المقاومة تغيّر المعادلة الإقليمية ومصر تبحث عن هدنة والعدو يستدعي الاحتياط
لم يكن أحد يتخيّل، قبل أن قرر رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو شن حرب «عمود السحاب» على غزة أن هذه البقعة الصغيرة والنائية من أرض فلسطين يمكن أن تشكل محوراً لتغيير الوضع الإقليمي في المنطقة، فالحرب التي أرادها نتنياهو سريعة يحقق من ورائها الردع وتحسين الظروف الأمنية، سرعان ما تبدت وهماً، فللمرة الأولى في العقود الأخيرة نُقلت الحرب ليس فقط إلى تل أبيب وإنما إلى القدس أيضا...
وبرغم التقديرات بتوافر قدرة إسرائيلية على سحق غزة، إلا أن الخوف من تبعات وتطورات الموقف فلسطينياً وإقليمياً قاد إلى الإعلان عن بدء تجنيد 75 ألف جندي، كما أن الحرب التي استدعت في البداية أصوات تأييد أميركية، سرعان ما حثت إدارة أوباما على بذل جهد مكثف ليس فقط مع مصر، وإنما مع تركيا ودول عربية وأوروبية أخرى، لمنع تدهور الموقف.
ومن المؤكد أن العناد الذي أبدته غزة والقدرات التسليحية الجديدة التي وسعت نطاق المعركة وعمقت إشكاليات الردع الإسرائيلي، فضلا عن التغيير الحادث في الموقف العربي المحيط جراء الهزات الأخيرة، خلقت وضعاً جديداً. وبديهي أن إسرائيل، الحذرة دوماً من التغييرات الجديدة، وجدت نفسها في واقع بالغ الصعوبة: من جهة تهدد بالسحق والمحق، ومن جهة أخرى، ترجو أطرافا لم تعد مريحة للتدخل وتحقيق تهدئة سريعة. والأدهى أن حكومة نتنياهو صارت تسابق الزمن من أجل عدم التورط في وضع دولي أشد تعقيداً.
وهكذا، فإن الحرب على غزة استفزت القيادة المصرية الجديدة، ووفرت لها مبررات التنصل حتى من اتفاقيات كامب ديفيد. كما أن هذه الحرب وفرت من جديد فرص توافق بين مصر الجديدة وتركيا وإيران وأيضا «حزب الله»، وبشكل يحرج حتى بعض الدول الخليجية. وإذا كان لذلك من معنى، فهو خلط الأوراق إقليمياً، وتبديد الكثير من الجهد الإسرائيلي والأميركي الذي بذل من أجل إبقاء فواصل بين محاور الاعتدال والتطرف أو السنة والشيعة.
وربما لهذه الأسباب تتسابق المساعي لإبرام اتفاق لوقف النار. وقد كثفت مصر من جهودها في الساعات الأخيرة باتصالاتها مع فصائل المقاومة في داخل غزة وقيادات المقاومة في الخارج. ومن المقرر أن يصل صباح اليوم إلى القاهرة عدد من قادة المقاومة، وخصوصاً من حركتي حماس
والجهاد الإسلامي، حيث يتركز الجهد على وقف النار خلال الساعات الأربع والعشرين المقبلة، بل أن جهات إسرائيلية رسمية، أوحت برغبتها في تحقيق اتفاق كهذا في أسرع وقت ممكن.
عموماً يعتبر قصف تل أبيب ذاتها بأكثر من ثلاثة صواريخ من الجهاد الإسلامي وحماس، ومحيطها بعشرات الصواريخ، دليلا على دخول الردع الإسرائيلي مأزقاً واضحاً. كما أن لجوء حماس إلى قصف القدس أظهر قدرات مهمّة ومفاجئة غيرت من معطيات المعركة ومفاجآتها. وربما أن هذا القصف بحد ذاته وفّر نوعاً من الرد على اغتيال الشهيد أحمد الجعبري وشن الحرب على غزة، وهذا ما سوف يسهل التوصل إلى اتفاق وقف النار في أقرب وقت.
عموماً، وبرغم التهديدات الإسرائيلية المتواصلة بتوسيع العملية، بل والذهاب إلى عملية برية، إلا أن الخوف، كما سبق من الآثار المحتملة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، لا يشجع على الذهاب للعملية الواسعة. ومع ذلك، وبطريقة التحسب للأسوأ، هناك في إسرائيل من يخشى أن تركب الفصائل الفلسطينية رأسها، وأن تواصل القصف الأمر، الذي يضطر إسرائيل للعمل.
وخلافا لحرب غزة الأولى، تبدي إسرائيل حذرا شديدا في تعاملها، بحيث تتعمد إرسال الرسائل حتى تمنع احتمالات التورط باستهداف مدنيين. وثمة أهمية بالغة في هذا السياق لتقرير غولدستون، وللجهد الذي بذلته المنظمات الدولية التي تجهد لمحاكمة إسرائيل وقادتها في المحاكم الوطنية ذات الصلاحية العالمية في محاكمة جرائم الحرب. فهذه الجهود دفعت إسرائيل للتقيد أكثر من أي وقت مضى بتجنب استهداف المدنيين، وهذا يفسر العدد القليل نسبيا من الضحايا في صفوف المدنيين برغم شدة القصف وكثرة الغارات.
وحتى ليل أمس، بلغت حصيلة العدوان 31 شهيداً بينهم 8 أطفال و3 نساء وأربعة مسنين، وأكثر من 270 مصاباً من بينهم 101 طفل و96 امرأة، بحسب مصادر طبية في غزة.
وهناك من يعتقد أن إعلانات إسرائيل المتكررة بشأن حشد القوات وتجنيد الاحتياطي والتهديد «بتوسيع جوهري للعملية في غزة» تعبر عن قلق وهواجس أكثر مما تعبر عن إصرار وعزم، فالتكلفة الاقتصادية للحرب باهظة، وحكومة نتنياهو مقبلة على انتخابات خلال أقل من شهرين ونصف الشهر. وبرغم ذلك، هناك من الوزراء الإسرائيليين من لا يزال يدعي الرغبة في إعادة احتلال قطاع غزة، والبقاء فيه لمدة طويلة. ومثل هذه الخطوات، وفي ظروف معقدة كهذه، لا يمكن اتخاذها في استفتاء تلفوني يقوم به سكرتير الحكومة الإسرائيلية. وتشيع الأوساط الحكومية الإسرائيلية أن اللجنة «التساعية» الوزارية «تنوي» تفويض نتنياهو ووزير دفاعه ايهود باراك باتخاذ قرار الدخول البري إلى غزة.
وفي إطار مظاهر استعراض النية لدخول قطاع غزة براً، نشرت وسائل الإعلام الإسرائيلية أنباء وصورا لرئيس الأركان بني غانتس يتفقد مواضع الدخول إلى غزة. كما تكثر الصحف من الحديث عن حشد القوات وجاهزيتها ومعنويات قوات الاحتياط العالية.
وأعلن المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أنه في ختام اليوم الثالث من عملية «عمود السحاب» يواصل الجيش «حشد القوات ويستعد لاستمرار عملية متدحرجة». وفي هذه الأثناء شنت الطائرات الإسرائيلية غارات متكررة على مواقع معينة، فضلاً عن استهدافها ما تدعيه مخازن سلاح أو خلايا تفجير.
وغطت الطائرات الإسرائيلية سماء غزة في محاولة لفرض نوع من منع التجوال على المقاومين، غير أن الصواريخ ظلت تنطلق وبقوة، ليس فقط نحو مستوطنات غلاف غزة، وإنما نحو تل أبيب والقدس أيضاً.
ومنذ يوم أمس الأول، دوّت صفارات الإنذار على فترات زمنية عدّة في تل أبيب، التي استهدفتها المقاومة الفلسطينية بعدد من الصواريخ. وذكّرت وسائل إعلام إسرائيلية أن هذه هي المرة الأولى التي تدوّي فيها الصفارات في تل أبيب منذ حرب الخليج العام 1991. لكنّ التطور الأكثر أهمية تمثل في تبني كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، إطلاق صاروخ باتجاه القدس، وهو ما لم يحدث، بحسب صحيفة «هآرتس»، منذ العام 1970.
وبحسب مصادر أمنية إسرائيلية فإن عدد الصواريخ التي أطلقت من غزة منذ بدء العدوان بلغ نحو 520، من بينها 190 صاروخاً يوم أمس.
وأعلن الجيش الإسرائيلي أن سلاح الجو نفذ أكثر من 600 غارة على غزة. وذكرت وسائل إعلام إسرائيلية أن صواريخ وقذائف المقاومة أدت إلى مقتل ثلاثة إسرائيليين وإصابة أكثر من 80.
في هذا الوقت ذكرت مصادر سياسية في إسرائيل أن مجلس الوزراء الإسرائيلي وافق على تعبئة زهاء 75 ألف جندي احتياطي لعملية غزة، وهو أعلى من مثلي العدد الذي وافقت الحكومة على استدعائه بعد بدء الهجوم.
وعقد نتنياهو جلسة بشأن الإستراتيجية استمرت أربع ساعات مع عدد من كبار الوزراء في تل أبيب في حين تم استطلاع آراء باقي الوزراء بشأن رفع مستوى التعبئة عبر الهاتف. ولا يعني القرار أنه سيتم استدعاء 75 ألف جندي بالكامل لكنه يعطي الجيش الضوء الأخضر لتجنيدهم إذا لزم الأمر.
وكان وزير الخارجية الإسرائيلي افيغدور ليبرمان قال إن «أهداف عمليتنا هي تعزيز قــدراتنا على الردع وتدمــير القذائف وحين نحقق هذه الأهداف ستنتهي هذه العملية».
حلمي موسى
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد