تصدعات في صفوف الإمبريالية وازدياد حدة المنافسات
الجمل ـ خيري كوزان أوغلو ـ ترجمها عن التركية محمد سلطان:
الهيمنة العالمية للإمبريالية الأميركية بدأت بالتضعضع. باتت أميركا تلاقي صعوبة حتى في إقناع أصدق حلفائها في آسيا والشرق الأوسط بتطبيق إستراتيجياتها. زعزعة هيمنتها أدت إلى حدوث تصدعات في صفوف الإمبريالية العالمية. وخصوصاً هناك موجة تمرد متصاعدة في أوربا. بالرغم من أن الحملات الجيوسياسية للولايات المتحدة الأميركية أضحكت وجوه معامل السلاح الوطنية وملأت خزناتها، ولكنها في المقابل حازت على ردة فعل كتل شعبية كبيرة بسبب العبء الذي حملته على الميزانية وبسبب الأذى الذي سببته لأبناء العائلات الفقيرة. ربما كانت سياسة دونالد ترامب "التجريدية" الدامغة قد وضعت الإصبع على الجرح بحسب التعبير الشعبي، وربما لهذا السبب نال هذه الشعبية الواسعة. وبنفس الشكل، إن الشركات "متعددة الجنسيات" أميركية المركز وجهت مراكز إنتاجها، عن طريق سلسلة العروض، إلى الأماكن التي تكون فيها أجرة الأيدي العاملة متدنية والتشريعات الضريبية ملائمة مع القوة الإنتاجية. ومع ازدياد هذه الظاهرة تزداد التوجهات الاحتكارية لديهم. بالنظر إلى المستويات المعيشية وفرص العمل للطبقة العاملة في أميركا، نراها أنها تضررت بسبب هذه السياسات الخاطئة. وأبدت عدم رضاها على العولمة عن طريق ردة فعلها على تفاهمات السوق الحرة.
يصعب علينا حالياً الكلام عن تشرذمات ضمن صفوف الإمبريالية. كذلك نكون قد بالغنا إذا اعتقدنا بعودة "الإمبريالية الكلاسيكية" التي ظهرت بسبب المنافسة بين القوى الإمبريالية انطلاقاً من "صراع الأذرع (المكاسرة)" بين أميركا وأوربا. ولكن جميع الدلائل تشير إلى وجود العثرات أمام أميركا. دعونا نلقي نظرة على الأحداث كلاً على حداه، ونشاهد مسير نضال الشعوب، ثم نحكم على ما يحصل.
الهيبة الأميركية في الشرق الأوسط تتزعزع:
كما تعلمون؛ بدأت فترة حكم جورج بوش الابن بتنفيذ المخطط الذي صممه شيوخ المحافظين الجدد باحتلال أفغانستان والعراق. دعوكم من القضاء على حركة طالبان في أفغانستان، فقد اضطروا إلى التصالح معهم. صرفت مليارات الدولارات من أجل لا شيء. كذلك في العراق، اضطرت أميركا إلى اللجوء لهمة الوحدات الإيرانية في تأمين الاستقرار في بعض المناطق. بالإضافة إلى مقتل السفير الأميركي في ليبيا، توجت الحملة الأميركية في ليبيا بالفشل الذريع. تحولت ليبيا إلى "الدولة الفاشلة" عديمة الأمن والاستقرار.
بالنسبة لسوريا؛ ناهيكم عن الفشل بإسقاط الأسد، لم تعد واشنطن قادرة على فرض كلمتها على الجيش الحر الذي أسسته وغذته ودعمته. كذلك الأمر بالنسبة لحزب الاتحاد الديمقراطي، فلم يعد الآخر يثق بأميركا بالرغم من المساعدات التي قدمتها له. والسبب هو اعتقادهم بأنها أخذت منحاً سياسياً داعماً للموقف التركي وخانت القضية الكردية التي دعمتها بداعي المصلحة فقط على حد تعبيرهم. سخّرت تركيا سليمان صويلو لإلقاء البيان الذي يفيد بوقوف أميركا خلف محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 تموز الماضي. حتى إسرائيل أيضاً انتقدت أميركا عدة مرات ووبختها في بعض القضايا بالرغم من المساعدات العسكرية بقيمة 38 مليار دولار التي قدمتها لها أميركا مؤخراً. بالنظر إلى كل هذه الأحداث لا يصعب علينا رؤية تأذي الهيبة الأميركية في الشرق الأوسط.
