ثورة عبد الناصر
«رواسب الماضي تحاربه، وطلائع المستقبل تحارب معه»
(محمد حسنين هيكل: «لمصر لا لعبد الناصر»)
ربما تكون مأثرة جمال عبد الناصر الأهم هي فكرته الثورية التي استطاعت تجاوز الأيديولوجيات الوطنية الانعزالية والهويات الما قبل حديثة وأدخلت العرب التاريخ كأمة، لكنها أيضاً جعلت منه الزعيم العالمي الأخطر. فعلى طول فترة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، كان جمال عبد الناصر «عدو إسرائيل الأشد خطورة»، حسب تقديرات النخب السياسية والعسكرية والاستخبارية الصهيونية في الكيان الغاصب حينها، كما نقل عنهم نحمان بن يهودا في كتابه «اغتيالات سياسية من قبل اليهود» (ص: 306). وهذا الخطر، كما يبدو وكما نعرف اليوم، لم يكن فعلاً في قدرات مصر العسكرية حينها، أو في إمكانية أن تشكل القوة العسكرية المصرية تهديداً وجودياًَ للكيان الصهيوني. لكن الفكرة التي شكلت محور ثورة عبد الناصر، وستكون محور هذه المحاولة، لم تكن تخيف هذه النخب فقط، بل تقلق أيضاً النخب الإمبراطورية في بريطانيا، فرنسا، والولايات المتحدة.
لهذا ليس غريباً أن يصرخ أنطوني أيدين، رئيس الوزراء الإنكليزي وخليفة تشرشل، غاضباً في معاونيه، كما نقل عنه روبرت درايفوس في «لعبة الشياطين»: «ما هذا الكلام الفارغ عن عزل ناصر، أو «تحييده» كما يسمى ذلك؟ أنا أريده مدمراً، ألا تفهمون؟ أنا أريده مقتولاً، ولا يهمني إن كان هناك فوضى شاملة في مصر» (ص: 101).
مقدمة: توْثين نيجيريا
يصنف التقرير الدوري الخامس لـ«مجلس الاستخبارات الوطنية» الأميركي «الاتجاهات العالمية 2030: عوالم بديلة» نيجيريا في المرتبة التاسعة في قائمة الدول التي تواجه درجة عالية من الخطر لفشل الدولة في المستقبل، مرتفعة بذلك عن التقدير الاستخباري السابق (عام 2008) الذي وضعها حينها في المرتبة الثالثة عشرة (ص: 18). لا يشير التقرير طبعاً إلى تاريخ نيجيريا الكولونيالي الطويل وعلاقة ذلك بحالتها في عصر ما بعد الكولونيالية ليبدو أنّ الفشل ليس ذاتياً فقط، بل مُؤكداً للرؤى العنصرية الغربية عن عجز الأفريقي (والعالمثالثي عموماً) عن حكم نفسه. لكن جذور فشل نيجيريا منذ استقلالها قبل ستين عاماً تقريباً (والفشل المستقبلي الذي يتوقعه التقرير) هي في أيديولوجيا عرقية تقسيمية أسس لها الاستعمار الإنكليزي قبل أكثر من مئة عام باعتماده سياسة جينية (بيولوجية) في إدارة شؤون نيجيريا تمّ على أساسها تصنيف جماعات الهوسا _ فولاني المهيمنة على أنها الأكثر حضارة، مدللين على ذلك بكون لون بشرتهم أقرب إلى لون بشرة المستعمر الأبيض، وكون أديانهم أكثر شبهاً بدين الرجل الأبيض. وهذه السياسة الجينية التي اعتمدتها الإمبريالية الإنكليزية قادت إلى فرض سلطة الهوسا _ فولاني على الأقليات الأخرى التي صنفت في مرتبة أدنى عرقياً، فيما اعتبرت معتقداتهم وأديانهم وثنية متخلفة.
والبشرة البيضاء كمؤشر للحضارة والسياسة الجينية العنصرية التي اعتمدتها الإمبريالية الإنكليزية حصلت على إسناد جملة من الأبحاث «التاريخية» و«الأنثروبولوجية» حينها. فهذه الدراسات استنتجت أن تفوق الهوسا _ فولاني الجيني والثقافي مرتبط تاريخياً بانحدارهم من أعراق غير أفريقية، وهو ما يفسر، برأيهم، النظم الإيمانية التوحيدية (كالإسلام) التي يعتقد بها بعض الهوسا _ فولاني القريبة من مسيحية المستعمر الأبيض، ووثنية الأفريقي التي تؤشر لدونية ثقافية. وهذا النموذج الكلاسيكي الاستشراقي الفظ للإنتاج المعرفي والعلوم الاجتماعية ترافق مع، وبرّر بعنصرية وقحة، فرض نظامين إداريين مختلفين في نيجيريا (في الشمال والجنوب) برغم خضوع المنطقة كلها لسيطرة الإمبريالية الإنكليزية (عن ولادة العلوم الاجتماعية، انظر إيمانويل وولرشتين: «انتصار الوسطية الليبرالية»).
بعد ستين عاماً من الاستقلال، تخللها العديد من الحروب الأهلية والانقلابات العسكرية، وعدم الاستقرار في أكثر دول أفريقيا كثافة سكانية، لا تزال هذه الأيديولوجيا العنصرية السبب الأساسي للأزمات المتلاحقة التي تعانيها نيجيريا، وقد تقود، كما يتوقع تقرير «مجلس الاستخبارات الوطنية الأميركية» إلى فشل الدولة شبه الأكيد، ربما حتى قبل عام 2025، وتفتت خريطة رسمها الاستعمار الانكليزي الذي لم ينس أن يترك في داخلها بذور تفتيتها (حتى اسم نيجيريا التي ركبها الاستعمار الإنكليزي من أكثر من مئة مجموعة إثنية اختارته السيدة لوغارد، فلورا شاو، زوجة أحد المسؤولين في جهاز الإدارة الكولونيالية).
لم يجد المستعمر الإنكليزي حاجة إلى الجيوش والسلاح والأساطيل لضمان هيمنته في حقبة ما بعد الاستعمار. يكفي العمل وفق نُظُم كولونيالية إدارية تمييزية حسب العرق، كتابة تاريخ كولونيالي عرقي _ ثقافي للجماعات المختلفة في البلد المستعمر، ثم إسناد ودعم أيديولوجيات محلية انعزالية متوافقة مع مشاريع النهب الاستعماري الأوروبي.
ثورة عبد الناصر
وفي مصر، لم تكتف الإمبريالية الإنكليزية بوضع حاجز جغرافي يعرقل إمكانية تحقيق الوحدة العربية بنبش مشروع نابوليون وزرع الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي، يقول ياسين الحافظ، بل عملت وبعد احتلال مصر في نهاية القرن التاسع عشر على «تشجيع أيديولوجيا قومية مصرية مهمتها تكريس عزلة مصر التي فرضتها الإمبريالية بقوة السلاح بقضائها على مشروع محمد علي الوحدوي» (الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة. ص: 40). لم تكن الإشكالية الوحيدة والأساسية لهذه النزعة القومية المصرية أنها أفرزت وعمّمت وعياً مصرياً ملتبساً وقاصراً لقضية فلسطين فقط (فعلى اعتبار أن مصر تُمثل وحدها أمة مستقلة كما تصور تلك الأيديولوجيا، كان الموقف الرسمي وموقف النخب عموماً من مأساة فلسطين محدوداً بالتعاطف مع مأساة جار يتعرض للاضطهاد عند الوطنيين المصريين، أو تضامن مع شعب يتشارك معه في الدين عند بعض المسلمين والمسيحيين)، بل أسّست أيضاً لشيوع وصعود وهم خطير آخر يتمثل بإمكانية تحقيق المصريين لحريتهم الكاملة وحدهم فقط في عالم تهيمن عليه إمبراطوريات عملاقة _ وهذا كان أيضاً بعضاً من أوهام القراءة الخاطئة لثورة عرابي وثورة 1919.
لم يكن على الاستعمار الإنكليزي بعد زرعه الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي وفصل مصر وسوريا جغرافياً عقب إدراكه لخطر مشروع محمد علي الوحدوي سوى التأسيس أيضاً للمسار المضاد الذي سيسير فيه شعب مصر المستعمَر بوعي (مزوّر، كما يجدر القول الآن) نحو تجذير استعماره وتبعيته بنفسه عبر تشجيع ودعم تعميم الأيديولوجيا الوطنية. فهذه الأيديولوجيا الانعزالية التي لم يكن ممكناً لها أن تقود إلى تحرير واستقلال حقيقيين لمصر، لم يكن بإمكانها كذلك أن ترى في الكيان الصهيوني عدواً حقيقياً، إن لم نقل وجودياً، فلم يكن ممكناً لها أن تعي حقيقة هذا الكيان ومعنى وتبعات وجوده على الاستقلال المصري أصلاً.
ثم جاءت ثورة عبد الناصر الذي كان يصرّ دوماً على النظر إلى ما خلف الحدود، وتحديداً خلف أو ما بعد سيناء، أو ما سماه عبد الناصر «حقائق الزمان والمكان». لهذا السبب كتب عبد الناصر «رفح ليست آخر حدود بلادنا»، وكتب أيضاً أنه «لم يعد هناك مفرّ أمام كل دولة من أن تجيل البصر حولها وتبحث عن وضعها وظروفها في المكان، وترى ماذا تستطيع أن تفعل فيه وما هو مجالها الحيوي وميدان نشاطها ودورها الإيجابي في هذا العالم المضطرب» (فلسفة الثورة ص: 98، 90). وفي فلسفة الثورة لخّص عبد الناصر رؤيته الجديدة بجملة واحدة شكلت انقلاباً على تاريخ طويل من هيمنة الأيديولوجيا الانعزالية وأوهام الوعي الذاتي المصري المشوه (الذي شكل أساس السياسة المصرية حينها والنظرة للداخل والخارج) وشكّلت أيضاً مدخلاً واقعياً لإمكانية التحرر والاستقلال الحقيقي لمصر: «لقد مضى عهد العزلة» (ص:90). في الجزء الثالث والأخير من «فلسفة الثورة» يَشرح عبد الناصر بإسهاب رؤيته الجديدة عبر عرضه للدوائر الثلاث (العربية، الأفريقية، والإسلامية) التي تطورت وتحولت نظرته لها مع تطور وعيه إلى حقيقتين مترابطتين: الأولى، طبيعة المشروع الإمبريالي الغربي، والثانية طبيعة علاقته بالمشروع الصهيوني على أرض فلسطين.
لم تكن «إسرائيل» عند عبد الناصر «إلا أثراً من آثار الاستعمار»، وكان يرى أن فكرة «إسرائيل» ذاتها لم تكن ممكنة إطلاقاً لولا الدور الذي لعبه الاستعمار الإنكليزي، وإلا لبقيت مجرد «خيال مجنون ليس له أمل في أي واقع» (ص: 101). ربما لهذا السبب جادل عبد الناصر أنّ: «الاستعمار هو القوة الكبرى التي تفرض على المنطقة كلها حصاراً قاتلاً غير مرئي، أقوى وأقسى مئة مرة من الحصار الذي كان يحيط بخنادقنا في «الفالوجة» وبجيوشنا وحكوماتنا في العواصم التي كنا نتلقى منها الأوامر».
ولم يكن عبد الناصر، كما يدلل تأريخه الزمني وعرضه التاريخي لحقائق المكان تحديداً (القسمين الثاني والثالث من فلسفة الثورة)، بحاجة إلى أكثر من قراءة تاريخ مصر والمنطقة مستفيداً من خلفيته العسكرية من جهة، وقراءة تاريخ تأسيس الكيان الصهيوني من جهة أخرى (قرأ عبد الناصر مذكرات حاييم وايزمن «التجربة والخطأ» بتمعن واقتبس منها بكثافة في «فلسفة الثورة») ليستنتج: «لما بدأت أزمة فلسطين، كنت مقتنعاً في أعماقي بأن القتال في فلسطين ليس قتالاً في أرض غريبة، وهو ليس انسياقاً وراء عاطفة، وإنما هو واجب يحتمه الدفاع عن النفس» (فلسفة الثورة. ص: 95). هذا الاستنتاج من عبد الناصر يُفَنِّد رؤى الجهلة في التاريخ الذين امتهنوا تسخيف واقعية الأفكار العروبية وتصويرها على أنها غرائزية وغير عقلانية. فحين كان عبد الناصر طالباً في المدرسة الثانوية يخرج في تظاهرات الاحتجاج السنوي على وعد بلفور، كانت العاطفة حينها هي الدافع وراء تلك الحماسة، كما قال. لكن وعي وإدراك عبد الناصر للمعنى الحقيقي لوعد بلفور وتبعاته على فلسطين، كما على مصر نفسها والمنطقة ككل، تغيّر حين أصبح طالباً في الكلية الحربية ودرس «تاريخ حملات فلسطين ومشاكل البحر» ودرس، كما قال، «تاريخ المنطقة وظروفها التي جعلت منها في القرن الأخير فريسة سهلة تتخاطفها أنياب مجموعة من الوحوش الجائعة» (ص: 94-95). كان قتال العرب في فلسطين دفاعاً عن النفس، كما قال عبد الناصر، وسيبقى قتال العرب في فلسطين الدفاع عن النفس في المستقبل.
لم تكن ثورة عبد الناصر إذاً في إطاحته ورفاقه النظام الملكي العفن على أهمية الحدث وعظمته، ولم تكن في تأميمه لقناة السويس، على أهمية الحدث التاريخية الكبيرة، ولا ببناء السد العالي، على أهميته الاقتصادية والتنموية، ولا حتى بالإصلاح الزراعي الذي أتاح لمرسي وجيله في الخمسينيات والستينيات (وما أدراك ما الستينيات!) حياة كريمة وتعليماً مجانياً، وأيضاً اعترافاً بهم كبشر لم يكن العهد السابق يرى فيهم أكثر من عبيد للأرستقراطية المصرية. ثورة عبد الناصر الكبرى كانت، كما لخصها ياسين الحافظ، في «الانعطافة التي أحدثها بإعادة مصر إلى إطارها الطبيعي كقوة فاعلة»، وهذه الرؤية «تعطي صورة واضحة عن رؤية عبد الناصر التاريخية التي تفوقت على سائر رؤى مفكري وساسة مصر ما قبل 1952». هذه الانعطافة كانت أساس وعي عربي جديد في مصر والوطن العربي يشكل المسار المضاد للوطنيات المحلية الانعزالية التي دعمها ولا يزال الاستعمار الغربي على طريق تشكيل تيار عام جديد في الوطن العربي.
ولم يكن تأميم قناة السويس وبناء السد العالي والإصلاح الزراعي إلا من تبعات هذه الانعطافة، وكانت المشاركة في حرب اليمن كذلك _ يذكر محمد حسنين هيكل أنه كان شخصياً ضد المشاركة في حرب اليمن ويعترف بأنه كان على خطأ. فبعد استغاثة ثورة اليمن الوليدة، كان عبد الناصر يرى أنّه لا يمكن «أن نترك الثورة اليمنية وحدها يسهل ضربها» وكان يرى أيضاً أن ترك الثورة اليمنية وحدها قد يؤثر في «الحركة العربية العامة» (هيكل، لمصر لا لعبد الناصر، ص: 66).
هذا هو السياق الذي يفسر السياسة الناصرية الداخلية والخارجية (مثلاً كون فلسطين أكثر من شأن داخلي مصري ومفتاح الحرية والاستقلال لكل المنطقة العربية)، ويفسر كذلك ماضوية الفكر الإخواني في ما يتعلق بفلسطين (كرمز لسياسة إقليمية) وفي ما يتعلق بمصر كذلك _ مع أنهم، الإخوان، يبدون حداثويين جداً و«شطاراً» حين يتعلق الأمر بالسياسات الاقتصادية النيوليبرالية).
كتلة عبد الناصر التاريخية
خيار عبد الناصر كان العمل من أجل «توحيد الكفاح»، أو «الكفاح الواحد» كما سماه (ص: 107) وهي سياسة هدفت الى تجنيد كل الطاقات الممكنة والمتوفرة، لا للأمة العربية التي كانت دائرته الأولى والأهم فقط، بل وأفريقيا (الدائرة الأفريقية)، العالم الإسلامي (الدائرة الإسلامية) وما بعد (منظومة عدم الانحياز). وبلغة أنطونيو غرامشي، كان خيار عبد الناصر بناء «الكتلة التاريخية» القادرة على تحرير مصر والمنطقة، لأن كل منا لن يستطيع أن يتحرر وينتصر وحده في عالم تحكمه الإمبراطوريات الكبرى _ لن تتحرر مصر أو أي قطر عربي وحده، ولن يتحرروا بدون تحرير فلسطين، وطالما كان هناك كيان صهيوني على أرضها. ربما يمكننا أن نختلف على الصيغة الأكثر فعالية للأفكار العروبية، لكن جوهرها كما طرحه عبد الناصر لا يؤكد واقعيتها الشديدة وعقلانيتها، بل أيضاً ضرورتها الملحة لإنجاز تحرير الأمة _ وعجز الدولة القطرية أن تنجز شيئاً (تنمية، تحرير، عدالة) على مدار ستين عاماً مرده الأساسي بنيتها المصممة للوصول إلى هذا الفشل، وليس الحكام المستبدين إلا تجلّ لواقع وحالة هذه الدولة وفكرتها التي لا تختلف في جوهرها عن الفكرة العنصرية التي اعتمد الاستعمار عليها لتفتيت نيجيريا.
وأتباع عبد الناصر في العالم كانو مدركين، كما يبدو، أهمية الحلف العالمي ضد الاستعمار الذي سعى له عبد الناصر. فباتريس لومومبا، شهيد الثورة العالمية كما سماه تشي غيفارا، كان ناصرياً. وفي رسالته الأخيرة التي كتبها قبل اغتياله البشع (بربطه إلى شجرة وإطلاق النار عليه ثم تقطيع جثته وتذويبها بحامض الأسيد) إلى زوجته بولين ورفاقه، يختم لومومبا شهادته بـ:«عاشت أفريقيا». وكلما قرأ المرء المزيد عن لومومبا، ضحية «أهم اغتيال سياسي في القرن العشرين»، كما قال لودو دو فيته في كتابه «اغتيال لومومبا»، لا يشعر فقط أنه كان تلميذاً نجيباً لجمال عبد الناصر، بل يمكنه أن يرى شبح الزعيم العربي وجوهر «فلسفة الثورة» وعبقرية الفكرة الناصرية في كل أسطر شهادته وتفاصيل حياته القصيرة (انظر نص الرسالة الأخيرة في لودو دو فيته. «اغتيال لومومبا». ص: 184-185). هكذا حاول لومومبا الخروج بالكونغو وأفريقيا من وحل مشابه لذلك الذي أصاب نيجيريا ودفع حياته ثمناً لذلك. ربما لهذا السبب كتب عبد الناصر إلى الرئيس الغاني كوامي نكروما في أعقاب اغتيال لومومبا: «إنني أقضي ليالي طويلة في الدموع، وأشعر بالنار في قلبي كلما تذكرت أن قواتنا كانت هناك ضمن إطار الأمم المتحدة، وأن الحرية التي ذهبنا لحمايتها قد اغتيلت على مرمى حجر منا» (محمد حسنين هيكل، «سنوات الغليان». ص: 501). وكانت الكونغو و«الجريمة الوحشية التي وقعت فيه باغتيال باتريس لومومبا» أيضاً محور الرسالة الأولى التي أرسلها عبد الناصر إلى الرئيس الأميركي الجديد حينها جون كنيدي («سنوات الغليان». ص:523-524).
اللافت أن الرئيس عبد الناصر لم يلتق باتريس لومومبا إلا مرة واحدة يتيمة (أثناء انعقاد مؤتمر القمة الأفريقية في عام 1958 في أكرا في غانا، ولم يكن حينها قد انتخب رئيساً للوزراء وكانت الكونغو لا تزال تحت الاستعمار)، لكن اختيار لومومبا لاحقاً لعبد الناصر تحديداً، من دون كل زعماء أفريقيا والعالم، لرعاية أبنائه بعد اغتياله من جهة، والرعاية الأبوية الفريدة التي وفرها عبد الناصر لهم حتى وفاته من جهة أخرى تشير إلى أن ما كان يربط الزعيمين أكبر من مجرد احترام أو تقدير. كانا يتشاركان في فكرة الثورة، ويتشاركان أيضاً في فكرة ضرورة تأسيس الكتلة التاريخية المضادة للاستعمار، وليست «عاشت أفريقيا» آخر عبار ة خطّها لومومبا إلا «الدائرة الأفريقية» الناصرية التي تطورت أهميتها تدريجاً ونضج معناها أكثر منذ أن كتب عبد الناصر «فلسفة الثورة» وحتى وفاته (نشرت مجلة اليوم السابع ولأربعة أيام متتالية منذ 30 أيلول 2010 حتى الثالث من تشرين لقاء مع باتريس لومومبا الابن، يروي فيه تفاصيل تهريبهم إلى مصر في عملية استخبارية جريئة، وتفاصيل طفولته هو وإخوته في كنف الأب جمال عبد الناصر والأم تحية عبد الناصر، كما سماهم).
والثائر البوليفاري الراحل هوغو تشافيز أعلن في لقاء تلفزيوني معه في الرابع من تموز 2006 (أثناء حرب تموز) ليس فقط «أشعر أني عربي»، بل وأيضاً «أنا ناصري». وهذا حقاً صحيح، فسيمون بوليفار هو عبد الناصر أميركا اللاتينية. مدرسة عبد الناصر إذاً مدرسة ثورة عالمية، ومن يسمع كلمة الثائر العالمي تشي غيفارا في الأمم المتحدة في عام 1964، يردّد مراراً «أميركا اللاتينية»، رغم كونه متحدثاً باسم الحكومة الكوبية، سيستنتج أنّه كان أيضاً يفكّر بطريقة دوائر عبد الناصر وبوليفار (كان غيفارا في خطاب آخر قد رأى في اغتيال لومومبا وتدمير تمثاله مثلاً فاضحاً على وحشية الإمبريالية).
لكن ثورة عبد الناصر والانعطافة التاريخية التي قادها لم يكن لها طبعاً أن تمر دون أن تفجر التناقضات الكامنة في المجتمع العربي، والأهم دون أن تخرج إلى العلن قوى التجزئة التي كانت مصالحها المرتبطة بالاستعمار وشروط وجودها على نقيض مع المشروع العربي الوحدوي. لذلك كان ياسين الحافظ محقاً حين رأى أنّ «المحاولة الوحدوية الناصرية كشفت عن قوى البنى التجزيئية والمصالح التي أفرزتها والأيديولوجيا التي صاغتها» (الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة. ص: 99) _ طبعاً كشفت التجربة كذلك عن قصور ورومانسية الوعي الوحدوي حينها، كما أشار الحافظ، وهذا موضوع يمكن ويجب مناقشته في سياقه التاريخي ودون مبالغة في جلد الذات، وخصوصاً أن الإدراك الناصري لمعنى وحقيقة الإمبريالية الغربية وطبيعة علاقتها بالكيان الصهيوني استغرق نضوجه وقتاً ليس بالقليل. إلا «أنّ هذه المحاولة وضعت العرب في عصر الوحدة، أي أنها انتزعت شرعية المشروع الوحدوي، وبالتالي وسعت الاحتمالات الوحدوية» (ص: 99). ربما لهذا السبب تعددت المحاولات لاغتيال عبد الناصر (محاولتان على الأقل موّلهما الملك سعود في نهاية الخمسينيات هدفت الثانية إلى منع الوحدة مع سوريا _ انظر «سنوات الغليان» أيضاً. يذكر مالك مفتي في كتابه «إبداعات سيادية: القومية العربية والنظام السياسي في سوريا والعراق» الصادر عام 1996، وثيقة لوزارة الخارجية البريطانية من أيار 1959 تتحدث عن انكشاف مؤامرة سعودية للانفصال (مصر وسوريا) واغتيال عبد الناصر عن طريق السراج» (ص: 131). طبعاً، عمد السراج الى إبلاغ عبد الناصر الذي فضح المؤامرة في كلمة له في دمشق حينها).
