جدل الدنيويّة العقلانيّة والعلمانيّة الإلحاديّة

14-02-2021

جدل الدنيويّة العقلانيّة والعلمانيّة الإلحاديّة

لا بد في البداية من الاشتباك مع إشكالية مصطلح «العلمانية» من الناحية اللغوية المحضة باللغة العربية، لأسباب تتعلق بآلية دخوله إلى اللغة العربية بترجمته عن المصطلح اللاتيني «Secularis» والذي نُحت عنه المصطلح الإنجليزي «Secularism»، وهو ما يترجم شائعاً إلى اللغة العربية بالعَلمانية، بفتح العين. وهي ترجمة خاطئة من الناحية اللغوية بشكل شبه مطلق سواء من ناحية المعنى أو الاشتقاق باللغة العربية، إذ أن المصطلحين السالفين اللاتيني والإنجليزي يعنيان من الناحية الحرفية «الدنيوية» وعكسها الأقرب حسب معظم القواميس الإنجليزية المعاصرة هو «الروحي» بتعريب مصطلح «Spiritual» الذي يمثل نقيض «Secular» حسب قاموس Webster لمصطلحات اللغة الإنجليزية للعام 1828 وإصداراته المنقحة اللاحقة.

وليس لمصطلح «Secularism» بمدلوله المفهومي والسياقي في طور نشوئه في العالم الغربي أي علاقة بالعلم أو العلمية أو غيره لا من الناحية اللغوية أو الاصطلاحية المفهومية المتكونة تاريخياً. وهو ما يشي بالخلل والزلل المطلق في تكوين مصطلح «العِلمانية» بكسر العين باللغة العربية، والذي قد يكون في أحسن الأحوال شططاً في التفتق الفكري لدى البعض لإغناء مفهوم متشابك باجتهاد لغوي أبعده عن إطاره التاريخي والفكري الذي تكون فيه.

ولذلك أعتقد أن التعريب الأكثر صواباً لمصطلح «العلمانية» باللغة العربية هو «الدنيوية» وعكسه «الروحية». والنسبة منها لا بد أن تكون «دنيوي» وعكسها «روحي».

أولاً: الوظائف الأساسية للأديان في حيوات بين البشر

تتفق جميع الأديان السماوية التوحيدية وتلك الإتباعية على نهج بوذا وكونفوشيوس، وحتى تلك السابقة لها، من الأديان والعقائد الإشراكية التي يشترك في مجمع آلهتها عدد من الآلهة يختص كل منهم بتخصص معين، بأنها كانت ولا زالت في جوهرها تخدم مجموعة من الأهداف المتداخلة التي يمكن تلمسها في قصة الطوفان التي تم توثيقها في أول حكاية مكتوبة عرفها التاريخ في ملحمة جلجامش السومري من الألف الثالث قبل الميلاد، والتي تم التعرف عليها في الرقم المحفوظة في مكتبة آشور بانيبال في القرن السابع قبل الميلاد، أي بعد مرور حوالي ألفي سنة على تاريخ أوروك وملكها جلجامش وحكايته، وهي نفس القصة التي تشربت بحبكات لاهوتية لم تغير من جوهرها كثيراً في الديانات السماوية الثلاثة الكبرى، مع تغيير لبعض الأسماء ليصبح فيها أوتنا بشتم النبي نوح الذي أنقذ بطوفه الحياة على كوكب الأرض من عسف الطبيعة التي يحركها غضب الآلهة الذي أصبح واحداً في سياق تحولات القصة تاريخياً.

وبشكل أكثر تبئيراً فإن كل الأديان والعقائد تسعى في جوهرها لتحقيق الهدف الأساسي الذي تسعى له كل أدمغة الكائنات الحية في مملكة الحيوانات، والثدييات منها بشكل خاص، والبشر منهم بشكل أكثر تحديداً، لمحاولة تكشف علاقات سببية بين ما يجرى في حيواتها من تفاصيل ومنعرجات وانعطافات، ومحاولة استخلاص استنتاجات قد تسهم في تعزيز فرص البقاء البيولوجي، وبالتالي فرص حفظ النوع من الانقراض عبر إنجاب ذرية تخلف ذلك الحيوان بعده وراثياً وبيولوجياً؛ وهو الهدف الأسمى المحرك لكل سلوك الكائنات الحية ذات الأجهزة العصبية المركزية. وهو ما يعني أيضاً بأن الدور الوظيفي للأديان عموماً يكمن في مساعدة البشر في تفسير أحوال الطبيعة، وتفهم أسباب عسفها غير المفسر في الكثير من الأحيان، وهو دور محوري يحتاجه بنو البشر في تفسير علاقتهم المتعددة الأوجه مع الطبيعة، وهم الذين يرتعدون كغيرهم من الحيوانات عند مرأى طوفان أو عاصفة رملية أو رعدية، أو زلزال، أو قحط لا يبقى ولا يذر، أو مطر عرمرم، أو أوبئة وجائحات مرضية تنال من القوي والضعيف على حد سواء.

وهو الدور الذي تطور مع ترقي التجمعات البشرية من مرحلة الجمع والصيد إلى مرحلة الاستقرار في مجتمعات زراعية بعد أفول العصر الجليدي الأخير حوالي 9700 قبل الميلاد، مما أتاح فرصة أكبر لزيادة مضطردة في عدد البشر، لانحسار عسف البرودة القارسة التي كانت تقتل الغالبية العظمى من الولدان، وهو ما اقتضى لاحقاً التوطن في مجتمعات زراعية، إذ أن الجمع والصيد لم يعد كافياً لتلبية حاجات الأعداد المتزايدة من البشر طعاماً، وهو الواقع الذي أفضى أهم قفزة نوعية في حياة جنس بني البشر الحاليين من فصيلة الإنسان الحكيم Homo Sapiens، والتي تمثلت في استقرارهم في مجتمعات زراعية، واعتماد الزراعة مصدراً أساسياً لقوت البشر المنضوين في تلك المجتمعات الزراعية، وهي المجتمعات التي أنتجت صدمة فكرية لازال بنو البشر يعانون منها عقلياً بشكل عميقاً في كل مفاصل حيواتهم، تتعلق بتحول معظم أنشطتهم التي يقومون بها إلى أنشطة ذات مردود غير لحظي، وإنما متأخر يمتد على زمن نضوج المحصول الممتد بين وقت الزرع حتى أوان الحصد، وهي المعاناة التي يدعوها علماء فيزيولوجيا العقل «بيئة المكافآت المتأخرة» واسمها باللغة الإنجليزية «Delayed Reward Environment»، وهي عكس نموذج حياة الجمع والصيد والتي يحصل فيها الفرد على «مكافأة» اجتهاده وعمله بشكل لحظي حينما يلتقط من الطبيعة طعاماً جاهزاً للاقتيات به، أو يصيد فريسة يمكن لها استهلاكها بشكل مباشر دون الحاجة للانتظار أسابيعاً أو شهوراً كما هو الحال في حياة الزّراع.

وتلك المعاناة السرمدية في حيوات البشر الذين استقروا في مجتمعات زراعية، كانت الزناد القادح لمحاولة إيجاد حل عقلي لها بالاتكاء على قدرات الدماغ الجديد والقشرة الدماغية الفائقة التي تميز بني البشر عن غيرهم من الحيوانات الأخرى، وخاصة الثدييات منها، عبر محاولة استنباط مدخل للتداخل لدى غلواء الطبيعة، في محاولة لتجاوز تفسير عسفها وقسوتها وصعوبة التنبؤ بمآلاتها، إلى مرحلة أرقى عبر محاولة إيجاد قناة للتواصل معها، والتضرع لها، علَّ ذلك يكبح جماح غضبها، وهو ما قد يكون الوظيفة التكميلية للأديان بعد أن كانت محاولة تفسير أحوال الطبيعة الوظيفة التاريخية لتلك الأديان مهمتها الجوهرية في المقام الأول.

وفي هذا السياق لا بد من الالتفات إلى رهاب الفناء ما بعد الموت، وهو الظل الذي لم يفارق أياً من البشر على مسيرة صيرورتهم كجنس حيواني امتدت على سبعة ملايين من السنين، وكان أس المعاناة التي شكلت جوهر حبكة أول رواية مكتوبة في تاريخ البشر، وأعني هنا قصة جلجامش السومري أيضاً، والذي كان رهابه من الموت الذي نال من صديقه الصدوق أنكيدو الدافع لانطلاقه في رحلته الطويلة للبحث عن سر الخلود، والتي تكللت باستدلاله على عشبة الخلود من أوتنا بشتيم، الذي أصبح اسمه نوحاً في الأديان السماوية اللاحقة، وهي العشبة التي سرقتها منه أفعى مخاتلة، وتركته غير قادر على تحقيق حلمه وحلم البشرية السرمدي بالخلود الذي قد يستقيم اعتباره حلماً كامناً في ذات كل إنسان عاقل حتى لو لم يظهره للعلن. وهو الحلم الذي قد يمكن استنتاجه بشكل مجازي من النهج الاجتماعي الطقسي لأسلاف أو أبناء عمومة البشر الحاليين، وأعني هنا البشر من جنس إنسان نياندرتال «Homo Neanderthalensis» والذين كانوا يدفنون موتاهم منذ حوالي مئتي ألف سنة قبل الميلاد وحتى انقراضهم منذ حوالي 25000 سنة بوضع يشبه إلى حد كبير الوضع الذي يتخذه الجنين الوليد، كما لو أنه إشارة إلى أن أولئك الأسلاف من البشر كانوا يضعون موتاهم في شكل كما لو أنه تمهيد للولادة من جديد بعد الموت.


وهو رهاب الفناء ما بعد الموت، الملازم والمصاحب لكل حركات وسكنات البشر، نظراً لأن جميع الكائنات الحية ومن ضمنهم البشر يستدعي ضمنياً سعي كل منها للحفاظ على نوعه بيولوجياً من الفناء، ونقل مورثاته إلى ذريته، والسعي بكل جوارحه وأحاسيسه للالتزام بكل متطلبات تنفيذ تلك المهمة؛ وهو ما يقتضي بشكل استنباطي السعي دائماً وأبداً في اتجاه معاكس لذلك الاتجاه الذي يقود البشر باتجاهه الموت، وهو الميل الفطري الذي لا بد أنه قد تنقى وتشذب وتغربل عبر آليات الاصطفاء الطبيعي لجنس بني البشر عبر مئات الآلاف من الأجيال المتعاقبة، إذ أن الذين لم يسعوا لتأخير اندثارهم البيولوجي موتاً بكل جوارحهم وحواسهم ووجدانهم لم يفلحوا في إنجاب ذرية تخلفهم من بعده، وهو ما يعني وفق قوانين الاصطفاء الطبيعي اندثار مورثاتهم من الحوض المورثي للجماعة البشرية التي ينتسبون إليها، وانقراضهم مورثياً.

وهو رهاب الفناء ما بعد الموت الذي قد يكون المحرك الأساسي في تعضي الوعي الديني لدى بني البشر، بعد تجذره وتعقده على امتداد صيرورة تطور بني البشر، ابتداءً من نهاية العصر الجليدي الأخير، وظهور الكهان «جمع كهنة» في منطقة بلاد الشام وبلاد الرافدين، في العصر النطوفي حوالي الألف العاشر قبل الميلاد، والذي قد يكون أقدم أمثلتها الموثقة ما احتوى عليه قبر الكاهنة المكتشف في الجليل الأعلى في بلاد الشام في العام 2008، والذي يعود تاريخه إلى تلك الحقبة التاريخية بعينها. ووظيفة أولئك الكهنة تمثل في تلبية الحاجة المجتمعية لاعتبارهم بمثابة وسيط «روحي» بين البشر وبين تلك القوى الخفية السماوية التي تتحكم بمآلات الطبيعة وأحوالها، في محاولة للتضرع عندها لترويض غلوائها، بالإضافة إلى الهدف الأكثر إلحاحية في محاولة البشر على التغلب على قلقهم ورهابهم السرمدي من الموت، عبر تخليق أساطير العالم السفلي وجحيمها السرمدي وتلك المتعلقة بالفردوس السماوي، الذي لا بد من اتباع ذلك «الوسيط/ الكاهن» لتسهيل مهمة الوصول إلى ذلك الفردوس باتباع تعليماته ونصائحه ورؤاه، والتي كان يمكن له إعطاء لمحة عنها لأتباعه عبر استخدامه لبعض أنواع الفطور التي يؤدي استهلاكها إلى شواش في الحواس و تهيؤات هلوسية لا تختلف كثيراً عن ذلك الذي يمثله استهلاك الحشيش أو القات عبر تفعيلهما المفرط وتحفيزهما لبعض النويات في الدماغ المتوسط، بالتوازي مع استخدام الموسيقى الإيقاعية غالباً، والترنيمات التكرارية وفق بنى موسيقية ترديدية، تؤدي لدى الاندماج الكامل في خضمها إلى حالة من النشوة والشمق الحسي لا يختلف كثيراً عن ذلك الذي يمكن مشاهدته في ممارسات الحلقات الصوفية وخاصة في طقوس «ضرب الشيش» في غير منطقة من بلاد الشام والرافدين راهناً، أو أداء الترنيم والغناء الكهنوتي البوذي في طقوس التعبد الوجداني التي يقوم بها النساك البوذيون. وجماع حالات الهلوسة والاندماج الوجداني والنشوة الحسية يتم تقديمها على أنها إثبات على ضرورة اتباع نهج ذلك الكاهن/ الوسيط لدى تلك «القوى الروحية الخفية» لتسهيل وتمهيد الطريق لأولئك التابعين للوصول إلى ذلك الفردوس السرمدي الذي تمكنوا بمساعدة الكاهن نفسه من أخذ لمحة عنه خلال الاشتراك بالطقوس الدينية التي يشرف عليها.

وهي فئة الكهان التي تعضدت وتطورت وتعقدت في تكوينها البنيوي ودورها الوظيفي مع تطور المجتمعات البشرية، وأخذت تعبر عن نفسها لاحقاً بأشكال وتلاوين من الرسل والشيوخ والقديسين حسب الحاجة الاجتماعية التي كانت تفرضها الظروف التاريخية السائدة لمدى الحاجة لذلك المستوى أو ذاك من الخضوع لأولئك الكهان واستنساخاتهم التاريخية اللاحقة. إذ قد يكون ذلك الرسول أو غيره منبوذاً مصلوباً عند عدم تلاؤم أدواته مع واقع ومتطلبات الحالة التاريخية التي حل عليها، واعتبار تلك الأدوات هادياً ونهجاً مقدساً وراية مشرعة لتشكيل إمبراطوريات، وغزو مجتمعات أخرى حينما تتلاءم تلك الأدوات مع احتياجات حالة تاريخية لاحقة. والمثال النموذجي الأقرب لذلك التوصيف التاريخي حكاية عيسى الناصري الذي صلبه الرومان عند عدم توافق نموذج رسالته التجديدية لتعاليم الدين اليهودي، وتحول تلك الرسالة لاحقاً إلى راية كونية لغزو العالم وتحويل جله إلى مجتمعات تابعة اقتصادياً للإمبراطورية الرومانية عندما مثلت تلك الرسالة مبرراً فكرياً مناسباً لحاجات التوسع الإمبراطورية. والحال نفسها يمكن تلمسها في تلقف الإسلام رافعة لتوحيد القبائل العربية التي كان يشتغل الكثير من أبنائها مرتزقة لدى الفرس أو الروم، وكان لا بد من إيجاد بديل عن الفراغ الناجم عن انحسارهما الحضري والاقتصادي، ممثلاً بتوحيد عرب شبه الجزيرة العربية في إمبراطورية لتحل محل تلكما الإمبراطوريتين الآفلتين، وهو ما كان بالفعل.

وهو رهاب الفناء بعد الموت الذي لا زال يغذي كل أشكال الوعي الديني وتلاوينه الروحية في المجتمعات المعاصرة، ويبرر ذلك النموذج الشائع من تقلبات عتاة الإلحاد في صباهم وشبابهم إلى نساك زاهدين خشوعين متضرعين للنموذج الديني الذي يتبنونه عقب ولوجهم إلى مرحلة الكهولة وتلمسهم عقابيل الشيخوخة التي لا مهرب منها. وهو نفس النموذج النكوصي الذي يتمظهر في حالة اللجوء إلى الوعي الديني وطقوسه التضرعية لدى إصابة كل متجبر بعلة أكبر من تجبره، وخاصة في صحته بمرض عضال فيتحول الجبروت إلى عبد فقير لا حول له ولا قوة إلا بالدعاء والتضرع والتنسك «الروحي» علَّ الفرج يأتي جراء ذلك.

وفي سياق نمو المجتمعات البشرية برز دور الوظيفي مستجد للوعي الديني تمثل في توسعة دوره الوظيفي بأشكاله السالفة، ليصبح بالشكل الذي أفصح عن نفسه في نموذج الأسرة الفرعونية الأولى في وادي النيل، ليصبح فيها الوعي الديني أداة لتبرير وشرعنة سلطة وهيمنة الأقوياء على الضعفاء، بإعطاء معنى قدسي ربوبي لتلك الهيمنة. وهو النموذج الذي ظل سائداً في معظم دول العالم حتى نهاية الحرب العالمية الأولى بشكل كثير أو قليل، وهو ما تمثل أيضاً في الإمبراطورية الإسلامية التي تلبست بلبوس واه من شرعية الخلافة الدينية التي امتدت حتى سقوط السلطنة العثمانية في مطلع القرن العشرين، ولا زال معمولاً بها بشكل لا يختلف عن ذلك الأخير في دولة عربية بعينها في مغرب العالم العربي. وهو نفس النموذج الذي كان عماد كل الملكيات الأوربية قبل تحولها إلى دستورية بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، والتي كان على شاكلتها نموذج الملكيات والإمبراطوريات السائدة في الشرق وخاصة في الصين واليابان حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث كان الإمبراطور في تلك المجتمعات يحصل على تفويضه «الروحي»، بالحكم من «السماء» عبر الكهان المدربين على تفسير رسائلها ورموزها المضمرة وتأويلها بشكل يتسق فعلياً مع النسق العربي الإسلامي للدور الوظيفي لأولئك القائمين بواجبات «وعاظ السلاطين» المفوضين بشرعنة هيمنة الأقوياء على المستضعفين، والذين يفيض التاريخ بالأمثلة عنهم ماضياً وحاضراً.

وذلك التزاوج بين سدنة الوعي الديني ممثلاً «بوسطائه من الكهان ووعاظ السلاطين»، وبين الفئات المهيمنة من الأقوياء الذين ازدادت قدراتهم على الهيمنة مع تعضي المجتمعات الزراعية وتحولها إلى نماذج متفاوتة النضوح من نموذج «المدنية الدولة»، ازداد تعشقاً وتواشجاً مع ظهور «القيمة الفائضة» كعنصر أساسي في تشكيل الثروات في تلك المجتمعات، والتي أصبحت قادرة على تمويل أولئك «الوسطاء»، والدخول في شراكات معهم على شاكلة الشراكة السياسية والمالية والتجارية والعسكرية التي كانت سائدة بين رجال الدين في روما واستطالاتهم الكنسية، وشركائهم من ملوك أوربا في العصور الوسطى، بحيث يمنح رجالُ الدين الشرعية «المقدسة» المطلقة لأولئك الملوك، وبالمقابل يقبل أولئك الملوك بمحاصصة كانت دائماً في الغالب لمصلحة رجال الدين والكنيسة الكاثوليكية من كل منافع تلك الهيمنة مالياً وسياسياً وحتى عسكرياً عبر الإمساك بتلابيب تأليب ملك على آخر لتأديبه في حال عدم التزامه بشروط لعبة تشارك المصالح. وهو التوازن القلق الذي أدى بنتائجه وإفرازاته بدءاً من النصف الثاني من القرن الخامس عشر إلى ثورة الطبقات الوسطى والبرجوازيات الناهضة ضد ذلك التوازن الذي لم يترك لها نصيباً من الثروة المتراكمة في المجتمع، وهي الثورة التي أفصحت عن نفسها بجلاء بثورة مارتن لوثر في القرن السادس عشر وتأسيسه للمذهب البروتستانتي المنعتق من الكنيسة الكاثوليكية، وتكللت بالثورة الفرنسية في العام 1789 مكرسة مكانة الطبقات الوسطى ومخرجة الكنيسة من موقعها المهيمن عبر إحلال البرجوازيات الصاعدة محلها بشكل عملي، واستيلائها على الحصة من الثروة التي كانت من نصيب الكنيسة سابقاً وشركائها من النبلاء والإقطاعيين والملوك في نموذج اقتصادي تهاوت فيه قيمة ودور علاقة التزاوج بين سدنة الوعي الديني وبين الأقوياء لتكريس هيمنة أولئك الأخيرين على المستضعفين في المجتمعات التي يتسيدون فيها بقوة نمط الإنتاج الرأسمالي المستحدث. وهو الحال الذي تكامل في الدول التي تحولت إلى إمبريالية متقدمة لاحقاً بدرجة قليلة أو كثيرة، ولما يتكامل فعلياً في الكثير من دول العالم الثالث ومنها العالم العربي إلى حد الآن بأي شكل حقيقي ملموس، إذ لازالت معادلة الزواج المقدس بين «وعاظ السلاطين» والفئات المهيمنة ممثلة بالمستبدين ووكلائهم سائدة وحاضرة بقوة في جل تلك الدول.

ومن ناحية أخرى لا بد من الالتفات أيضاً إلى الدور التنظيمي الذي كان يتحتم  إيجاده لتنظيم شؤون البشر وعلاقاتهم فيما بينهم، وخاصة تلك التي بدأت بالانتظام في مجتمعات زراعية يتشارك فيها عدد كبير من البشر على عكس منظومات حياة البشر في مرحلة الجمع والصيد التي مثلت المرحلة الأطول من صيرورتهم التطورية، وامتدت على حوالي سبعة ملايين من السنين، حيث أن أمد مرحلة الاستقرار في مجتمعات زراعية لم يتجاوز في غالب التقديرات 12000 سنة من تاريخ بني البشر. وهو الدور التنظيمي الذي أصبح حاجة ملحة في ضوء تعقد شبكة العلاقات بين البشر جراء زيادة عدد البشر في جل التجمعات البشرية عقب انحسار العصر الجليدي الأخير، مما أنتج معضلة جديدة لما يكن قد تم إيجاد حل تكيفي لها عبر الاصطفاء الطبيعي الذي أفلح في تنقية وغربلة الأجيال البشرية في مرحلة الجمع والصيد لتتحلى بصفات عضوية بنيوية من الميل للتعارف والخيرية التبادلية في ظل مجتمعات محدودة العدد من البشر لا يتجاوز عدد الأفراد في أي منها في الغالبية المطلقة من الحالات 150 فرداً، معظمهم في الغالب ينتسبون لنفس العائلة كأخوة أو أبناء عمومة أو خؤولة. إذ أن تلك الدارات الدماغية البنيوية الفطرية الغريزية المختصة بالغيرية والتعاون في أدمغة بني البشر تم اصطفاؤها طبيعياً عبر أجيال طويلة لتعمل بين عدد محدود من أفراد المجموعة البشرية الواحدة، لتنظيم التعاون والسلوك الإيثاري التبادلي فيما بينهم، والذي دونه قد يستحيل على تلك المجموعة البشرية الصمود والحفاظ على حيوات أفرادها من الاندثار في ظل قسوة الظروف البيئية التي مثلت شروط حياة البشر في مرحلة الجمع والصيد. وهي الميول البنيوية التي تفصح عن نفسها بأشكال مختلفة من السلوكات الفطرية لبني البشر التي  تركها وتسيطر عليها منطقتي اللوزة والحصين في الجزء المتوسط من أدمغتهم المسؤولتين عن إيجاد التعريف الأكثر جوهرية في حيوات كل البشر والمتمثل في تشخيص من ينتسبون إلى مجموعة «نحن»، وأولئك الآخرين الذين لا ينتسبون إلى تلك المجموعة الأولى ولا بد من تصنيفهم في مجموعة «الآخر»، وذلك ضروري ولا بد منه لأجل ترشيد الموارد المحدودة لبني البشر وعدم هدرها بشكل قد يفوت فرصاً لا تعوض في الحفاظ على نوعهم من الاندثار وإنجاب ذرية من بعدهم، وذلك عبر حصر الميول العفوية والغريزية للتعاون والغيرية التبادلية بين أفراد مجموعة «نحن» وليس سواها.


وذلك التعريف الجوهري وما يستتبعه من مفاعيل تكونت وتغربلت وتنقت تاريخياً عبر قوى الاصطفاء الطبيعي أصبحت شبه معطلة في ظل الظروف المستجدة التي فرضها استقرار بني البشر في تجمعات، والتي اشترطت زيادة عدد المجموعة البشرية التي يعيش في ظلها الإنسان بشكل يفوق كثيراً قدرات العقل المُنقّاة عبر الاصطفاء الطبيعي لتعريف أولئك المنتسبين إلى فريق «نحن» وأولئك الذين ينتسبون إلى عصبة «الآخر». وتلك الخلخلة وما ترتب عنها من شواش في تعريف الذات والمجموعة التي تنتسب إليها، جراء تعقد تعضي التجمعات البشرية الزراعية بسرعة فاقت قدرة الاصطفاء الطبيعي للعمل على التكيف معها تشذيباً وتنقية وغربلة تحتاج إلى آلاف الأجيال لتعطي نتائج ذات تأثير فعلي إيجابي، تمثل في زلزال تعريف «هوية الذات» الذي لا زال يعاني من ارتداداته كل البشر راهناً بأشكال مختلفة، وتم حله سلبياً عبر تقنين وتأطير الميول العفوية التي تسيطر عليها دارات الجهاز الحوفي Limbic System في الدماغ المتوسط للغيرية التبادلية والتعاون الفطري بين البشر، ليصبح محدوداً في دائرة ضيقة هي الأسرة الصغيرة، إذ أن نموذج المجتمعات الزراعية بأعدادها الكبيرة، التي كانت على سبيل المثال في أوروك التي حكمها جلجامش السالف الذكر في الألف الثالث قبل الميلاد تصل إلى حوالي 50000 شخصاً، يصعب في لجهم تفريق الغث عن السمين ويختلط فيها الحابل بالنابل، ولا يعرف فيها الصديق من العدو.


وفي لج تلك المعاناة كان استنباط الوعي الديني بمثابة حل سحري لتلك المعضلة والتناقض بين الميول العفوية والبنى الدماغية الفطرية التي تحرك وعي بني البشر وبين واقعهم المعقد الذي لا يسمح بتفتحها وقيامها بدورها الطبيعي، وهو ما أنتج ارتكاسات سلبية جراء ذلك التناقض تمثلت في اجتهاد بني البشر عقلياً لكبت تلك الميول الفطرية التي أثبتت كشوفات أبحاث فيزيولوجيا الدماغ الحديثة تأصلها العميق في أدمغة وعقول بني البشر بشكل بنيوي يحتاج لظروف ملائمة كي يفصح عن نفسه، وهو ما لم يكن متاحاً في ظل معمعة حياة الاستقرار في مجتمعات زراعية عملاقة بالمقارنة مع النموذج الذي كان سائداً في حيوات بني البشر في مرحلة الجمع والصيد. وذلك الحل السحري الذي قدمه الوعي الديني تمثل في فعل مزدوج كان لا بد من إيجاده لضمان استمرارية عيوشية المجتمعات البشرية الزراعية، وعدم تحولها إلى مقتلة يقتل فيها البشر بعضهم بعضاً جراء شواش بوصلتهم في تعريف هويتهم بالشكل المبسط الذي كان قائماً في مرحلة الجمع والالتقاط والصيد، عبر تقديم الوعي الديني كنهج لتنظيم شؤون علاقات بني البشر مشخصاً في شكله الأولي في شريعة حمورابي التي أوحاها إليه الإله مردوخ كبير الآلهة البابلية في الألف الثالث قبل الميلاد، لتقوم بتنظيم ورسم حدود الحقوق والواجبات لكل فرد في المجتمع، وهو الدور الذي لازالت تلعبه الأديان في عملية التشريع والقوننة لعلاقات البشر فيما بينهم في المجتمعات التي تدين بتلك الأديان.

والدور الفرعي الآخر الذي ساهم به الوعي الديني لحلحلة الإشكاليات التي واجهتها المجتمعات البشرية في إطار تحولها إلى مجتمعات زراعية عملاقة مقارنة بتلك البدائية المبسطة في مرحلة الجمع والصيد، تمثل فيما قدمه من حل سحري لإعادة تعريف «نحن» وأولئك «الآخرين» مفسحاً فرصة للميول العفوية الغريزية لبني البشر في التعاون والتعاضد والغيرية التبادلية فيما بينهم لتعيد التعبير عن نفسها، بعد أن فقدت بوصلتها جراء الازدياد الكبير لأعداد بني البشر. إذ أفصح الحل المبتكر ذاك عن نفسه في التعريف المبسط وغير المعقد لمن هم «نحن» بأنهم أولئك الذين يعتقدون بنفس نموذج الوعي الديني الذي يعتقد به الفرد الذي يبحث عن موقع له في تجمع البشر الذي ينتسب إليه. وهو حل سحري مكن البشر ببساطة من توسيع وتمطيط فضاءات المجموعة البشرية التي تطورت أدمغة أسلافهم حسب شروطها، والتي كانت مؤطرة بعدد محدود من البشر لم يتجاوز 150 فرداً في جل مرحلة الجمع والصيد، لتصبح مشرعة لأعداد مفتوحة من الذين يمكن ضمهم إلى مجموعة «نحن» في حال اعتقادهم بنفس المعتقدات الماورائية التي يعتقد بها الأعضاء الآخرون في تلك المجموعة. وهو الواقع الذي لا زال سائداً حتى اللحظة الراهنة وبأشكال لا تختلف كثيراً عن ذلك الذي كان قائماً منذ فجر الحضارة البشرية، وهو أيضاً ما يفسر ذلك الصراع المزمن في وجدان الكثير من البشر بين انتمائهم للقبيلة التي تمثل استطالة للمجموعة البشرية الاعتيادية القائمة على وحدة الدم في نمط حياة الجمع والصيد، وبين الانتماء العقيدي القائم على إيمان بالمجردات والتي قد تلزم الفرد بالترفع عن شروط «وحدة الدم» إلى مستوى من «الجماعة العقيدية» وهو صراع لم ولن يتم حله، وسوف يظل يفصح عن نفسه بالحركة التأرجحية التذبذبية التي يعانيها الكثير من البشر في تعريف هوياتهم التي تكون «قبلية تارة»، أو «دينية» في أطوار أخرى.

وقد يكون العنصر الآخر الذي يتم التغافل عنه عند التفكر بالدور الوظيفي للوعي الديني في حيوات بني البشر، هو ذلك المتعلق بما تقدمه الطقوس الدينية بكل حيثياتها من فرصة للدماغ البشري للتأمل التركيزي «Concentration Meditation» والذي يتمظهر في ذلك الفعل الذي يركز ويُبئِّر كل طاقات الدماغ على موضوع واحد هو غالباً السلوك الخشوعي في سياق الطقس الديني على اختلاف تمظهرهاته حسب الأديان، بالتوازي مع الانفصال شبه المطلق عن كل المؤثرات الحسية الأخرى.

والتأمل التركيزي يمثل في الواقع حاجة بيولوجية يتوق الدماغ البشري للحصول عليها بالشكل الذي يتوق فيه إلى النوم لصيانة توازنه الفيزيولوجي والاستقلابي وتحقيق اتزان كهربائي في داراته الدماغية وخاصة في مناطق اللوزة الدماغية Amygdala المسؤولة عن سلوك الخوف والقلق ونظم العديد من الارتكاسات العاطفية، ومنطقة الحصين Hippocampus المسؤولة عن كفاءة الذاكرة، والتلفيف الحزامي الخلفي Posterior Cingulate Cortex المسؤول عن ضبط اليقظة وكفاءة الدماغ في معالجة ما يرده من العالم الخارجي من مؤثرات، بالإضافة إلى منطقة الوصل الصدغي الجداري Temporoparietal Junction والمعروفة شيوعاً بباحة فيرنكه الدماغية المسؤولة بشكل أساسي عن كفاءة فهم وتحليل اللغة المحكية والمكتوبة، بالإضافة إلى المخيخ Cerebellum الذي يمثل حجر الزاوية في قدرة الإنسان على الحركة والتوازن والبراعة في إنجاز أي مهمة بعد التدرب عليها بغض النظر عن بساطتها أو تعقيدها. ويحصل في جميع تلك البنى التشريحية لدى من يمارسون طقوس التأمل التركيزي، وما يقاربها أو يوازيها من الطقوس الدينية التنسكية الخشوعية، زيادة عدد الخلايا العصبية في المادة الرمادية لتلك البنى التشريحية، وهو ما يفسر زيادة كفاءتها عبر توليدها لاحتياطي جديد من الخلايا العصبية الشابة القادرة على القيام بالمهمات المطلوبة منها بحذاقة وبراعة أكثر. وهو ما ينعكس في تلك الحالة من السكينة العاطفية والطمأنينة الداخلية العميقة والمهارات التركيزية الحركية العالية التي يشتهر بها النُسَّاكُ في غير موضع من العالم، والتي هي في الواقع نتيجة غير مباشرة للطقوس الدينية التي قدمت فرصة لأدمغة المنخرطين بها للحصول على قسط من حاجة أدمغتهم من التأمل التركيزي والذي سوف ينعكس بربط اشتراطي بديهي يربط به البشر كل المزايا والفوائد البيولوجية التي يحصلون عليها ويُحِسُّون عملياً بمفاعيلها في حيواتهم وصحتهم جراء انخراطهم في الطقوس الدينية بالطقوس الدينية نفسها بشكل يُئوِّل تلك المكتسبات البيولوجية بأنها مكافأة سماوية على التزامهم الديني، مما يعزز من انغماسهم في إيمانهم العقيدي؛ وهو الارتباط الاشتراطي الذي سوف يصبح بعد فترة من الزمن تكويناً بنيوياً عميقاً في آليات عمل دماغ صاحبه، كما هو الحال في كل السلوكات النمطية التي تميز كل فرد عن آخر، وتمثل في كثير من جوانبها خلاصة تجاربه واستخلاصات من صيرورة حياته.


وقد يكون السبب الأكثر شيوعاً لوباء مرض الاكتئاب وما يرتبط به بشكل مباشر أو غيره من اضطرابات القلق، والتي أصبحت مجتمعة كارثة طبية كونية تصيب في العالم الغربي ما لا يقل عن نصف البالغين من البشر في ذلك الجزء من العالم بمستويات مختلفة من الحدة والوضوح، هو الإحساس العميق بفقدان الإنسان لما قد يمثل الضالة الأكبر لكل إنسان عاقل، والتي تتمثل في تلمس معنى حقيقي لحياة ذلك الفرد، وفقدان البوصلة التي توجهه إلى هدف جوهري يسعى لتحقيقه في حياته. وبغض النظر عن أن إيجاد معنى للحياة وهدف لا بد من السعي لتحقيقه يمثل الضالة الفكرية الأساسية للبشر، والتي أجمع عليها كل الفلاسفة منذ سقراط في القرن السادس قبل الميلاد، وحتى معاصريهم الراهنين بإخراجات وتنميقات لغوية لا تغير من جوهر إجماعهم شيئاً، فإن فقدان معنى وهدف في حياة الفرد يمثل الشكاية الكبرى التي يصرخ بها متوجعاً كل المعانين من اضطرابات الاكتئاب من الناحية الطبية، والتي غالباً ما تكون على شاكلة «ليس من معنى أو قيمة لوجودي في هذه الحياة أو عدمه».


وذلك الإحساس بالخواء العقلي والروحي الذي يصاحب فقدان التعريف الواضح لمعنى الحياة والتوجه المُبَأَّر تجاه هدف واضح المعالم لا بد من السعي لتحقيقه، يمثل المدخل الذي يقدم الوعي الديني نفسه من خلاله بمثابة الحل السحري المبسط لتخليق ذلك المفقود عبر تقديم وصفة جاهزة له تتمثل في أن معنى الحياة يتمثل في خدمة «المقدس» سواء كان سماوياً كالأديان السماوية الثلاثة، أو نهجاً اتباعياً دنيوياً كالبوذية والكونفوشيوسية والداوية وغيرها، وأن الهدف الأساسي في الحياة يتمثل في السعي في كل المسارب التي تحقق استدامة وتعزيز تلك الخدمة «القدسية». وهي وصفة مبسطة كفيلة بإنقاذ العقل البشري من معاناة أليمة مضنية لا تقل في الكثير من حالات الاكتئاب عن الآلام المبرحة التي يعانيها مرضى السرطان، إذ أن الآلام النفسية لا تقل في تبريحها للجسد البشري عن تلك الجسدية؛ والحقيقة العلمية أنهما تشتركان في تحفيز نفس النقاط العصبية في الدماغ ممثلة بالقشرة الحزامية الأمامية Anterior Cingulate Cortex، والقشرة الجزيرية في الدماغ Insula، ومناطق مما تحت الوطاء Hypothalamus.


كما قد يكون ميل بني البشر للإحساس بالذنب Guilt والسعي الدائب لمحاولة تصحيح الأسباب التي أدت إلى ذلك الإحساس بالذنب، وخاصة بإنصاف أي بشر كان الحيف بحقهم مصدر ذلك الشعور بالذنب، ميزة تطورية محورية في مسيرة تطور جنس بني البشر، والذي على الأرجح لم يستطع أولئك الفاقدون لمشاعر تقييم الذات وتلمس الخطأ والاعتراف بالذنب ومحاولة التكفير عنه إيجاد فرصة ملائمة للبقاء بيولوجياً، وإنجاب ذرية تخلفهم من بعدهم، إذ أن الشروط المعقدة لحياة جنس بني البشر الحاليين من فصيلة الإنسان الحكيم Homo Sapiens والتي تمتد على حوالي مائتي ألف عام قضوا معظمها في مطحنة عسف بيئة العصر الجليدي الأخير، والذي امتد على حوالي مائة ألف عام قبل انحساره في الألف التاسع قبل الميلاد؛ وهي الظروف البيئية العصيبة التي اقتضت تكاتفاً وتعاضداً بين البشر، كان الإحساس بالذنب ومحاولة التكفير عنه عنصراً محورياً في لجها لضمان عدم تحول الخلافات العابرة إلى عداوات راسخة في التجمعات البشرية المحدودة العدد إبان مسيرتهم التطورية الطويلة، والتي قد تؤدي في عدم حلحلتها إلى تفكك تلك المجتمعات التي تعاني سلفاً من صعوبة شروط الحياة البيئية وضعف الإنسان البيولوجي والبدني لمواجهتها مقارنة بالكواسر من الحيوانات الأخرى ذات الأنياب بالمخالب والتي لا بد أنها كانت تتربص بكل شارد مارق عن تلك المجموعة.

ومن الناحية العلمية فإن تصوير الدماغ بالرنين المغناطيسي الوظيفي لمن يعانون من مشاعر الذنب تظهر تحفيزاً في القشرة الدماغية ما قبل الجبهية الداخلية Medial Prefrontal Cortex، وهي نفس المناطق التي تتحفز لدى من يعانون من اضطرابات القلق، وبشكل خاص لدى من يجاهدون لإيجاد حلول للأسباب التي أدت لمعاناتهم من القلق عبر مواجهتها أو التخطيط للابتعاد عنها. وهو ما يشي بأن المحاولة الدؤوبة للتكفير عن الذنب قد تكون جزءاً فطرياً تطورياً وبنيوياً في دارات الدماغ الافتراضية في رؤوس بني البشر.

وقد لا يكون أكثر قدرة من الوعي الديني بكل أشكاله وتلاوينه وتمظهراته على تقديم حل سحري لبني البشر للتكفير عن ذنوبهم الكثيرة والتي لا بد أنها قد ازدادت وتعملقت مع استقرار البشر في مجتمعات زراعية كبيرة بالشكل الذي أشرنا إليه آنفاً، وخاصة في ضوء ما أفرزه ذلك التحول من شواش معرفي لدى البشر في تعريف «الأنا/ نحن» وذلك «الآخر/ الآخرون»، والتغير في المواقع التي يتم تصنيف البشر فيها سواء لأنفسهم أو لغيرهم حسب ذلك التعريف بتغير الظروف والشروط، وما قد ينتج عنه من أخطاء أو خطايا لا بد من إيجاد طريقة واضحة للتكفير عنها بشكل حسي أو مجرد لضمان توازن الدماغ البشري في رأس صاحبه، وعدم وقوعه ضحية لمعاناة مزمنة من الذنب والتي يبدو أنها لا تختلف كثيراً من الناحية البيولوجية عن مفاعيل اضطرابات القلق ومعاناتها المضنية التي تصاحبها.


ومن ناحية أخرى يميل البشر فيزيولوجياً وفطرياً للقيام بالكثير من الأفعال بشكل ارتكاسي، وهي الأفعال التي تعبر عن ميل فطري للحفاظ على نوع البشر من الانقراض. وتلك ميزة تطورية لا بد أن الاصطفاء الطبيعي قد قام بتنقيتها وتشذيبها، إذ أن تحولها إلى عنصر بنيوي فطري في عمق دارات الدماغ الأساسية البنيوية كان مفصلاً ضرورياً للحفاظ على جنس بني البشر من الانقراض في ظروف تطور الجنس البشري المعقدة والصعبة والطويلة. والمثال النموذجي على تلك السلوكات الفطرية هو الميل الفطري لإغاثة الملهوف، ونجدة المتفجع، والتي تتمظهر في بعض الأحيان بنماذج بطولية من السلوكات التي يقوم بها بنو البشر لإنقاذ أفراد آخرين، على الرغم مما قد تحتمله تلك المحاولات من صعوبات واحتمالات وإخفاق وعقابيل خطيرة يمكن حدوثها في سياق ذلك الاندفاع.


وهناك تمظهرات كثيرة لتلك الميولات العفوية الخيرة لدى بني البشر والتي يحجم الكثير عن الإفصاح عنها لإحساسهم لعدم اتساقها مع شروط الواقع الذي يعيشون فيه، أو لعدم وجود معنى منطقي يحفز تلك السلوكات الخيرة بمختلف أشكالها ومستوياتها، والتي غالباً ما تكون تعبيراً بأشكال مختلفة عن الميول الغريزية لبني البشر لحفظ النوع البشري من الانقراض، وللتعاون الإيجابي مع البشر الآخرين، والغيرية التبادلية التي لا بد من القيام بها في وقت ملمة شخص آخر لا بد له من أن يقوم بدوره بنفس الفعل في المستقبل مع من أسدى له المعروف في بادئ الأمر أو مع غيره، في تآثر إيجابي لا بد منه  في أي مجموعة من الأفراد قيض لأفرادها البقاء على قيد الحياة ، وعدم الانقراض من وجه البسيطة، وهو ما يعني ضرورة استبطان ذلك النموذج من التآثر الإيجابي في عمق الدارات البنيوية في أدمغة كل البشر الذي قدر لهم البقاء وإنجاب ذرية من بعدهم تخلفهم وتحفظ مورثاتهم من الاندثار البيولوجي.


وفي هذا السياق يفصح الوعي الديني عن نفسه بكونه بمثابة حل سحري لذلك التناقض الذي يراه الشخص في اندفاعه للقيام بسلوك خير ما بشكل فطري انفعالي، وبين ما تفرضه شروط العقلنة الواقعية المرتبطة بالظروف التي يعيشها كل فرد بعينه، إذ يصبح تفسير الميل لتلك الأفعال الخيرة العفوية بأنه بمثابة الالتزام بتعليمات ذلك «المقدس» الذي يؤمن به، والتي في الواقع تجتمع جميعها بشكل لا تغاير فيه حول الوصايا العشر التي تجمع كل الأديان السماوية والاتباعية على جوهرية مبادئها، والتي هي في جوهرها عقلنة وقوننة للسلوكات الواجب اتباعها لحفظ النوع البشري من الانقراض، وتعزيز إمكانيات التفاعل الإيجابي بين البشر، وتقليل احتمالات الصراعات التي لا بد أن تؤدي إلى تقليل فرص البشر كجنس حيواني في البقاء عموماً؛ إذ أن الصراعات المستمرة يحتمل أن تؤدي إلى أن يبقى «الفاتك الجسور» وحده لا شريك له غير قادر في محيطه الاجتماعي على مقاومة عسف الطبيعة وظروفها القاهرة لوحده، وغير قادر على إنجاب ذرية تخلفه من بعده وهو ما يعني فناءه وفناء الجنس الذي ينتمي إليه.

وذلك النسق التوصيفي الأخير يعني في مجمله تحول «التعاليم المقدسة» إلى خارطة طريق تعقلن الفطري وتحوله إلى «مسلمة» لا بد من القيام بها «لقدسيتها» بالإضافة إلى تقديمها مكسباً إضافياً يعزز من القوة التأثيرية لتلك «التعاليم المقدسة» وجوهرها «الفطري العفوي» عبر فتح ذلك النسق المقدس فرصة للعقل البشري، الذي يميل فطرياً للانزياح تجاه الحسي الملموس، أكثر من المجرد غير المؤكد، فيما يتمثل في استبطان وعي البشر كلهم بأن «عصفوراً في اليد أفضل من عشرة على الشجرة»، والذي يفصح عن نفسه بشكل حسي ميسر عبر تحويل كل الميول الفطرية للأفعال الخيرة، والتي تصبح بالمعنى القدسي «نوايا»، والأفعال الخيرة التي تنبع عنها، إلى «قيمة ملموسة» يتم مراكمتها ومقايضتها بالغفران في حياة الشخص، و«بالنعيم السرمدي المشتهى» بعد رحيل الشخص من وجه البسيطة. وهو ما يمثل حلاً سحرياً متعدد المفاعيل لمعضلة عقلية ضاغطة عبر إعادة قولبتها وعقلنتها لتصبح دافعاً وحافزاً لحفظ النفس والأقران من الاندثار، وبالتالي تعزيز فرص الجنس البشري في البقاء، والتي هي الضالة الأساسية المحركة لكل البنى العضوية البيولوجية على وجه الأرض من زرع وضرع وحيوانات عاقلة لبني البشر.

وقد يستقيم النظر إلى القدرية والتي تنطلق مفهومياً من مبدأ «قل لن يصيبكم إلا ما كتب المقدس لكم في صحيفتكم السماوية»، والتي يتم تسميتها في الكتابات الفقهية باللغة العربية أحياناً بالجبرية، بكونها أهم ناتج لتعضي الفكر الديني ليصبح ترياقاً للتهيب والتوجس المتبنى عضوياً في دارات أدمغة بني البشر من كل مجهول، وهو الميل الغريزي الذي كان لا بد منه في صيرورة رحلة بني البشر التطورية على امتداد سبعة ملايين من السنين كانوا فيها بأقل التوصيفات إفراطاً «فريسة مشرعة» لكل الكواسر والجوارح وعسف الطبيعة الذي لا ينقطع، وهو واقع عصيب اقتضى الفناء لكل من لم يتحلى بذلك الخوف الفطري من المجهول، والميل إلى الالتصاق بالمألوف المعروف المجرب، والتهيب والتوجس من سواه. وتلك المعادلة الأخيرة من الخوف الغريزي من المجهول أصبحت بمثابة الكابح واللجام في وجه إقدام البشر على اكتشاف عوالم وأمكنة شروط حياة مستجدة، وهو الفعل الذي كان لا بد من القيام به بعد انحسار العصر الجليدي الأخير في مطلع الألف العاشر قبل الميلاد، والذي أفضى إلى زيادة مضطردة في أعداد بني البشر، جراء الانحسار النسبي لقسوة ظروف العصر الجليدي البيئية المهولة والتي كان يقضي معظم البشر نحبهم بسببها، وهو ما أفضى إلى حاجة عضوية تكيفية لا بد منها للبشر للإقدام على اكتشاف المجهول، والخروج من الرقعة الجغرافية المحدودة التي كان يعيش فيها معظم أسلافهم، والتي لم تتعدى في غالب الأحيان بضعة أميال مربعة، في أفق جديد من حركة بني البشر أفضى إلى ترحالهم المستمر بحثاً عن الموطن الأكثر خصوبة لزراعته، وهو الواقع الذي أفرز حاجة عضوية لإيجاد ترياق يخفف من عبء تلك المعاناة العقلية بين النوازع الفطرية للالتصاق بالمألوف، وبين الحاجة البيولوجية للبحث عن جغرافيا جديدة للاستقرار الزراعي والتوطن فيها، والتكيف مع شروطها المستجدة التي تحمل في طياتها الكثير من عوامل ومخاطر المجهول. وهنا قدم الوعي الديني نفسه أيضاً بمثابة الحل الذي لا بد من استنباطه لأجل تحويل المجهول إلى قدر حتمي لا مهرب منه حتى  إن تكور الإنسان على نفسه في قوقعة ولم يغادرها، وهو ما عنى من الناحية العقلية انتفاء سبب التهيب من ذلك المجهول الذي لم يعد مجهولاً إلا لحين مواجهته، إذ أن ناتج تلك المواجهة محسوم ومكتوب وناجز لن يغير من مآلاته أي فعل قد يقوم به مناجزه، وهو ما يقتضي الإقدام على ذلك المجهول بكل شجاعة، والعمل المجتهد لترك ذلك المجهول للتحقق كما هو مكتوب له أن يتحقق بأعلى درجة من «الشرف Honour» لمن قام بمواجهته. وذاك المفهوم المرتبط بالسعي الدائب لإدراك «الشرف» في مواجهة المجهول مثل حجر الزاوية في كل أفعال أبطال الأساطير اللاهوتية التي نسجها بنو البشر في عموم أرجاء الأرضين.


وذلك الحل الذي كان لا بد من تخليقه لتعطيل الخوف الفطري من الإقدام على المجهول أدى بشكل إضافي لتحقيق ميزة إضافية على المستوى العقلي عند بني لبشر عبر تحييد ذلك الميل الغريزي لديهم لتقييم الماضي والتعلم من دروسه، والذي قد ينتج عنه في كثير من الأحايين إغراق في معاناة «لو» وما تجلبه من ضنك عقلي على العالق في حبائلها. وهو ما تم حله عبر تحييد مفاعيل احتمالات تجريم الذات وما يرتبط بها من اعتقادات بالخطيئة والخزي، وما يمكن أن تعزز من عقابيل عقلية جسيمة على صاحبها، يمكن أن تفضي إلى انسحاب الفرد من شبكة محيطه الاجتماعي والوقوع ضحية للاكتئاب بأشكاله المختلفة المقنعة والصارخة منها، عبر اختزال الماضي بعجره وبجره إلى «قدر محتوم» كان لا بد من حصوله، وأن الحد الأقصى لاجتهاد بني البشر يجب أن يكون محصوراً في تلقف واستبطان أدوات مجابهة ذلك المحتوم «و المكتوب على الجبين» بمناهج تسهم في تحقيق أرفع أشكال «الشرف» البطولي في مواجهة «المنقوش في الصحف السماوية من قبل»، و الذي لا مغير له من بعد اختطاطه في تلافيفيها وخوابيها من شيء.

وذلك النموذج من الحل العقلي لمعضلتي التهيب من المجهول، والألم العقلي المضني الذي يجلبه التفكر بالماضي، يمثل استنباطاً غير مسبوق كان لا بد من استحضاره في سياق تعقد حيوات بني البشر جراء ازدياد أعدادهم عقب انحسار العصر الجليدي الأخير، والذي اقتضى عقلنة تكيفية عن طريق الوعي الديني بالحتمية القدرية لتحويل الخوف إقداماً، والانعتاق من الانحشار في قوقعة الماضي سعياً تجاه المستقبل لإدراك ما لم يمكن إدراكه في الماضي من «شرف» وما كان على شاكلته من صفات المجالدين الجبابرة.

وقد يكون غرامشي رائد مفهوم المجتمع المدني الذي تمثل الهيمنة Hegemony عليه ضالة كل الأفرقاء المتناطحين طبقياً أو إيدلوجياً أو كليهما معاً لتوطيد النمط السياسي الاقتصادي الاجتماعي الذي يعتقد به المنتصر منهم. وهو غرامشي نفسه الذي اعتبر مؤسسات الوعي الديني الفطري في المجتمع الإيطالي جزءاً عضوياً من مجتمعه المدني، الذي لا بد من الاجتهاد لتحقيق الهيمنة عليه عبر النضال بكل أشكاله، والذي كان يدعوه «فلسفة الاجتهاد» أو باللغة الإنجليزية «Philosophy of Praxis». وبالنظر إلى واقع المجابهة القائمة راهناً في عالمنا المعاصر، قد لا يفوت أي مراقب حصيف الالتفات إلى أن جبهة المواجهة الأولى بين المجتمعات المدنية في عموم أرجاء الأرضين قائمة بشكل عياني مشخص في مواجهة «إما قاتل أو مقتول» مع غيلان العولمة وأدواتها وروافعها ووكلائها من البيادق والمستفيدين الفعليين من نتاجها ومفاعيلها من فئات الأباطرة والأقوياء والأثرياء على المستوى الكوني.


وقد يستقيم التوصيف بأن مؤسسات الوعي الديني، التي جوهر رسالتها يتأسس حول مبادئ الوصايا العشر تتناقض بشكل جوهري مع عقيدة العولمة التي تختزل الإنسان إلى «مستهلك ضالته الأولى وسدرة منتهاه مراكمة الثروة المادية والاستهلاك الذي لا ينقطع»، وأن معنى وجوده في حياته هو «الصراع الذي لا ينقطع في مجتمع هو غابة وحشية البقاء فيها للأكثر بأساً وفتكاً»، ولا مكان فيها للقيم الإنسانية البائدة من قبيل التعاضد والتراحم، والتعاطف، والتعاون، والإحسان، وفعل الخير عموماً إذ أن جميع تلك «المفاهيم البائدة» بحسب «قاموس العولمة الحديث» أوهام ذات قيمة صفرية لا تباع ولا تشترى في اقتصاد السوق الوحشي، ولا يمكن «تسليعها»، مما يحتم ضرورة الانقضاض عليها بقوة «الرأسمالية المتوحشة» وغيلانها الإعلامية والدعائية والمافيوية وحتى العسكرية إن اقتضى الأمر، لأجل تخليص البشرية منها، وضمان عدم تلويثها لعقول البشر الذين لا بد لهم من الاعتقاد العميق بمبادئ العولمة، والتحول «ديموقراطياً» إلى «مستهلكين طبيعيين» في مجتمعات هي عبارة «تجمع لأرهاط من البشر لا يجمعهم فيها بينهم سوى التواجد في نفس المكان والزمان» في تجل سام لرسالة الرأسمالية الموحشة التي أعلنتها رئيسة الوزراء البريطانية الشمطاء مارغريت تاتشر بقولها «لا يوجد شيء يدعى مجتمعاً، وإنما فقط أفراداً أحراراً»، تكمن «حريتهم المقدسة» في «حرية استهلاك كل ما يشتهونه في اقتصاد السوق الوحشي»، وحاشى أن تقرب تلك الحرية من تلك الشوائب البائدة من قبيل حرية الإنسان في تعريف معنى وجوده في حياته وحريته في الاجتهاد لتحقيق ما يعتبره أهدافه خلال رحلة وجوده العابرة على وجه البسيطة كحيوان اجتماعي قادر على الإبداع والتفكير والاختيار بامتياز.

وذلك التضاد يفسر تلك المواجهة التي ما فتئت تفصح عن نفسها بأشكال مختلفة بين غيلان العولمة وتجلياتها وبين مؤسسات الوعي الديني، وأولئك «المؤمنين المجاهدين» على طريقة ونهج «لاهوت التحرير» الذي أفصح عن نفسه بجلاء في أمريكا اللاتينية، والذي في الواقع لا يختلف نهج مجاهديه من عمال زراعيين مفقرين ورجال دين كثيراً عن نهج أب الثوار الوطنيين في أمريكا اللاتينية «سيمون بوليفار»، ومن سار على خطاه من بعده من المجاهدين الطهرانيين، وأعني هنا بالخصوص «أرنستو تشي غيفارا». وهو نفس النسق الذي دأب عليه مناضلو الأحزاب الشيوعية في غير موضع من أرجاء الكرة الأرضية، كما كان الحال في الملايين من أعضاء الحزب الشيوعي الإندونيسي قبل انقلاب الجنرال سوهارتو المدعوم من قبل الولايات المتحدة وأستراليا أساساً في العام 1967 تمهيداً لإبادتهم جماعياً لتحقيق شروط الانفتاح العولمي التي لا بد منها ممثلة في تحول المجتمع المخترق إلى مصدر رخيص لليد العاملة، ومنجماً لا قعر له للمواد الأولية بشكل شبه مجاني، وسوقاً لا رقيب على ما يجرى فيها لتصريف نتاج مجتمعات الأقوياء وشركاتها العابرة للقارات. وهو الواقع الذي تكرر بشكل لا يختلف كثيراً عقب انقلاب حسن الترابي وشركائه من الفاسدين على شاكلة عمر البشير الذي كان نقطة الانطلاق لاجتثاث الحزب الشيوعي السوداني من مواقعه الراسخة في المجتمع السوداني، والذي ما كان أعضاؤه يجدون ضيراً في الخروج من صلاة الجمعة إلى الاجتماع الحزبي عقبها.

وفي الواقع فإن الشبكة الواهية من بنيان مؤسسات الوعي الديني تمثل الحصن الأخير الذي يمكن للبشر التواصل من خلاله فيما بينهم سواء كان ذلك في مسجد أو كنيسة أو كنيس أو معبد أو ما كان على شاكلتها، وهي حاجة عضوية فيزيولوجية لا بد منها للسواء الدماغي فيزيولوجياً وعقلياً. إذ أن طوفان العولمة الذي حول الغالبية الساحقة من بني البشر إلى جزر معزولة بشكل أو بآخر في شرنقة لهاثها الذي لا ينقطع متركز حول تعظيم الثروة المادية والاستهلاك المحموم، أو التسمر وراء التلفاز وفيضان الإعلام الموجه والمخاتل الموارب منه عبر الأفلام والمسلسلات التي ينتجها أرباب العولمة، وأخطرها جميعها ذلك الإنسان الذي أمسى وجوده وكينونته مرتبط بالتحامه العضوي بهاتفه المحمول وشبكات التواصل الاجتماعي الخبيثة اللئيمة التي تستغل كل مواطن ضعف الدماغ البشري لتحويل البشر إلى «قطعان من المدمنين» عليها لا حول لهم ولا قوة في مقاومة تحولها إلى هدف حياتهم وضالة وجودهم.

وذلك الواقع البائس الذي تقود إليه الرأسمالية المتوحشة كل بني البشر بدرجات مختلفة في حدتها وشكلها وعنفها الظاهري والحقيقي معاً مُعَرِّفَةً عن نفسها بأنها أم العقائد، وأن السير في ركابها خيار البشر الوحيد بعد وصول البشرية في كنف تلك الرأسمالية إلى «نهاية التاريخ» الذي لا مخرج أو مهرب من مآلاته بحسب تلك الوصفة الرأسمالية البربرية المعولمة؛ ما زال يتعرض للمقاومة في غير موضع من أرجاء الأرضين من قبل نماذج الوعي التي تعارف عليها البشر على امتداد قرون طويلة لتنظيم شؤون حياتهم وعلاقاتهم مع بعضهم، وعلى رأس تلك القائمة يكمن الوعي الديني ومؤسساته الشعبية غير المدجنة في ركاب الرأسمالية الوحشية المعولمة سواء في مجتمعات الأقوياء أو مجتمعات المفقرين المستضعفين من خلال وكلاء ونواطير مصالح أولئك الأقوياء فيها. وهنا يفصح الوعي الديني الفطري أو الشعبي بكونه قلعة الدفاع الافتراضية التي لا يمكن للعاقل تلمس غيرها خاصة في ضوء انحسار كل بنى المجتمع المدني الأخرى التي مثلت حجر الزاوية في رؤية غرامشي الثاقبة لآليات الحراك الداخلي التآثري في ذلك المجتمع، وأعني هنا بالخصوص النقابات التي يتلاقى فيها البشر من أجل نضال لأجل تحقيق مصالح مشتركة، والأحزاب التي يجتمع فيها البشر العقلاء لأجل العمل والاجتهاد لتحقيق رؤيتهم الجمعية التي يلتفون حولها لتغيير المجتمع، أو بمعنى آخر العمل انطلاقاً من فهمهم وتصورهم الإيدلوجي للمجتمع، والكيفية التي يمكن بها نقل ذاك التصور من حيز الممكن إلى حيز التحقق العياني المشخص، وهو ما أصبح عسير التحقق في ظل التصحر والخواء المجتمعي الذي أفرزته الرأسمالية المتوحشة المعولمة بعد أفصحت عن وجهها القبيح، وتخلت عن التزويق الذي اقتضته ضرورات حقبة الحرب الباردة بعد أفولها، والتي كانت تستدعي بإلحاح تكيفاً مرحلياً مع ضرورات درء خطر انجذاب البشر في أرجاء المعمورة إلى نموذج الاتحاد السوفيتي بعجره وبجره، وهو الذي مثل نموذجاً صريحاً لرأسمالية الدولة التي تحرص على رعاية رعاياها صحياً وتعليمياً إلى درجة لائقة؛ فكان لا بد من مواجهة ذلك بكشف نقاط ضعف ذلك النموذج السوفيتي العميقة، وخاصة فيما يتعلق بتغييب الديمقراطية الحقيقية فيه التي يستطيع من خلالها الشعب المشاركة في اتخاذ القرارات التي ينتج عنها رسم وصياغة الأهداف الجمعية لأولئك المتشاركين في المجتمع، لصالح الاستسلام لإرادة «الطليعة الثورية» و«الحزب القائد للدولة والمجتمع»، وما يفرزه ذلك من تلاوين وأشكال «للديمقراطية الشعبية الخلبية». ولم يكن أفضل وسيلة لكشف نقاط ضعف الاتحاد السوفيتي في الحيز الديمقراطي سوى تراجع الأقوياء تكتيكياً في مرحلة الحرب الباردة عبر إعلان نهج «دولة الرفاه»، والرعاية الاجتماعية، والحريات الأساسية الليبرالية شعارات رنانة طنانة أفرزت بعض الانفراج في مجتمعات الأقوياء من قبيل السماح ببعض النشاط النقابي المحدود، وشكلاً من الترويج «لديمقراطية شكلية» في مجتمعات المستضعفين عبر إطلاق محدود لحريات التعبير فيها، وهو ما تم التراجع عنه بشكل شبه مطلق في رحلة صعود الرأسمالية اللبيرالية المستحدثة في حقبة ثمانينات القرن المنصرم مع بداية الأفول الاقتصادي والعسكري للاتحاد السوفيتي وصعود إدارتي رونالد ريغان في الولايات المتحدة ومارغريت تاتشر في بريطانيا، اللتين وجدتا في أفول الاتحاد السوفيتي الفرصة السانحة التي كانت تنتظرها الرأسمالية للانقضاض على كل مكونات المجتمع المدني لتهشيم ما يستعصي منها على الاستدماج في عجلة اقتصاد السوق الوحشي الذي كل داخل فيه أو خارج منه سلعة تباع وتشترى، ولا وجود فيه «للقيم المفرغة من مفاعيل القوة الشرائية»، ولا وجود فيه لمفاهيم التعاضد والتعاون، ولا فسحة فعلية فيه لأي عمل نقابي حقيقي، ولا فرصة بين تلافيفه لأي عمل حزبي حقيقي ما لم يكن محدوداً بأنشطة الترويج والعلاقات العامة والبروباغندا لتجريع المستضعفين بأن لا خيار لهم في حيواتهم سوى الخنوع لإرادة مستغليهم من الأقوياء.

وفي حنايا ذلك التوازن المختل من الناحية الوجدانية والروحية للإنسان يفصح الوعي الديني عن نفسه بكونه شبه المدخل الوحيد المتبقي للإنسان للتواصل مع أقرانه وتعويض الخواء الروحي والوجداني وحاجته العضوية الفيزيولوجية على المستوى الدماغي للتفاعل الإيجابي مع الآخرين، جراء عدم إدراكه للمداخل الأخرى البائدة لتحقيق ذلك في فضاء حطام المجتمعات المدنية في عموم أرجاء الأرضين بالشكل البائس الواقع راهناً.

ثانياً: جذور فكرة العلمانيّة

قد يمكن إرجاع بواكير الأطروحات الجنينية العلمانية إلى فكر المعمدانيين Baptists الذين هربوا من بطش الكنيسة الأنجليكانية في بريطانيا إلى هولندا في مطلع القرن السابع عشر، والذين تمركزت أطروحاتهم حول الفكرة الجوهرية التي مفادها بأن تعميد أي فرد وإدخاله في الدين المسيحي يجب ألا يتم إلا لشخص تمكن من إدراك يقينه الإيماني عبر اجتهاده العقلي والمنطقي بنفسه وليس استجابة وخضوعاً لإرادة غيره. وهي الفكرة الجوهرية التي أفضت إلى التعريف الأكثر جنينية للعلمانية والذي لا زال يستخدم وعلى نطاق واسع راهناً متمثلاً «بفصل الدين عن الدولة»، وهو التعريف الجنيني الذي يمثل خلاصة الميراث الفكري لفكر واجتهاد المعمدانيين.

وقد يكون جون لوك John Locke المفكر الإنجليزي الذي نقل فكرة المعمدانيين الجنينية إلى فضاء جديد من الوضوح النظري والمنهجي في كتابه الشهير الذي حمل عنوان «الفرق بين القوى المدنية والسماوية» الصادر في العام 1674. وفي ذلك الكتاب رسم جون لوك تفارقاً جلياً بين المجتمع المدني ممثلاً بالدولة حسب رأيه وبين المجتمع الديني ممثلاً بالكنيسة، محدداً وظيفة ذلك الأخير في توجيه البشر «لإدراك السعادة بعد هذه الحياة في عالم آخر»، بينما وظيفة الدولة يجب أن تشمل تحقيق وتوطيد «السلم المدني والرفاهية، وحفظ المجتمع وكل أفراده في مناخ متحرر وسلمي لإدراك كل ما يتوقون إليه»؛ وهو تعريف ثوري أخرج الكنيسة من حيز السلطة على أي ما هو دنيوي، ليترك ذلك في يد الدولة المسؤولة عن تنظيم شؤون وعلائق الأمور بين رعاياها. وهو ما حصر دور الكنيسة فعلياً في الحيز الدعوي لتحفيز البشر على إدراك «السعادة الأخروية وتجنب العقاب الإلهي» وليس أياً من سوى ذلك المتعلق بالشؤون الدنيوية لحياة البشر في مجتمعهم.

وتكمن فكرة جون لوك الثورية في أن إدراك الإنسان للسعادة الأخروية أو عدم إدراكه لها يمثل شأناً شخصياً للفرد لا يؤثر على أي شخص آخر، وهو ما يقتضي عدم تدخل المجتمع والدولة فيه، وعدم أخذه بعين الاعتبار في صياغة القوانين الوضعية التي لا بد للدولة من توطيدها في المجتمع لتنظيم العلاقات الدنيوية بين البشر المتشاركين في كنف تلك الدولة والمجتمع الذي تشرف على تسيير الأمور فيه.

وقد يكون فكر باروخ سبينوزا Baruch Spinoza الهولندي النموذج الأكثر جلاء في إنضاح فكرة جون لوك السابقة في النصف الثاني من القرن السابع عشر عبر المطالبة بتحول الدولة إلى جدار الصد وحزام الأمان الذي لا بد منه لضمان حرية الاعتقاد، وعدم تمكين الكنيسة من ممارسة القمع الديني، وضمان التزامها بدورها الدعوي فقط، والرقابة على عدم انزياحها عنه إلى أي شأن دنيوي على الإطلاق.

وقد توافق السرد التنظيري لفكرة العلمانية بشكلها الجنيني مع حدود الدول الكولونيالية الأوربية وخاصة في بريطانيا وهولندا وفرنسا، وتدفق عوائد استعمارها واستغلالها الوحشي لموارد وحيوات البشر في المستعمرات التي حلت عليها، مما أدى إلى تعاظم قيمة ودور الدولة التي تمكنت عبر قدراتها المادية المتزايدة بشكل مضطرد من تعزيز قبضتها على المجتمع، وهو  ما انعكس بتناقص حاجتها للكنيسة لترويض مواطنيها وترهيبهم بسياط التكفير والمحارق واتهامات الهرطقة والشعوذة ومآلاتها مشخصة بالإفناء الجسدي، وتراجع اعتمادها على نفس تلك الكنيسة لأجل منح ملوك تلك الدول الشرعية الربوبية التي يحتاجونها، باعتبارها إرادة المقدس في السماء، إذ أن تعاظم ثروة أولئك الملوك مكنهم من تعزيز هيكل الدولة البيروقراطي وخاصة العسكري الذي أصبح مكتفياً بذاته لضمان الهيمنة على المجتمع.

وعلى المستوى الاجتماعي فإن ازدياد ثروة المجتمعات الأوربية عموماً على حساب شعوب المستعمرات المنهوبين المظلومين، أدى إلى تعاظم القدرات الاقتصادية للطبقات الوسطى في تلك المجتمعات كمياً وكيفياً، وهو ما أدى بشكل عفوي لدى تلك الطبقات الصاعدة من قعر الصراع اليومي لأجل البقاء على قيد الحياة لحيز من الوفرة المادية إلى دفع الكثير من أعضاء تلك الطبقات إلى التفكر سراً أو جهراً بمدى أحقية الكنيسة في السيطرة على الرهط الأكبر من مصادر الثروة في تلك المجتمعات، وخاصة الأراضي الزراعية الشاسعة التي تمتلكها وتسيطر عليها وعلى من يعمل بها، ومن ناحية أخرى أفسحت تلك البحبوحة المادية الفرصة للكثير من أفراد تلك المجتمعات لتخصيص قسط من وقتهم لأجل للتفكير والإبداع التنظيري، وهو ما كان المقدمة الصعود ما يدعى بفكر «عصر الأنوار» والذي يدعى باللغة الإنجليزية Age of Enlightenment، والذي كان نمط الفكر الصاعد في أوربا عموماً منذ أواخر القرن السابع عشر وعلى امتداد القرن الثامن عشر، والذي أخذ بتعريف نفسه بأنه فكر تنظيري مؤسس بالاستناد إلى المعارف العلمية التجريبية وليس إلى عقائد جامدة سواءً كانت دينية أو غيرها، ويؤسس على أرضيته المعرفية تلك لإعادة صياغة مفهوم العلمانية بشكل أكثر نضجاً من الناحية النظرية والسياسية يعتبر أن شرعية أي سلطة لا تنبع من مباركة ذلك المقدس في السماء أو موافقة وكلائه الكنسيين، وإنما من موافقة وقبول أولئك الذين يخضعون لحكم تلك السلطة.

وقد يكون فكر المجموعة التي أطلق عليها اسم جماعة الفلاسفة، أو باللغة الفرنسية Les Philosophes أو باللغة الإنجليزية The Philosophers المثال النموذجي الأكثر نصاعة عن النهوض المضطرد لفكر عصر الأنوار، والذي تمظهر في فرنسا من خلال فكر مونتسكيو الذي أشار في كتابه «روح القوانين» الصادر في العام 1748 إلى أن الأديان يجب ألا تؤخذ على أنها مصدر التشريع في الدولة أو أس شرعيتها، بالإضافة إلى ضرورة ضمان الدولة «لحرية الاعتقاد الديني» والذي كان موضع تركيز فولتير في فرنسا، وديفيد هيوم وآدم سميث في اسكتلندا.

وقد يكون تعبير رائد جماعة الفلاسفة المفكر دنيس ديدرو مؤلف العمل الموسوعي الأول باللغات الأوروبية الذي دعاه الموسوعة Encyclopedia، والذي أشار فيه إلى أن «رفاه الشعب لا بد أن يكون الهدف الأول لأي حكومة، وأول رفاهية للشعب هي الحرية» أكثر التوصيفات في قدرتها الاختزالية لذلك الوعي الناهض لاعتبار خير المحكومين ورفاهيتهم وحريتهم الواجب الأول لأي سلطة، إذ أن أولئك الذي تحرص على رعايتهم وتحقيق رفاهيتهم هو مصدر شرعيتها الأوحد.

وهو التوصيف الذي أخذ عند جان جاك روسو في كتابه المهم «العقد الاجتماعي» الصادر في العام 1762، بعداً جديداً باعتباره أن «العدالة الاجتماعية تقتضي احترام حرية الاعتقاد والتعددية العقائدية»، وأن عدم تحقق حرية الاعتقاد في المجتمع يعني بطلان العقد الاجتماعي بين المواطنين فيما بينهم والسلطة التي ينتخبونها لعدم توافر الأرضية التي لا بد منها لأجل حماية ذلك العقد الاجتماعي من التآكل والتهاوي جراء الصدوع والشروخ الاجتماعية التي يجلبها غياب حرية الاعتقاد في المجتمع.

وعلى الرغم من عدم تطابق نهج مقاربة مفكري عصر الأنوار لمفهوم العلمانية أو الدنيوية الناشئ، فإن إجماعهم تركز حول اعتبار مصدر الشرعية لأي سلطة حاكمة هو موافقة ورضا وقبول المواطنين بها، وأن الواجب الأول والأساسي لتلك السلطة هو ضمان الحريات في المجتمع الذي تتحكم بمقاديره، وأول تلك الحريات المقدسة هو حرية الاعتقاد.

ثالثاً: العلمانية الإلحادية وصعود الرأسمالية الصناعية الإمبريالية

قد يكون خطاب الألماني هينرش هاين الذي استقاه منه الفيلسوف الألماني فردريك نيتشه في كتابه الصادر في العام 1882 والمعنون بـ «العلم البهيج» أو باللغة الإنجليزية «The Gay Science»، والذي تركز حول مقولة: «إن الرب قد مات»، وهي مقولة تم تأويلها وتحميلها في بعض الأحيان حمولة معرفية أكثر مما كان صاحبها يفكر بتحميلها، وهي المقولة التي تلاقت مع ذلك الزخم الذي اكتسبته الرأسمالية الصناعية الإمبريالية المستندة إلى قدرات المحرك البخاري والثورة الصناعية المستندة إلى تكشف القيمة المضافة للمكننة الصناعية بقوة حرق الوقود الأحفوري، والثروات الهائلة التي راكمتها عن امتداد قرنين من النهب الوحشي المنفلت من كل عقال لثروات العالم الجديد، وحيوات وأرواح المظلومين المنهوبين المستعبدين في دول المستعمرات، حتى خيل للإنسان بصورته الإمبريالية الجديدة بأنه القادر على الحلول مكان «الخالق الآفل»، وتخليق كل ما يصبو إليه في الطبيعة عبر تطويعها واستبعادها بالشكل الذي استعبدت فيه الرأسمالية الملايين من البشر المظلومين، وكانوا عماد نهضتها الصناعية في صناعة السكر والتبغ والقطن التي كانت تمثل عصب الإنتاج العالمي آنذاك، وبحيث يصبح ذلك «الإنسان الإمبريالي» سيد الطبيعة وخالق شروط حياته بيده بعد أن كان قبل ذلك خاضعاً لشروط تلك الطبيعة ومضطراً للتكيف معها كشرط لا بد منه للبقاء على قيد الحياة.

وتلك النظرة الإلحادية لعلاقة الإنسان مع الطبيعة، أخذت بعداً آخر في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، التي أظهرت بجلاء قدرة الإنسان على تقمص كل أشكال وتلاوين آلهة الموت والعالم السفلي في الأساطير الآبدة، وإعادة إنتاجها عبر القوة الماحقة التي لا تبقي ولا تذر ممثلة «بالغول النووي» الذي أفصح عن وجهه القبيح المرعب في القنبلتين اللتين ألقاهما الأمريكان على هيروشيما وناجازاكي في العام 1945، كمقدمة لذلك الوعي الشمقي للإنسان بقدرته الهائلة على خلق المستحيل، وإن كان على شاكلة الموت الزؤام، والذي تمظهر بشكل جديد من العلمانية الازدرائية لكل ما قد يعاند الخضوع لذلك الوعي الطوفاني بقدرة البشر على تخليق شروط حياتهم بإرادتهم الخالصة، عبر تطويع الطبيعة حتى لو كان من خلال تدميرها، أو فغر بطنها لاستخراج البقايا المتفسخة من الكائنات الحية البائدة في سالف العصر والأوان على شكل وقود أحفوري، ومن ثم حرقها لتوليد الطاقة التي كانت بمثابة شعر شمشون الإمبريالي الذي لم يتوقف عند حد التغول على الطبيعة، وإنما تعدى ذلك لإعادة نظم المجتمعات وحيوات البشر كلهم في أرجاء الأرضين عبر فراخه من غيلان العولمة،  لإعادة تعريف كينونة الإنسان المعاصر بكونه «جزيرة معزولة» في محيط هو غابة داروينية لا يعلو فيها صوت أو إرادة فوق إرادة «الفاتك الجسور»، إذ لا سبيل لارتقاء الفرد في تلك الغابة سوى بالفتك أكثر بأقرانه باستقالة مطلقة من كل النظم والمعايير الأخلاقية التي لا تباع وتشترى في منظومة اقتصاد السوق الوحشي، واعتبارهم مطية عابرة للوصول إلى قمة الهرم التنافسي، والذي يقتضي منه دائماً الاستعداد الدائم لمواجهة كاسر بشري آخر يتربص ضعفه على حين غيره، ليحل محله بعد الفتك به، وهو ما يقود إلى حالة من القلق السرمدي الراسخ في عقول بني البشر تقتضي من كل منهم التحول وفق قوانين المجتمع الغابة على الطريقة العولمية إلى «ذئب بشري» ينام مغلقة عيناً وفاتحاً أخرى بانتظار المعركة الوجودية القادمة التي لا بد أنها متلطية وراء الباب بانتظار الإفصاح عن وجهها الدميم.


وذلك الواقع المزري من تلك العلمانية الازدرائية المعولمة ونموذج المجتمع المتماشي معها في العالم الغربي كان المنبع الأول لجوائح أمراض القلق والاكتئاب تحت الحاد المزمن بأشكالها الصريحة والمقنعة سريرياً، حتى أصبح من الطبيعي أن يعاني أكثر من ربع الشعب في دولة متقدمة مثل بريطانيا من مرض الاكتئاب من ضمنهم أطفال في المرحلة الابتدائية، وأن يعاني حوالي 10% من عموم المواطنين البريطانيين من اضطرابات القلق المعمم التي تعتبر مرضاً مقعداً لا يقل في خطورته وعقابيله على المريض عن الاحتشاءات القلبية والدماغية، لارتباط الإصابة به، وخاصة أن ترافقت مع أعراض اكتئابية بمخاطر الركون إلى الحل السلبي المطلق الأخير، وأعني هنا الانتحار.

وذلك الواقع الاجتماعي المريض حتى نقي العظم فيه يشي بحالة عميقة من الخواء الروحي على المستوى الاجتماعي وفقدان بوصلة التوجه الإنساني تجاه معنى من وجود الإنسان في حياته وأهدافاً واضحة المعالم يسعى لتحقيقها خلال وجوده العابر ككائن بيولوجي حي على وجه البسيطة، جراء تعملق مفاعيل طوطمات العلمانية الازدرائية وفق نموذجها العولمي التي تدخل الإنسان في عجلة التسليع الكونية لاقتصاد السوق الوحشي التي لا تبقي ولا تذر، والتي ليس فيها موضع لتحقق ميول الإنسان الفطرية للتعاون والتعاضد والتراحم والتعاطف مع الآخرين، وهي الميول الفطرية المتبناة عضوياً في عمق بنيان وتشريح دارات أدمغة كل بني البشر، والتي لولاها لما تمكن الجنس البشري من البقاء على وجه البسيطة وعدم الانقراض خلال مرحلة تطوره الطويلة التي امتدت على سبعة ملايين من السنين قضى أكثر من 99.99% منها في ظروف حياة الجمع والصيد، مواجهاً قسوة وعسف الطبيعة ومنعرجاتها خاصة خلال العصر الجليدي الأخير كما أشرنا إليه آنفاً.

وتبرز العلمانية الإلحادية هنا بكونها نموذجاً من الاصطفاف القَبَلي على شكل قبيلة من أولئك المتبنين لذلك النموذج من العلمانية الازدرائية منهجاً لهم في علاقتهم مع العالم المحيط بهم أفراداً وبيئة، وبحيث يصبح الوعي القبلي الناجم عن تعريف الذات بانتمائها إلى تلك القبيلة راية لا بد من إعلائها دائماً والتفاخر بها لإخفاء عيوبها البنيوية كنسق وعي ومنهج في مقاربة الحياة ينطوي في مكوناته على الكثير من عناصر الصلف والعنهجية والفوقية والإقصائية، وحتى في بعض الأحيان العنصرية المتسربة من أس ذلك الوعي النابع من استمراء نهج الرأسمالية الوحشية المعولمة في تعاملها مع البشر كبراغٍ وعَزَقَاتٍ لا خيار لها إلا في قبول استهلاكها واستبدالها حيث انقضاء حاجة ماكينة تلك الرأسمالية بها، واعتبار سدرة المنتهى لكل  منها خلال فترة الخدمة تلك التقاط الفتات الآنية العابرة من «البهجة والمتعة» الناجمة من التفوق العلمي للإنسان في ترديد ببغائي قاصر لخطاب نيتشه «بموت الإله» السالف الذكر.

ويضاف إلى النسق التوصيفي الأخير عنصر تكويني مهم في نسق العلمانية الإلحادية الازدرائية يتمثل في التسليم الضمني للمنتسبين قبلياً إلى مذهبها بخوائها الروحي وعدم قدرتها على تلبية الاحتياجات الوظيفية التي يقوم بها الوعي الديني بأشكاله المختلفة التي استنبطها ورسم حدودها الإنسان بشكل يتفق مع حاجته العضوية لضمان توازنه العقلي والوجداني، كما أشرنا إليه آنفاً، وهو الذي تم ويتم التعبير عنه بالمناكدة على طريقة الأطفال أحياناً بالمبالغة في إعلانها وتصريحها الذي لا ينقطع «باحتقارها» لكل أشكال وتلاوين الوعي الديني، واستخفافها «بعقول» أولئك البدائيين «المتخلفين عقلياً» من قبيلة «أتباع الوعي الديني»، والمبالغة أحياناً على شاكلة المرتعد الفرائص من الظلمة حين ولوجه إلى كهف مظلم، فلا يتوقف عن تسكين هلعه بشتمه وسبه للظلام الذي يرتعب منه؛ وهو في حالة العلمانية الإلحادية خوف المعتقدين بها من مواجهة السؤال الذي لا بد منه والذي فحواه إن كان الوعي الديني من منظار علماني هو من تخليق بني البشر أنفسهم، فهو لا بد أنه قد تم استنباطه لحاجة عضوية عند بني البشر، وهو ما لا بد للعلمانية الإلحادية «المنزهة» عن الخطل والزلل بقدراتها العلمية الفائقة أن تكون قادرة على تلبية تلك الحاجة العضوية لدى بني البشر إن قاموا بتبني منظارها التكاملي للوجود الإنساني سواء على النهج الفلسفي للألماني نيتشه، أو مارتن هايدجر النازي، أو حتى تفتقات فرويد النفسية التي لا سند لها في فيزيولوجيا الدماغ البشري، والتي تحول الإنسان في أحسن الأحوال إلى محض «كائن جنسي» أقرب للسحالي منه إلى الإنسان، والقياس على ذلك ممكن في كل التنظيرات والتفتقات الفلسفية التي تحاول إخفاء عوار العلمانية الإلحادية عبر محاولة تزويقها بلبوس شكلي يظهرها على أنها منظومة فكرية جامعة مانعة بينما هي تطفر مسخي عن رؤية فكر المنورين في عصر الأنوار ضالته الأولى التعبير عن نفسه بأنه «خاتمة الأفكار»، والابن البار للرأسمالية الإمبريالية الوحشية المعولمة التي هي بنظره أيضاً «نهاية التاريخ» على حد تعبير منظرها فرانسيس فوكوياما، بينما الإجابة الصريحة علمياً من منظار فيزيولوجيا الدماغ هو أن ذلك النسق من العلمانية الإلحادية غير قادر على تلبية الغالبية شبه المطلقة من الوظائف العضوية للوعي الديني في حيوات البشر، وأن الإيغال في محاولة إيهام العقل إرادوياً بعكس ذلك لا يختلف كثيراً عن سلوك النعامة التي أدمنت دفن رأسها في الرمل.

والحقيقة الدامغة هو أن ذلك النموذج التبجحي من العلمانية الإلحادية غير مفيد بالحد الأدنى إن لم يكن مضراً جملة وتفصيلاً على المستوى الاجتماعي الإنساني، فهو من ناحية يزيد طين الشقاق الاجتماعي الذي تعتاش من ديمومته الرأسمالية الوحشية المعولمة، عبر إضعاف كل مكونات المجتمعات كناتج مباشر لعملها الدؤوب لتحويل كل فرد من أفراد تلك المجتمعات إلى «جزيرة استهلاكية معزولة»، وتحويل التكتلات الاجتماعية الأخرى في المجتمع إلى فرق وأحزاب متناحرة فيما بينها سواء مذهبياً أو طائفياً أو فكرياً، كما في حالة الحرب السرمدية الشعواء بين قبيلتي «بني العلمانية الإلحادية» وغرمائهم من «آل الوعي الديني»، وهو ما يؤدي بالمآل الأخير إلى إضعاف قدرات البشر ومجتمعاتهم على النضال الجمعي المستمر الذي دونه يستحيل ترقية مستوى حياة الأفراد المتشاركين في أي من تلك المجتمعات مادياً ومعنوياً وروحياً، عبر تأمين احتياجاتهم الأساسية في قوتهم ومشربهم ومسكنهم، ومتطلباتهم المعنوية الجوهرية في إيجاد معنى وهدف من حيواتهم، وفرصة للإبداع والاجتهاد لتحقيق وإدراك ذلك الهدف.

وهو النضال الذي لا بد أن يرتقي في واقعنا المعاصر إلى مرحلة استثنائية من التنسيق والتعاضد والتعاون بين كل أبناء بني البشر لتفادي الكارثة البيئية المحدقة بكوكب الأرض، والتي تنتظر أوان حلولها خلال بضع سنين بالحد الأقصى إن لم يتحرك كل بنو البشر في جهد جمعي لا يعرف لوناً أو عرقاً أو مذهباً أو طائفة أو عقيدة أو انتماء فكرياً أو حزبياً، لوأد تلك الكارثة التي سوف تحول جل كوكب الأرض خلال قرن من الزمان إلى كوكب لا يمكن للزرع أو الضرع أو السمك العيش فيه، عدا عن البشر الذين سوف يتحول معظمهم إلى لاجئين دائمين هاربين من عسف كارثة بيئية بانتظار حلول أخرى، أعاصيراً، أو تصحراً، أو فيضانات، أو مجاعات سوف تصبح الواقع الاعتيادي لكل حيوات بني البشر في قابل الأيام، إن لم يترفعوا على عجل عن نهج قبيلتي عبس وذبيان في حربهما المزمنة التي امتدت على أربعة عقود في خلاف على الأحقية المطلقة لداحس في التربع على عرش البطولة والفروسية على الغبراء المخاتلة وأوليائها من «الأرذال» الذين لا بد من تقويمهم بالسيف والثبور وعظائم الأمور.

رابعاً: من العلمانية الإلحادية إلى العقلانية الدنيوية

تبرز العلمانية العقلانية أو بالاتكاء على نهج التعريب المجادل به في المقدمة آنفاً العقلانية الدنيوية بمثابة محاولة مبسطة لنزع الشواه المعرفي والتطبيقي عن فكر العلمانية بالشكل الذي أفصح عن نفسه به في مرحلة عصر الأنوار في أوربا في أواخر القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر في أوربا، وتخليصه مما لحق به من تحميل وتأويل وإعادة صياغة أفرغته في الكثير من الأحيان من بنيانه الأصلي إبان صعود الرأسمالية بأشكالها الإمبريالية ومن ثم العولمية المتوحشة، ومحاولة البناء على ذلك الأساس المعرفي الذي رسخه المنورون الأوائل من قبيل جون لوك، ومونتسكيو، وديدرو، وفولتير، وآدم سميث، وروسو وغيرهم من المفكرين المتنورين الذين سروا على نهجهم لاحقاً، لإعادة تعريف العلمانية بشكل أكثر استنارة وعقلانية ورشاداً وانفتاحاً يرتكز على المبادئ الأساسية التي مثلت جوهر اتفاق المنورين الأوائل الذي تمحور حول النقاط الثلاثة التالية:

أ. الوعي الديني بكل أشكاله وتلاوينه ليس مصدراً للتشريع وتنظيم علاقات البشر فيما بينهم.


ب. العقد الاجتماعي الذي لا بد أن ينظم علاقة البشر فيما بينهم وبين السلطة التي تمتد شرعيتها فقط من موافقة من يقومون بتفويضها للقيام بتلك المهمة ودون أن يكون لذلك المقدس في السماء دور في ذلك؛ لا بد أن يستند إلى قوانين وضعية من استنباط بني البشر يقومون بتطويرها وتحويرها دائماً بشكل يتناسب مع احتياجاتهم الاجتماعية المتجددة والمتغيرة حسب كل عصر بعينه.


ج. الاعتقاد الديني شأن شخصي لا ضرار فيه على الأفراد الآخرين، ولذلك لا بد من أن يكون حقاً مكفولاً بقوة العقد الاجتماعي، ينظر إلى حرية الاعتقاد بكونها من الحريات الأساسية التي لا يمكن أن يستقيم أي مجتمع متحضر دونها، والتي لا بد أن تنطوي دائماً على احترام مطلق لحرية الاعتقاد والتعبير والتفكير.


ويعبر نهج العقلانية في نموذج الدنيوية/ العلمانية ذلك عن نفسه من خلال الاتكاء على الرشاد والاستنارة والتعقل في العمل الدؤوب لإعادة إحياء المجتمع المدني وبناه الجنينية وتلك الهاجعة أو المنفية أو السرية منها، ودفعها إلى النور لأجل إفساح الفرصة للإنسان للانخراط بها، والتفاعل معها لتكشف واستنهاض طاقاته الإبداعية والروحية والإنسانية بحيث تصبح تلك العقلانية الدنيوية مدخله لتلبية احتياجاته العضوية والبيولوجية والدماغية والعقلية والإدراكية التي ظل الوعي الديني يلبيها على امتداد رحلة تطور بني البشر الطويلة، وبحيث تصبح العقلانية المدخل لإغناء الدنيوية/ العلمانية بشكل تدريجي تراكمي، وتحويلها للمدخل الذي لا بد منه لأجل رسم ملامح الجهود التي لا بد من القيام بها لأجل ترقية مستوى حيوات البشر في مجتمعاتهم وتلبية حاجاتهم المعنوية والروحية والعقلية بالتوازي مع تلك الأساسية التي لا بد أن تتمحور في زماننا الرديء على حماية الجنس البشري من الانقراض.



الأوان-مصعب قاسم عزاوي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...