الوضع في الجبهة الباسيفيكية غير مطمئن أيضاً:
بعيد انتخابه، وخلال زيارته إلى آسيا عام 2009، عرف أوباما نفسه بأنه أول "رئيس باسيفيكي" منتخب يأتي على رأس الولايات المتحدة الأميركية. في عام 2011 أعلنت الولايات المتحدة الأميركية عن إستراتيجية "محور آسيا Asia Pivot" بهدف بناء سد أمام النهوض الاقتصادي الملحوظ للصين. في اللغة الدبلوماسية؛ سيتم من خلال هذه الدبلوماسية تطوير العلاقات الأميركية مع 11 دولة آسيوية، وفي اللغة الصريحة؛ سيتم تحريض هذه البلدان لقوقعة الصين. إن قمة العشرين G-20 التي استضافتها الصين في مدينة هانغزو بينت أن الأمور ليست على ما يرام. إن صح التعبير، نستطيع تطبيق المثل الشعبي على ما أصاب أوباما بهذه القمة بأواخر مرحلة حكمه بالقول: "ما حصل له لم يحصل مع الدجاجة المشوية". بدايةً تم استقباله في المطار بطريقة أهانت مكانته. لاحقاً في القمة الآسيوية ASEAN التي حصلت في دولة لاوس (قمة تجمع دول جنوب شرق آسيا) استهدف الرئيس الفلبيني رودريغو دوترتي نظيره أوباما بخصوص موضوع مكافحة المخدرات وشتمه باللهجة المحلية واصفاً إياه "بابن العاهرة".
ناهيكم عن تقارب الصين وكمبوديا، حديثنا هنا عن التغيير في جبهات الفلبين وزعيمها دوترتي التي كانت في يوم من الأيام مستعمرة أميركية. طالب الزعيم الفلبيني من أميركا إخلاء القاعدة العسكرية المتواجدة في جزيرة مينداناو جنوب البلاد. كما أنهى المناورات المشتركة في بحر الصين الجنوبي، وسيتم تبديل مصدر السلاح من أميركا إلى الصين وروسيا. أما بالنسبة لتايلاند التي توترت علاقاتها مع أميركا بعد الانقلاب العسكري الذي شهدته عام 2014، تم شراء 3 غواصات حربية من الصين بقيمة مليار دولار اعتمادا على مبدأ حق تقرير المصير وعدم التدخل بشؤون الدول الأخرى ضمن إطار "مصالحة بكين". بدأت اتفاقية Trans-Pacific Partnership (TPP) بالتميع لأنها لم تدخل حيز التنفيذ رغم توقيع الاتفاقية التي تشمل 11 دولة آسيوية وأميركا اللاتينية وأستراليا. كذلك الوضع غير مطمئن في الجبهة الاقتصادية.
الوضع غير مختلف في الجبهة الأوربية:
بدأنا نلاحظ تعمق التناقضات في الساحة العسكرية والاقتصادية ما بين الولايات المتحدة الأميركية وحليفه الأهم تحت سقف "الامبريالية الجماعية" وهو الاتحاد الأوربي. ظهرت التصدعات بشكل واضح جداً بين الامبرياليين في قمة الناتو في وارسو في شهر تموز الماضي. كانت فكرة البنتاغون بالنسبة لألمانيا وفرنسا أن يلعبوا دوراً فعالاً أكثر ضمن خطة "تجريد روسيا". في حين لم يعد يريد هذان البلدان تكرار كابوس الحرب الباردة التي عاشت ملامحه مع تأثر اقتصادهم الوطني ومخاوف قطع الغاز الطبيعي عنهم إذا ما طبقوا العقوبات الاقتصادية على روسيا. صرح الرئيس الفرنسي فرانس هولاند أن روسيا لا تشكل تهديداً لبلدهم ولا يعتبرونها عدواً. في حين صرح فرانك شتاينماير وزير الخارجية الألماني أنه لا يوجد معنى لقيام الناتو "بالتباهي بلعبة سل السيوف". وبذلك شاركت ألمانيا مشاركة رمزية في أضخم مناورة عسكرية للناتو (أناكوندا) بعد الحرب الباردة.
منذ زمن تؤيد كل من فرنسا وألمانيا أن يكسب الاتحاد الأوربي بعداً عسكرياً، ووكانت بريطانيا غالبا ما تفشل هذه التوجهات بلعبها دور حصان طروادة لأميركا. وبخروج لندن من الاتحاد الأوربي سيريح كل من باريس وبرلين في هذا المجال. هنا لا نرى الخير والعلامات المبشرة بالنسبة للطبقات الكادحة، وخصوصاً بوجود أحلام بإضفاء الصفة العسكرية للاتحاد الأوربي ضمن الحجة التي يتم تسويقها بحماية الحدود والمواجهة المشتركة للإرهاب، ولكن من جهة أخرى نستطيع قراءة هذا الحدث بأنه يحمل أبعاد "المواجهات الشديدة" بين أميركا والاتحاد الأوربي.
جاءت شراكة "Transatlantic" للتجارة والاستثمار (TTIP) لتعزيز التكامل الاقتصادي بين أميركا والاتحاد الأوربي. وشكلت بذلك بؤرة لتعميق عقلية الاحتكار لدى الليبرالية الجديدة. لم تنتهي اللقاءات تماماً ولكن منذ البداية أبدى كلاً من ترامب وساندرز معارضتهم الشديدة لهذا المشروع. لاحقاً سحبت كلينتون دعمها له. بقي TTIP وحيداً. كما شهدت كلاً من شوارع ألمانيا وفرنسا وفنلندا مظاهرات شعبية عارمة متمثلة بجمعيات ونقابات وأحزاب اشتراكية ليظهرون غضبهم على TTIP.
المواجهات مستمرة عن طريق الشركات:
إن الواقع الذي أدركناه خلال الأسابيع الأخيرة هي أن كلاً من واشنطن وبروكسل قد أشهرت الأسلحة بوجه بعضهما تأهباً لحرب اقتصادية. أساساً نستطيع القول أن أول رصاصة أطلقتها واشنطن العام الماضي عندما فرضت على شركة "فولكس واكن Volkswagen" ضريبة بقيمة 15 مليار دولار. وإذ بمجلس الاتحاد الأوربي يفرض ضريبة 13 مليار دولار على شركة "آبل Apple" بعد إثبات تهربهم من الضرائب. وبعدها جاءت واشنطن بحملة ضريبة 14 مليار دولار على أكبر بنك ألماني في واشنطن "بنك دوتش Deutsche".
ليست آبل فقط، من المعلوم أيضاً أن شركات أميركية كبيرة أمثال غوغل والفيسبوك ومايكروسوفت وبفيزر وغيرها من الشركات الضخمة تستغل التراخي في القوانين الضريبية في أيرلندا للتملص من هذه الضرائب، وبذلك ضاعفت هذه الشركات ثرواتها بأضعاف الأضعاف. من الواضح أيضاً أن البنوك الأوربية كان لها دورا ملموساً في الأزمة الاقتصادية التي ضربت العالم عام 2008 انطلاقاً من أميركا. بالمختصر المفيد، إن الشركات متعددة الجنسيات لا تضع بالحسبان قوانين التصاميم الليبرالية الجديدة، حتى التي وضعت لأجل مصالحها. مع تصاعد ردات فعل الفئات الشعبية الواسعة، ومع الركود الاقتصادي الذي جاء بعيد الأزمة رأسمالية المصدر، والتي أدت إلى رفع الرماح الإمبريالية بوجه بعضها البعض.
نشرت واحدة من أهم المجلات الاقتصادية في الأسبوع الماضي مجلة "The Economist الاقتصادية" ملحقاً بعنوان "ملحق خاص شركات". بالرغم من أنه كانت مصطلحات النص مختلفة بعض الشيء، ولكن في الحقيقة أظهرت الألاعيب التي استخدمتها كبرى الشركات التي صنفت الأغنى عالمياً أمثال آبل وغوغل مايكروسوفت وأمازون والفيسبوك في سبيل احتكار السوق وإخراج باقي الشركات من حلبة المنافسة.
في كلمة ألقاها أوباما في مركز شركة "نايك Nike" شهر أيار عام 2015 قال: «في حين بقي اقتصادنا محافظاً على هذه القوة الكونية، يجب أن نكون على ثقة بأن أميركا هي من سيضع قوانين الاقتصاد العالمي. إذا ما وضعنا نحن قوانين التجارة العالمية، سيأتي يوم ستضعها الصين».
واضح أنه بدأ البساط ينسحب من تحت أقدامهم في المراكز الامبريالية. وزادت الدوافع التي تسبب الصدامات العنيفة بينهم. في المحصلة لا نستطيع أن نحكم الآن إن كانت ستزداد الصدامات أم إن كانت ستهدأ. يجب علينا أن ننتظر اجتماع صندوق النقد الدولي واجتماع البنك الدولي في الشهر القادم.
(صحيفة: بير كون)
الجمل
إضافة تعليق جديد