المسافة بين الحرية والعدالة .. وجهة نظر

13-01-2015

المسافة بين الحرية والعدالة .. وجهة نظر

محمد الحصني: الحرية والعدالة كلمتان لهما في الأمة السورية قصة جديرة أن تروى، وقد تقدم لنا فهما ما عن المسافة بين المفهومين. تاريخياً، كتبت كلمة الحرية للمرة الأولى في العالم على يد الملك السوري اوركجينا الذي كان كاهنا لمدينة لجش ثم أصبح ملكا لها. قام بإعادة العدل المفقود في مدينته وبين مواطنيه، إذ منع الغني والقوي والمعبد من نهب الفقير واليتيم والأرملة وعابر السبيل، وأنصف المجتمع بالضرائب التي كان يفرضها المعبد، فحذف منها الظالم وغير المعقول معددا إياها، ومنع المعبد والأغنياء من التعدي على مقدرات المواطنين المادية والعينية. سجل ما فعل وأطلق عليه كلمة أمارجي التي تعني حرفيا (العودة إلى الأم) واصطلح المؤرخين على ترجمتها بالحرية، وعلى اعتباره المصلح الأول في تاريخ الإنسانية.
 نفسيا واجتماعيا، العودة إلى الأم كلمة معقولة جدا في سياق تطور مجتمع سورية الطبيعية ذلك الوقت، حيث تلاشت مفاعيل حقوق النظام الامومي مع الدخول إلى حياة المدينة. النظام الامومي بدأ قبل ظهور الزراعة في الألف الثامن قبل الميلاد ولكنه تجلى بوضوح مع اكتشاف الزراعة حيث بدأ الدور المتعاظم للمرأة في حياة القرية الأولى والظاهر للمؤرخين في كثافة العثور على تماثيل الربة الأم الكبرى ذات الأثداء والأفخاذ المتضخمة، ليتم التخلي عن هذا النظام الامومي - بكل ما يعنيه من أولية دور في المرأة المجتمع وقيادتها له ومعنى حضورها القائد اجتماعيا- عندما تحولت القرى الزراعية الكبيرة إلى مدنٍ تحيط بها قرى زراعية صغيرة، فظهر المعبد ورجال الدين ودور الآلهة الذكرية في خلق العالم ومن ثم القصر والملوك الأقوياء وقيامهم بإدارة شؤون الحياة في المجتمع وتحصيل معاشه وتأمين ديمومته، وبالتالي ظهر النظام الأبوي الذي يقتضي الدفاع عن المدينة من هجوم المدن المجاورة أو الهجوم على المدن المجاورة وضم مقدراتها إلى المدينة المهاجمة، أي الحرب وظهور الإمبراطوريات والجيش. نشاهد صعود تماثيل الذكر القوي والمحارب والراعي والحامي والعادل على حساب حضور خجول لتماثيل الربة الأم التي صرنا نعرفها بأسماء ومهام معينة ومحددة بعد أن كانت متفردة الحضور ومتوحدة الوجوه ومحور الحقوق في المجتمع. كان فعل الملك السوري اوركجينا بمثابة لجم اندفاع المؤسسات الأبوية (الغني، المعبد، القوي، الكاهن، الملك) على حياة الجانب الأضعف في مدينته، أعاد نوعا من التوازن المفقود في النظام الأبوي الصارخ المندفع في تطوره الطبيعي نحو الهيمنة والظلم والتفرد. فهل نفتح نافذة لنفهم المسافة بين العدالة والحرية بتحقق التوازن بين طبيعة وحضور النظام الأبوي وطبيعة وحضور النظام الامومي، وانسجام كل منهما مع حقيقة دوره وحقوقه؟ وبالتأكيد، بعيدا قدر الإمكان عن الخطابات النفسية والعاطفية والفلسفية الموجهة بكثرة إلى تفصيل صغير في النظام الامومي (دور عشتار إلهة الحب والجنس). وبالتالي هل نضيف إلى ثالوث (الأب والابن والأم) رابعا ناقصا! ما هو؟
كمثل كلمة الحرية، كلمة العدالة أيضا. يعتبر التدوين الأقدم لها مسجلا في وثائق مدنية ايبلا القانونية، جاء على صيغة (ميشرو). يتضمن أرشيف هذه المدينة أقدم المصطلحات القانونية في الوثائق المكتوبة في ما قبل المرحلة السرجونية (شروكين\سرجون مؤسس أول أمبراطورية سورية 2350ق م) الجدير بالملاحظة هو أسماء الأعلام في مدينة ايبلا لأنها تتضمن في قسم كبير منها مفاهيم قانونية: مثل (كِنتُ = الحقيقة) و(مَشِرُ = عدالة)، أو أسماء تتضمن صفات قانونية مرتبطة بشخص أو إله أو مدينة: (يَسرُ = عادل) و(يسر مليك = مالك عادل)، أو أسماء تتضمن أوضاع ومراكز قانونية مختلفة: (دَكُت = برئ) و (وزار= مدان مذنب) و(جيرِ= خصم) و(مشارُ= وصي\حارس) و(ساغيس= قاتل) و( شاتيرُ= أمين سجل)، أو أسماء في صيغة أفعال ذات دلالات قانونية مثل: (ينزُ= اشتكى) و(يكنو= اثبت الحقيقة) و(تيدينُ= يقضي) و(وشرُ= أطلق سراح)، أو أسماء تتضمن القانون الخاص مثل: (غراتُ= موكل) و(نِملُ= منفعة)، أو أسماء تتضمن مصطلحات الأحوال المدنية، أو أسماء تتضمن تراكيب ذات دلالات قانونية مثل: (العدالة قوتي) (الرب عدالتي) (أقم التقاضي يا شمش) والأسماء الواردة أعلاه على سبيل المثال لا الحصر*.
تاريخيا ونفسيا واجتماعيا، يدل الظهور المكثف لهذه المصطلحات في صيغ أسماء أعلام في مدينة ايبلا على أهمية القانون والعدالة والقضاء والمؤسسات في حياة هذا المجتمع اليومية في الألف الثالث قبل الميلاد، أهمية لها دلالة قوية على مكانة وحضور الدولة والنظام ومؤسسات المجتمع ومقدار الثقة الممنوحة لها من المواطنين للقيام بدورها المطلوب لتحقيق التوازن في حياة المدينة الدولة ايبلا بمختلف جوانب نشاطها الاقتصادي والاجتماعي والحقوقي، فأقطاب المجتمع مرعية الجانب ومحمية بمفاهيم العدالة والحقيقة والإنصاف، مما سمح للمفردات القانونية بحضور كثيف ومتنوع في أسماء المواطنين. نحن نعلم أن إطلاق الأسماء وطبيعة ما تعنيه ومراميها عند الشعوب يظهر رمزية رقيها الروحي الخاص وثقافتها اليومية الممتدة على قرون مغرقة في القدم.
إذا كانت كلمتي الحرية والعدالة  في سياق ظهورهما السابق من ابتكار سوري يدل على نظرة نفسية أصيلة إلى الحياة والمجتمع، وشخصية المجتمع الظاهرة في مثله النفسية والمادية في تعبيره الأولي في العالم عن حضور الكلمتين المتحقق نتاجا عمرانيا، فما هي المسافة الفاصلة والواصلة بينهما في حياة هذا الشعب الذي ترافقت عنده كلمتي الحرية والعدالة، وفي السنوات الأخيرة، بمقادير هائلة من الخراب والدماء؟ كيف تتجلى العدالة والحرية في كل الشعارات وسلوكياتها التي رفعت - منذ بداية الأزمة وما قبلها - لتحقيق حياة كريمة ناهضة بالعز لهذا الشعب صاحب التاريخ العريق؟ شعارات مثال: الشعب يريد إسقاط النظام، اوقفوا القتل، الحرية للمعتقلين، النظام الأسدي المجرم، الحوار، طائفة إلى بيروت وأخرى إلى التابوت، بالذبح جيناكم، المعارضة والموالاة، توسل التدخل الخارجي. هل لمست هذه الشعارات وسلوكياتها أحد المفهومين كالحرية مثلا، ليصب زخمها في نتيجة العدالة أو العكس. إذا استبعدنا العلوم السابقة الذكر في مقدمة المقال، واستبعدنا خطوط ومساحات العقائد بمختلف تمركزاتها (السماوية والأرضية) فما هي المسافة بين الحرية والعدالة في حياة وتاريخ الشعب السوري، والشجاعة تقتضي محاولة التحديد:
-هي المسافة بين المدينتين السوريتين لجش (العراق) وايبلا (الشام)، والحدود التي وضعت بينهما منذ الإمبراطوريتين الرومانية والفارسية كخط فاصل تدور عليه حروب تقدم وتراجع ومعها الدمار والحرائق والموت. هو ذات الخط الذي رسمته مصالح بريطانيا وفرنسا على يد القاتلين سايكس وبيكو اللذين أوجدا شعبين ودولتين غير قادرتين على التوافق والانسجام خارج سياقات شيطان الخارج، وليتم تدمير وحدة مصلحة الحياة في وحدة مصير شعب واحد، لتقوم الآن الحركة الصهيووهابية الجديدة (داعش) بالجمع بينهما في إسلام محمدي مزيف ملعون التاريخ والعقيدة بدعم أمريكي وأوروبي وسعودي وتركي، وهي ذات الأطراف التي كانت تدرك خطر أن يجتمع الكيانان في دولة علمانية واحدة وعملت على زيادة انقسامه، يريحها جدا أن تنتصر زمنية داعش الدموية المستحضرة لكل لعنات التاريخ المميتة في القرون الأخيرة على جغرافيا تزداد انقساما وضياعا.
- هي المسافة بين مجمع الآلهة وفكرة العالم السفلي - بغياب رؤية الثواب والعقاب جنةً أو ناراً في الفكر السوري القديم - وصولا إلى إله الجند الدموي يهوه الذي علم اليهود أنهم شعبه المختار، وأن لحم غيرهم من الشعوب هو لحم حمير وكلاب، وصولا إلى ضياع رمزانية السيد المسيح الحقيقية في أن المحبة إله مملكته الرمزية في قلب ينطق بمحبة الإنسان غير المحدودة للحياة والآخر، وتستبدل بلاهوت يغرق رمزية المحبة بأن ما جرى على الصليب كان فداء لآثام الإنسان! أي آثام بالتحديد؟ تلك الآثام التي تعثر على علة بدايتها بقصة آدم وحواء والتفاحة الشهيرة، وتتجلى كنتيجة في عصور تحتقر المرأة، وفي مفاهيم تحتقر الجسد على حساب تقديس الروح، وأن السيد المسيح (حبل بلا دنس) فأصاب الدنس كل زوج وزوجة. وصولا إلى إله المحمدية الذي تدل صفاته على نفسية البادية الجافة في ذكر مستبد ومتناقض الصفات، يستحضر مفهوم الثواب والعقاب في الجنة والنار بين صراع فلسفتين عن الإنسان، هل هو مسير أو مخير؟ لينتصر ومع الاشاعرة وبتلاعب الكلام وسطية تقول أن الإنسان مسير أقرب منه إلى مخير. ولا تفلح محاولات عبقرية ابن رشد أو ابن عربي وغيرهم ممن لامسوا حدود الغيب والعرفان من تكريس مفهوم الذات الإلهية عوضا عن الله.
- هي المسافة بين حضور الربة الأم الكبرى، الأنثى القائدة في نظام الحقوق الامومي وصولا إلى ظهور  الأب الملك ونظام الحقوق الأبوي والمحاولات السورية المبدعة للتوازن اجتماعيا وحقوقيا بين هاتين الثنائية، في تعداد الآلهة وتقاسم صفاتها بين حضور الأب والأم اجتماعيا حتى تبدأ القصة المشينة لتهتك وانحلال الرجولة والأنوثة في ذكورة نظام أبوي فاسد ومستبد بمفاهيم السرايا والإماء والجواري والغلمان والخصيان وبأقوى صورها مع بداية العصر الأموي شعرا وأدبا وقصصا نتغنى بها حتى الآن، إلى تتمة التهتك المشين في العصر المملوكي والعثماني، فتغدو المرأة قطبا مغلوبا على أمره يطيع بالموت والحياة تلك النشوة المتفسخة لذكورة تشتري الحياة وتبيعها. هل تكون المسافة بين الحرية والعدالة طبيعة حضور النظامين الامومي والأبوي والتوازن القائم بينهما؟ وليس على أسس المساواة؟
- هي المسافة في تاريخ المؤسسات السورية العريقة وقصتها المؤلمة في انعدام مقدرتها على التجذر والديمومة في وجدان المجتمع دأبا ونشاطا حيا بدون ارتباط نجاحها وفشلها بمقدرات ومواهب الفرد القائد وحضور أخلاقه وضميره، فلا تنتصر المؤسسات معه أو تهزم به فقط. تختفي مع الفرد فعالية استمرار ذاتية النمو والابتكار في المؤسسة، من محاولة الملك السوري حمورابي بإلزام المجتمع بدور الدولة  والقضاء في الثأر وصولا إلى مؤسسة الجزية في العصر الأموي التي كانت تمنع غير المسلمين من الدخول في الإسلام المحمدي لبقاء تحصيل الجزية (إلا في عصر عمر بن عبد العزيز القصير) وطبعا وصولا لتدمير الحواضر السورية بكامل تراثها الأدبي والعمراني على يد قطاع طرق الشمال والغرب والشرق والجنوب، اسكندر المقدوني دمر صور، الرومان وتدمير قرطاجة، المغول وتدمير بغداد. 
- هي مسافة القبول النفسي الواعي والمقصود والموجه في المجتمع، وبكل أفكاره وآراءه وتوجهاته، لمعرفة تفصح عن تاريخ سوري يمتد على آلاف من السنين من العقل والوجدان، وأن لا خير وإبداع وأخلاق وحضارة في حقبة لا سابق أو لاحق لها - كأن لا تاريخ لنا قبل الإسلام ولا تاريخ لنا قبل المسيحية ولا تاريخ لنا قبل الكتابة - قبول جميع العصور بخيرها وشرها، بجمالها وقبحها، قبول يتحمل مسؤولية آلاف السنين من تعاقب الأجيال والانتصارات والهزائم، قبول يريد مصلحة اتصال أصالة الزمن في المستقبل لأجيال لم تأت بعد. هكذا يتعين على كل ثورة حقيقية تريد أن تفعل، أن تتوافق مع تبدل داخلي واقعي في نفسية المجتمع، تبدلٌ لا يمكن تجنب قوة التكرار وبشاعة إلزاميته بدون حضوره.
- هي المسافة بين مسؤولية الفرد الدائمة كجزء من المجتمع، يحقق معناه كإنسان يحيا كل يوم لتقديم الحق والخير والجمال في إنتاج الحياة، إن كان طبيبا أو معلما أو نجارا أو صحفيا أو أبا أو أما، مزيجا سليما وحيا في بيئة وجوده المتنوع. يفتح بحضوره باب انتصار نفسي لشخصية مجتمع يعي ذاته الجماعية ومثله العليا وعاداته عوضا عن ذوات فردية متجمعة تحت إخفاقاتها الدينية والمعرفية والاجتماعية، وتجسد هلامية وارتخاء الواجبات وميعان الحقوق. بالتالي هل تؤدي اللامسؤولية إلى اللاحرية؟ هل تؤدي اللا مسؤولية إلى حضور فردي غير منسجم مع مجتمعه ومع ضرورة وجود العدالة في حياته كحقيقة واقعية؟
يمكننا الاستفاضة في بيان المسافة مع تجنب خطورة الانزلاق إلى اشكالية القطيعة مع البيئة والتاريخ والشخصية الاجتماعية للإنسان السوري ومثلها النفسية، ولكن باختصار المسافة تمثل الزمان والمكان والفعل، وهي نقيض الفراغ. يشبه الفراغ في المسافة البؤر المعتمة والمجهولة المعطى والنتيجة في الشخصية الاجتماعية السورية عقلا ووجدانا وتاريخا. تغدو هذه البؤر قيودا معطلة لحقيقة المجتمع والاجتماع عوضا عن معرفتها لتكون سبب تحرر حيوية مدركة وواثقة. الشخصية السورية لا يلخصها حدث تاريخي معين أو فكرة مبدعة أو أثر معماري سباق بين الأمم، إنما يلخصها ديمومة بقاء هذا العمران المادي والنفسي حاضرا يريد ويفعل وينتصر، والتعبير عن وجوده اليومي بوعي ضمني متفق عليه ومقصود.
عدم حضور هذا الوعي الضمني والمسبق هو الفراغ الواقعة فيه الذاكرة والعقل والوجدان السوري المبدع، فراغٌ  يفقد المجتمع زخمه الذي يفترض أن يصب في حالة ارتقاء ونهوض، لنجده يصب في حالات الفردية المغلقة والتغرب بلا جذور والأنا القاتلة لتضامن المجموع على الحق والواجب، وبالتالي نرى حضور لغة وتعبير وأنماط فهم وسلوك ينتج آثارا تزيد الفراغ في المسافة، وتعمر شؤونا معرفية وأدبية ونفسية لا نعرف لها من معنى ونتيجة إلا في ألوان داكنة تملئ مسافة الحياة بما لا يخبر عن عمران نفسي عريق يريد الحياة والنهوض والانتصار ليتصل بجذوره التي كانت معلمة ورسولية إلى الأمم يوما ما.             
   *لمن يحب الاستزادة يمكنه العودة لمقال د. نزار حسن، مجلة مهد الحضارات العدد 8+9 ،2009م 

 

التعليقات

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...