارو» في التاسع والعشرين من كانون الثاني مقالاً بعنوان: «نحو ديكتاتورية أصولية في القاهرة؟». واللافت أنّ هؤلاء المثقفين الذين يعبّرون عن خشيتهم من وصول حركات التطرف الإسلامي إلى السلطة في العالم العربي، لا يذكرون شيئاً على الإطلاق بخصوص حزب شاس الديني والعنصري المتطرّف وهو من أعمدة حكومة التحالف في إسرائيل.
لا بدّ من التذكير أيضاً من أنّ معظم هؤلاء المثقفين وقفوا إلى جانب التدخل الأميركي في العراق بل اعتبروا الاحتلال طريقاً نحو الديموقراطية. وهم اليوم، في معظمهم، يعتبرون أنّ الشعوب العربية غير مهيّأة للدخول في مجتمعات حديثة كسائر الشعوب، كأنّ خلاياهم الوراثية غير قادرة على احتمال الديموقراطية والتقدّم. وهذا ما يلاحظه الباحث والمحلل السياسي باسكال بونيفاس الذي سبق أن اتُّهمَ في فرنسا بمعاداة السامية بعد أن صرّح بأنه من غير الممكن أن نضع على مستوى واحد المحتلّ ومن يعيش تحت الاحتلال. وهو معروف بكتابه الصادر عن دار «روبير لافون» الباريسية وعنوانه «هل من الجائز انتقاد إسرائيل؟» ويوضّح فيه كيف أنّ تهمة معاداة السامية توجَّه، في الغالب، إلى من ينتقدون سياسة الحكومة الإسرائيلية وليس الشعب اليهودي.
في موازاة موقف المثقفين الذين يُعَدّون الأكثر حضوراً على الساحة الإعلامية الفرنسية، يأتي موقف بونيفاس كأحد المواقف الأخرى المغايرة التي تسنّى لأصحابها أن يعبّروا عن أنفسهم وعن رؤيتهم للأحداث الراهنة. في الثامن من شباط الماضي، كتب بونيفاس في موقع مجلة «لونوفيل أوبسرفاتور»، أنّ أدلر وليفي وفنكلكروت يشعرون بالقلق حيال إمكانية انخراط مصر في مسار ديموقراطي، واعتبر أنّ المثقفين الثلاثة يعكسون في توجهاتهم وكتاباتهم القلقَ الإسرائيلي الذي تولّده التغيرات السياسية في مصر. يقول: «من المثير أنّ هؤلاء الذين كانوا يدينون غياب الأنظمة الديموقراطية في العالم العربي، بدأوا الآن يعبّرون عن خشيتهم من احتمال حدوث الديموقراطية هناك، وذلك حتى لا تسقط حجتهم بأن «إسرائيل هي الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط»، ولأنّ الديموقراطية ليست الأولوية بالنسبة إليهم، وإنما الانصياع لسياسة إسرائيل.
في هذا الإطار أيضاً، نقرأ مقالاً للمؤرّخ الإسرائيلي إيلان بابيه (موقع الانتفاضة، 14 شباط) يبيّن أنّ «الثورتين التونسية والمصرية، بحسب وجهة النظر الإسرائيلية، سيئتان جداً. المتعلّمون من العرب، الذين يتقنون لغات ويتوقون إلى الحرية، لا يناسبون إسرائيل. ولا يناسبها أيضاً المطالبون بحقّهم في الديموقراطية ونبذ العنف».
يقول إيلان بابي إنّ الصرخة الآتية من «ساحة التحرير» في القاهرة هي إنذار بأنّ الأساطير الخاطئة لن تضمن إلى ما لا نهاية العلاقة الخاصة بين إسرائيل والولايات المتحدة. ويختم بالقول إنّ «الوضع المستجدّ سيفتح آفاقاً جديدة وسيحيي الأمل في إطلاق تغيّرات في الوضع الفلسطيني نفسه».
عالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران الذي سبق أن اتُّهم هو الآخر بمعاداة السامية بسبب مواقفه من الصراع العربي - الإسرائيلي، يصرّح، في حوار مع صحيفة «لومانيتيه» مطلع هذا الشهر بمناسبة صدور كتابه الجديد «السبيل»، بأنّ ما حدث في تونس ومصر يشكّل رداً على المقولة الشائعة في الغرب ومفادها أنّ الاحتمال الوحيد الممكن في العالم العربي هو إما الديكتاتوريات العسكرية أو التيوقراطية الإسلامية التي تدّعي الحكم باسم الله. ويضيف موران قائلاً: «أكّدت الأحداث أنّ العرب مثلنا، وأننا مثل العرب، تجمعنا التطلعات الجوهرية نفسها».
وجهة النظر هذه تمثّل رداً على الفكر العقائدي المغلَق. هذا الفكر هو ما يحذّر منه هنري لورانس الذي يشغل كرسي التاريخ العربي المعاصر في «الكوليج دو فرانس»، ويعتبره مدخلاً إلى فهم أولئك الذين «يحلّلون التوتاليتارية الإسلامية مثلما يحلّلون التوتاليتارية السوفياتية». المفكر السياسي والمؤرخ إيمانويل تود ينظر إلى «ثورة الياسمين» والثورات التي تستتبعها بصفتها «الاختلاجات الأخيرة الضرورية التي تواكب الدخول النهائي في الحداثة». وكان سبق لإيمانويل تود أن لاحظ، في مقال كتبه عام 2002، أنّ «عدداً من الدول العربية يسعى إلى إحداث النقلة النوعية والخروج من رتابة الذهنية الهادئة لعالم أمّي في اتجاه عالم آخر تحدده أطر التعليم. وبين هذين العالمين، هناك آلام وصدمة اقتلاع». من جانب آخر، يقول مدير مجلّة «إسبري» أوليفييه مونجين: «الذين كانوا يردّدون: بن علي أفضل من بن لادن ومبارك أفضل من الأخوان المسلمين، يناقضون أنفسهم. يدافعون عن حقوق الإنسان في أوروبا الشرقية ويدعمون، في الوقت نفسه، الأنظمة الديكتاتورية بحجة أنّ هذه الأنظمة تقف في وجه التيار الديني المتشدّد».
يختصر هذا الكلام، إلى حدّ كبير، ردود الفعل على تحاليل ونظريات تعكس شعوراً بالتفوق وتذكّر بخطاب استشراقي قديم. ضمن هذا الخطاب لا يعود غريباً أن تطرح مجلة «الإكسبرس»، في الثامن من الشهر الماضي، سؤالاً من طراز: «هل ينبغي أن ندعم العطش إلى الحرية والتغيير عند التونسيين والمصريين؟».
المؤرخ دانيال لندنبرغ يختزل الموضوع بالقول إنّ «عدداً كبيراً من المثقفين يفكرون في أعماق أنفسهم بأنّ الشعوب العربية شعوب متخلّفة فطرياً ولا تناسبها إلاّ سياسة العصا». يسمي لندنبرغ ما حدث في تونس «ربيع الشعوب»، وينظر إليه بصفته «الردّ على أطروحات مرحلة ما بعد الاستعمار وما بعد اعتداءات الحادي عشر من أيلول بالأخصّ».
هكذا، إذاً، ترتسم مواقف المثقفين الفرنسيين اليوم، بين من يخاف الثورة العربية وانعكاساتها داخل العالم العربي وخارجه، ويحذّر منها ويشكّكك فيها من جهة، وبين من يفرح لسقوط الطغاة ويعتبر أنّ ما يحدث الآن هو بداية مسار جديد سيمهّد للانتقال إلى الاستقرار والديموقراطية من جهة ثانية. الفريق الأول يسوِّغ طموحاته التي تستغلّ مآسي الشعوب وتنهض فوقها، أما الفريق الثاني فينتصر للإنسانية التي لا يمكن أن تتجزّأ، وللإنسان الذي اختار أن يعيش حراً أو أن يموت.

عيسى مخلوف

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...