المراصد الفلكية في الحضارة الإسلامية
عرفت الحضارات القديمة علم الفلك وارتبط فيها بالتنجيم ومعرفة الغيب، وهو ما ألقى بظلاله على علم الفلك عند المسلمين حتى عهد قريب. ولكن في حضارة الإسلام، تلك الحضارة التي نبذت التنجيم واعتبرته مخالفاً لعقيدتها، انفصل علم الفلك عن التنجيم، وأصبحت له قواعده العلمية التي يرتكز إليها. لم يكن هذا الانفصال وليد الصدفة، بل وليد التجربة العلمية والقياس والاستنباط، والحاجة الإسلامية لتحديد مواعيد الصلاة واتجاه القبلة، حتى أصبحت المساجد الجامعة لا تخلو من فلكي يحدد الوقت من خلال واحدة من الآلات الفلكية التي عرفها وابتكرها المسلمون.
لقد كان علم الفلك في الحضارات القديمة تائهاً، ولكن مع العصر العباسي وفي خلافة المأمون بن هارون الرشيد، صار لهذا العلم موقع خاص، فللمرة الاولى نرى مراصد كبيرة لها مواقعها الثابتة والمتميزة، وآلاتها الضخمة المصنعة بعناية، والرعاية التي حظيت بها من قبل الدولة، وعدد الفلكيين الذين ارتبطت أسماؤهم بها.
ويرى أيدين صاييلي أبرز الباحثين الأتراك الذين درسوا المراصد الفلكية، أنه نشأت ظروف اقترنت بالإسلام، وكانت مواتية لتطور المراصد كمؤسسات، ذلك أن هناك ما يبرر القول إن الإسلام شكل بيئة مناسبة لنشأة المراصد وتطورها، فلقد كانت هناك مرتبة خاصة لعلم الفلك في العالم الإسلامي، وكان هناك اهتمام بالرصد المباشر، وبدقة القياسات، وبالنظريات الرياضية، وبزيادة حجم الآلات، وبالإصرار على ممارسة الفلكيين أعمالهم في مجموعات، وبالميل إلى التخصص في مجالات ضيقة، وبالنزعة التجريبية عند علماء الإسلام.
كان للمراصد في عصر المأمون سمات عدة مهمة، لعل أهمها البرامج البحثية المحددة، كانت المهمة الأكبر لتلك المراصد الأولى إيجاد جداول فلكية مبنية على أرصاد حديثة للشمس والقمر فقط. ولكن فضلاً عن كون البرامج المرسومة لها محدودة، فإنها كانت بدائية بعض الشيء من حيث الإدارة والتنظيم المالي. والواقع أن طبيعة العمل المحدودة التي نيطت بمرصدي المأمون في الشماسية وقاسيون جعلتهما لا يرقيان إلى مستويات المراصد المتكاملة التي عرفها العالم الإسلامي في ما بعد.
ظهر المرصد الإسلامي في شكل أكثر تطوراً بعد زمن المأمون بحوالى قرن ونصف قرن، وكان أكثر تنظيماً من الناحية الإدارية. وعندما نشأ مرصد شرف الدولة أصبح له مدير يشرف على تدبير شؤونه. واقترن ذلك بتوسعة برنامج الرصد بحيث صار يشمل الكواكب كافة. وأمكن تحقيق هذا الجانب الأخير من تطور المراصد على مرحلتين، ذلك أن هناك دليلاً على أن بعض برامج الرصد اقتصرت على مشاهدة الكواكب السريعة فقط إلى جانب الشمس والقمر.
كانت المهمة الرئيسية للأعمال التي يضطلع بها المرصد تتمثل في إقامة جداول فلكية جديدة لكل الكواكب مبنية على أرصاد حديثة. وكان هناك ميل واضح نحو تصنيع آلات تزداد حجماً على مر الزمن ونزوع إلى توفير هيئة عاملة متميزة، وذلك بموجب التقدم الذي أمكن تحقيقه في هذا الاتجاه أيضاً. ومن شأن التطورات أن تعمل على تعزيز اعتقاد مفاده أن نشأة المراصد، باعتبارها مؤسسات، ترجع في أصلها إلى الخلفاء والملوك.
ويعد المرصد الذي شيّده السلطان السلجوقي ملكشاه في بغداد مرحلة أخرى من مراحل تطور العمل في المراصد، وإن لم تتوافر لدينا إلى الآن معلومات كافية حول عمل هذا المرصد، وظل هذا المرصد يعمل لفترة تزيد على عشرين عاماً، وهي فترة زمنية طويلة نسبياً بالنسبة الى عمل المراصد، وقد رأى الفلكيون آنذاك أنه يلزم لإنجاز عمل فلكي فترة زمنية لا تقل عن ثلاثين عاماً.
مرصد المراغة
يعد القرن السابع الهجري أهم حقبة في تاريخ المراصد الإسلامية لأن بناء مرصد المراغة تم في هذا القرن. ويعد هذا المرصد واحداً من أهم المراصد في تاريخ الحضارة الإسلامية، وتقع المراغة بالقرب من مدينة تبريز. بني المرصد خارج المدينة ولا تزال بقاياه موجودة إلى اليوم. وأنشأه مانجو أخو هولاكو. كان مانجو مهتماً بالرياضيات والفلك، وعهد إلى جمال الدين بن محمد بن الزيدي البخاري بمهمة إنشاء هذا المرصد. وتم تصنيع معدات المرصد في عام 660 هجرية، واجتمع للعمل فيه عدد هائل من العلماء منهم نصير الدين الطوسي، وعلي بن عمر القزويني، ومؤيد الدين العرضي، وفخر الدين المراغي، ومحيي الدين المغربي.
ويعد مرصد المراغة أول مرصد استفاد من أموال الوقف، إذ وقفت عليه عقارات وأراض، لكي يتم ضمان استمرارية العمل به. ولذا ظل العمل جارياً في المرصد إلى العام 1316م وشهد حكم سبعة سلاطين اهتموا به وبرعايته.
وتكمن السمة الثالثة لمرصد المراغة في النشاط التعليمي المهم الذي تم فيه، فتم تعليم العديد من الطلبة في المرصد علم الفلك والعمل على الآلات الفلكية، كما كان يضم مكتبة ضخمة احتوت آلاف المخطوطات في شتى مجالات المعرفة.
مرصد سمرقند
أسس هذا المرصد أولغ بك حفيد تيمورلنك في سمرقند، وفي عام 1908 تم الكشف عن هذا المرصد حين نجح ج. ل. فاتكن في العثور على وقفية من وقفياته تحدد مكانه بالضبط في المدينة. واستطاع أثناء تنقيباته الأثرية أن يعثر على قوس كبير كان يستخدم في تحديد منتصف النهار يعتبر من أهم الأدوات الفلكية في المرصد.
يقع فناء المرصد الذي يبلغ ارتفاعه حوالى 21 متراً على تلة ذات قاعدة صخرية، وتبلغ مساحة السطح لتلك التلة حوالى 85 متراً من الشرق إلى الغرب، وحوالى 170 متراً من الشمال إلى الجنوب. وتحيط بالمبنى الرئيسي للمرصد حديقة وأماكن للسكن. وهذا ما يدل على فخامة المبنى وعظمته. ويستدل من الاكتشافات الأثرية أن ذلك المبنى كان اسطواني الشكل، وذا تصميم داخلي دقيق ومحكم.
ولم يكن دمار مرصد سمرقند وزواله ناجمين، في رأي فاتكن، عن عوامل طبيعية، إذ من المحتمل أن يكون بعض الدمار نجم عن استخدام رخامه في عمليات بناء أخرى. ووضعت جداول فلكية في المرصد، عرفت بجداول أولغ بك، تعد من أدق الجداول في العالم. ومن المعروف أن قبة المرصد استغلت في وضع الجداول، إذ كان يوجد فيها نقوش تحدد الدرجات والدقائق والثواني وأعشار الثواني لأفلاك التدوير، وللكواكب السبعة، وللنجوم المتحيرة، وللكرة الأرضية بتقسيماتها من حيث الأقاليم والجبال والصحارى. وممن عملوا في هذا المرصد غياث الدين الكاشي الذي برع في ميدان النماذج الميكانيكية للحركات.
خالد عزب
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد