حركة السياسات الكسيحة

الجمل ـ سعاد جروس : حين ولدت فكرة «حركة عدم الانحياز» في قمة باندونغ 1955 بجهود ثلاثة من أهم زعماء التحرر في العالم الثالث, جواهر لال نهرو, وجمال عبد الناصر, وجوزيف بروز تيتو, كان عدم الانحياز ضرورة فرضتها الجغرافية السياسية في عالم تقاسمه المعسكران الاشتراكي «الاتحاد السوفياتي والرأسمالي» الغرب واميركا, وأيضاً وهو الأهم استقلالاً طازجاً ومذاقاً فريداً للحرية في فترة الوهج التحرري وأمل النهوض.
عدم الانحياز مثل حاجة للحفاظ على السيادة, واتخاذ القرار, وحماية الإنسان, من نزاع معسكرين أحلاهما طامح للاستئثار بالعالم وزرعه بالقواعد العسكرية.
الآن بعد أكثر من خمسين عاماً على حركة عدم الانحياز التي تنضوي تحتها 118 دولة , وحسم النزاع بين المعسكرين, فقدت هذه الحركة مبرر وجودها, وتحولت فعلياً إلى «كلام فارغ لا قيمة له» كما سبق وقال عنها لدى تأسيسها وزير الخارجية الأميركي جون فوستر دالاس. وهذا لا يعني أن كلامه كان صحيحاً في ذلك الوقت وإنما غدا كذلك بعد انهيار المنظومة الاشتراكية واستفراد أميركا بقيادة العالم مع انصياع أوروبي شبه كامل لهذه القيادة, وبالتالي لم يعد هناك إمكانية لعدم انحياز فإما اعتراف ورضوخ للقطب الواحد أو خروج عن الطاعة وتحمل ما يترتب على ذلك من ضرائب باهظة, ولو عدنا الى دول عدم الانحياز التي عقدت اجتماعها الأسبوع الماضي بغياب أكثر من نصف قادة الدول الأعضاء, سنجد أن غالبية تلك الدول والمصنفة في خانة العالم الثالث هي مستهدفة مباشرة بمشاريع التوسع الإمبراطوري الأميركي, والباقي إما حليف لأميركا أو ملحق بذيل حليف, وبالتالي لا يمكن لهذه الدول أن تكون لامنحازة, لأنها «إما مع أو ضد أميركا» حسب التصنيف البوشي الشهير الذي أعلنه بالتناغم مع تبشير أسامة بن لادن بانقسام العالم إلى فسطاطين.
في ظل هذا التقسيم الحاسم والحاد من أين تأتي حركة عدم الانحياز, بعدم الانحياز؟ فقادة التحرر في الخمسينيات رحلوا مع التحرر الذي قادوه, وخلفوا وراءهم قادة يستميتون للبقاء على عروشهم و شعوباً إما تناضل كي لا تحتل ثانية, أو تفاوض حول استعمار ما بعد الجديد بصيغة قوات دولية لحفظ السلام, بعدما تحول النظام السياسي العالمي بفضل العولمة الى شركة مقاولات كبرى تستثمر في بؤر النزاعات, فتبيع عسل الديمقراطية مغلفاً بالصواريخ والقنابل الذكية, لتقبض تدمير البنى التحتية والفوضى والارهاب, وكل مستلزمات استثمارات إعادة الإعمار الموعودة, وليس خافياًَ أن معظم النزاعات والتوتر والفتن في العالم مصدرها واحد ووحيد, وإن تعددت أشكالها ومصادر تغذيتها ما بين محلي خارجي.
مع هذا الواقع يصبح «عدم الانحياز» تحصيل حاصل وكذلك كل المبادئ التي تنتصر لها حركة عدم الانحياز بدءاً من حق الشعوب بالعدالة والمساواة وعدم التمييز ولغاية حقوق الإنسان, فعدا أن الحركة لم تقدم شيئاً يذكر لتلك المبادئ التي تأسست عليها, بل على العكس زادت تخلفاً فوق موروث تخلفها, ووأدت جذوة النهوض التحرري, كما أن الحلول العسكرية التي تقدمها أميركا لفرض السيطرة على العالم و المشفوعة بقرارات دولية أول شيء تشطبه في أجندتها الإنسان و حق الشعوب بتقرير المصير, والمفارقة الفاقعة أنها تحت عباءة نشر الديمقراطية, والاندماج الحضاري تعيد تقسيم العالم الثالث طائفياً وأثنياً وعشائرياً, من أفغانستان الى العراق ودارفور ولبنان والحبل على الجرار.. ليكون من الأجدى لدول حركة عدم الانحياز إعادة النظر في حركتها في الهزيع الأخير من الحياة, وإعادة بعث الروح فيها كـ«حركة للدول المتضررة من أميركا والغرب», دون إغفال جدولة تلك الدول ما بين خانة المتضررة من المواجهة وخانة أخرى للمتضررة من الممالأة.
دول المواجهة تلك التي وضعها بوش في «محور الشر» و مجبرة على دفع ثمن «شرها» فواتير ما قد يمن عليها من عقوبات اقتصادية أو حصار أو عزل دولي أو حتى احتلال عسكري قذر في اسوأ الحالات وفي أحسنها احتلال دولي مغسول بحفظ السلام.
أما دول الممالأة فتلك التي تتجنب العته الأميركي بالمسايرة والانبطاح أمام العاصفة, فتسدد فواتير العمليات الحربية في بقاع العالم المتشرذم, وتخسر احترام شعوبها دون أن تربح الرضا الأميركي, حالها حال من يبصق إلى الأعلى.
فإذا اجتمعت هذه الدول وأسست لحركة جديدة ليس لمناهضة أميركا بل لإجراء مراجعة حقيقية لأسباب بقائها كأنظمة حاكمة طالما هي غير قادرة على حماية سيادتها ورد الموت المجاني عن شعوبها, لعل وعسى أن يكون فيها بعض من دم أو حياء فتستقيل, ونرتاح من حكومات عاجزة عن كل شيء إلا تكبيل الشعوب وتقديمها كبش فداء في محرقة المشروع الأميركي.
لترحل دول «السياسات الكسيحة» والأنظمة اللامنحازة حتى لحقها بالوجود مع المرحلة التي أفرزتها, أو لتحرر الأجيال الطالعة من ربقة دكتاتورياتها, وتتركها لتخوض معركتها من رأسها لرأس أميركا, ولنرى رأس من أصلب, بوش ومحافظيه الجدد وأذنابهم من النخب الانبطاحية, أم شعوب مازال حليب الاستقلال على شفتها.

بالاتفاق مع الكفاح العربي