ومما ساعد وسرع في خروج تناقضات المجتمع العربي وقوى التجزئة أن ثورة عبد الناصر لم تكن تهدف إلى التحرر الوطني فقط، بل والاجتماعي كذلك. كان عبد الناصر يقود ثورتين في آن واحد، الأولى ضد الاستعمار الغربي والثانية ضد الإقطاع ورأس المال المحلي وهو ما جرّ عليه تحالف بعض العرب، الكيان الصهيوني، والإمبراطوريات الغربية وكلهم يبغي التخلص منه شخصياً في سلسلة من محاولات الاغتيال يطول الحديث عنها. ومشروع الهوية العربية التي روج له عبد الناصر لا يمكنه فقط أن يوفر الأساس الفكري والسياسي للكتلة التاريخية، بل يمكنها أيضاً أن تشكل مساراً للخروج من الأزمات والفتن التي يخلقها مشروع الهويات المحلية والما قبل دولاتية كالطائفية والمذهبية.
خاتمة: من نحن؟
رؤية عبد الناصر الثورية ومحاولته تأسيس الكتلة التاريخية تنتمي بفكرتها وجوهرها إلى ذلك النوع العظيم من الفكر الثوري والإنساني الذي سعى إلى توحيد كل القوى ضد العدو الواحد والأساسي. فنجاح الثورة البلشفية 1917، مثلاً، وحتى حدوثها، استند إلى أزمة الهويات التي عمل لينين على استغلالها وتوحيدها تحت شعار «السلام، الخبز، الأرض»، ومشروع أنطونيو غرامشي الثوري (وبالميرو توغلياتي لاحقاً) في إيطاليا كان بالإجمال أيضاً محاولة لتوحيد عمال الشمال وفلاحي الجنوب وتشكيل الكتلة التاريخية _ وكذلك كان مشروع بوليفار ولومومبا.
لكن هذه الاستراتيجيات الثورية كانت ممكنة لأن هوية أي جماعة أو مجتمع ليست عابرة للتاريخ، ولا يمكن أن تكون، وليست معطى مسبقاً، بل هي مرنة، متحركة، غير ثابتة، ولا جوهرانية الطابع أيضاً. هذا يعني أنّ مشاريع تشكيل الهوية المضادة للاستعمار ممكنة تاريخياً، لكنه يعني أيضاً، أن مشاريع هويات التجزئة والفتنة والحروب الأهلية ممكنة كذلك، ولهذا فإن رفض ومقاومة هويات الفتنة ليست مسألة أخلاقية فقط، بل هي سياسية وتاريخية كذلك (للمزيد عن هذه الفكرة، انظر «آرنستو لاكلو وشانتيل موفيه: «الهيمنة والاستراتيجية الاشتراكية: نحو سياسة ديموقراطية راديكالية»، أيضاً، تريفور بورفيس وألان هنت: «الخطاب، الأيديولوجيا»).
لم تكتمل ثورة عبد الناصر بعد، والقوى الخارجية والداخلية، التي قاومها وقاد في مواجهتها الشعوب العربية، تحاول العودة من بوابة هويات الفتنة والتفتيت والحروب الأهلية. مأثرة عبد الناصر وفكرته، والتي تستحق الانحناء أمام ذكرى صاحبها، أنها لا تشكل فقط أساساً لكتلة تاريخية كبيرة يمكنها فعلاً أن تحقق أهداف الأمة في التحرر والاستقلال الحقيقي، بل تتجاوز كذلك التناقضات المحلية والصغيرة (لكن الخطيرة في بعض تبعاتها) التي يراد لها أن تشكل لنا أساس السياسة اليوم في عالم يسوده مشاريع الأمم. فكرة عبد الناصر والهوية العربية يمكنها فعلاً اليوم أن تشكل إجابة عن أسئلة الواقع العربي وأزماته الكبرى والصغرى. لكن يبدو أن من يريد إعادة كتابة تاريخنا لا يعرف حقاً وفعلاً ما هي الستينيات.
سيف دعنا- أستاذ علم الاجتماع والدراسات الدولية في جامعة ويسكونسن–بارك سايد
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد