حوار في العمق: من أجل التقريب الحقيقي بين المسلمين (5-7)
الجمل: سير الصحابة ومناقبهم هو المحور المهم في محاور الصراع المذهبي.. ثمّ كان نشوء العقائد المختلفة، المحور الآخر لهذا الصراع. وقد بلغ الصراع حول هذين المحورين أوجه في مطلع العهد الأُموي، وعلى امتداده...
وتكمن خطورة الأمر في أنّ هذا العهد هو العهد الذي وضعتْ فيه اللبنات الأولى للتدوين، والتي صارت أساساً لما دوِّن من بعد. ولم تكن السياسة آنذاك تَدَع الثقافة تجري بعيداً عن سلطانها، بل بسطت عليها سلطانها كما بسطته على شؤون الإدارة والأجناد.
هذه الأجواء كان لها الأثر المباشر في ولادة وتنشيط حركة الوضع في الحديث، التي رأى عامّة أهل التحقيق أنها قد ظهرت بشكل سافر منذ سنة 41هـ(1) . أي بعد سنة واحدة – أو أقل – من استشهاد الإمام علي (ع) واستيلاء معاوية على الخلافة.
ومن خلال أبعاد ثلاثة مهمّة نتناولها هنا بإيجاز سنُطلّ على حقيقة ذلك ومداه.. هذه الأبعاد هي:1- العقائد. 2 – الفضائل. 3 – مصادر التدوين.
البعد الأوّل: العقائد:
لقد ظهرت في هذا العهد – ومجاراةً للسياسة الأموية – عقيدتان، هما: القول بالجبر، والقول بالإرجاء.
وفي مقابل القول بالجبر ظهرت عقيدة مناقضة تقول بالتفويض، أمّا الإرجاء فكان يقابل قول الخوارج في تكفير مرتكب الكبيرة، فظهر بين القولين القول بالمنزلة بين المنزلتين.
يقول الدكتور سامي النشار: إن انتهاء حكم الخلافة الراشدة، وانتقاله إلى الأُمويين، وتسلّطهم على العباد، وابتعادهم عن تطبيق العدالة الإسلامية، كان مقدّمة منطقية للحركات المضادّة، مّما دفعهم إلى العنف الدموي، فاحتاجوا حينئذٍ إلى تأويل بعض الآيات القرآنية التي يدلّ ظاهرها على الجبر لتسويغ أعمالهم والقول بأن الإرادة الإلهية اقتضت أن يفعلوا ذلك، وأنّهم مجبرون في أعمالهم، أو أنّ تلك الإرادة هي التي قدّرت أن يأتوا إلى الحكم ليفعلوا ما فعلوا. وإنّ دعوة الأمويين لتثبيت دعائم هذه النظرية كانت سبباً مهماً لظهور الاتجاه القدري الذي أنكر الجبر ونادى بحريّة الاختيار الإنساني(2).
وفي لجّة النزاع ظهر كثير من الحديث الموضوع تدعم به كلّ طائفة أقوالها وتهدم به أقوال خصومها، وهذا ظاهر في أدنى مراجعة للأحاديث التي ظهرت فيها أسماء الفرق صريحةً..
- كحديث: (( صنفان من أُمتّي لا يدخلون الجنّة: القدرية، والمرجئة )).
- وحديث: (( القدرية مجوس هذه الأُمّة، فإن مرضوا فلا تعودهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم)).
- وحديث: ((الإيمان بالقَدَر نظام التوحيد)).
- وحديث: ((صنفان من أُمتّي لا يدخلون الجنّة: القدرية والحروريّة)).
- وحديث: ((يظهر في آخر الزمان قوم يسمّون الرافضة، يرفضون الإسلام)).
- وحديث: أنّه (ص) قال لعلي (ع) : ((هذا في الجنّة، وإنّ من شيعته قوماً يُعطَون الإسلام فيلفظونه، لهم نبزٌ، يسمّون الرافضة، من لقيهم فليقتلهم فإنّهم مشركون)).
- وحديث آخر مثل المتقدّم، وفيه زيادة: ((قلت يا رسول الله ما علامة ذلك فيهم؟ قال: يتركون الجماعة ويطعنون على السَلَف الأوّل)).
- وحديث : ((الخوارج كلاب أهل النار)).
وهذه الأحاديث وكثير مثلها عدّها ابن الجوزي وغيره في الموضوعات(3).
وهكذا كان في كلّ فرقة وضّاعون يقذفون خصومهم بمثل هذه الأباطيل.
وقد كان الخوارج أكثر صراحة حين قال قائلهم: كنّا إذا كان لنا هوىً في شيء جعلناه حديثاً.
البعد الثاني : الفضائل :
وهذا البعد قد أولَته الدولة الأُموية اهتمامها منذ البداية، حيث مثّل جزءاً هاماً في سياستها وفق برنامج محكم تمّ عبر مراحل، وقد حفظ لنا التاريخ صورة هذه المراحل عن غير واحد من الأئّمة الثقات، ومنهم: الإمام الباقر (ع)، والمدائني، ونفطويه. وقد عُني المدائني خاصّة بتحديد تلك المراحل، فقال:
كتب معاوية نسخةً واحدة إلى عمّاله عبد عام الجماعة:
((أن برئتِ الذمّة ممّن روى شيئاً في فضل أبي تُراب وأهل بيته)).
هذه هي أُولى مراحل المشروع الجديد.
قال: - وكتب معاوية إلى عمّاله في جميع الآفاق:
((أن لا يُجيزوا لأحد من شيعة عليّ وأهل بيته شهادةً))
وهذه ثاني مراحل المشروع.. فمن كانت هذه حاله فلو حدّث بحديث فحديثه مردود، فكيف تؤخذ أحاديث الرسول (ص) ممّن لا تُقبل شهادته؟!
وهكذا فعلاً رُدّت أحاديث أهل هذه الطائفة، وكُذِّبوا، فلمّا جاء أهل الجرح والتعديل في فترة لاحقة، وقد بلغهم عنهم التكذيب، جعلوهم في عداد الضعفاء والكذّابين والمتروكين، وعلّلوا ذلك بأنّهم كانوا يتشيّعون!
قال: - وكتب إلى عمّاله: ((أن انظروا من قبلَكم من شيعة عثمان ومحبّيه وأهل بيته والذين يروون فضائله ومناقبه فأدنوا مجالسهم وقرّبوهم واكتبوا لي بكلّ ما يروي كلُّ رجل منهم واسمه واسم أبيه وعشيرته)).
قال: ففعلوا ذلك حتّى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه لما يبعثه إليهم معاويه ويفيضه عليهم، وكَثُر ذلك في كلّ مصر، فلبثوا في ذلك حيناً..
قال: ثمّ كتب إلى عمّاله : ((إنّ الحديث في عثمان قد كثُر وفشا في كلّ مصر وفي كلّ وجهٍ وناحية، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأوّلين. ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلا وتأتوني بمناقض له في الصحابة، فإنّ هذا أحبّ إليّ وأقرّ لعيني وأدحض لحجّة أبي تراث وشيعته وأشدّ عليهم من مناقب عثمان وفضائله)).
قال: ((فقرئت كتبه على الناس، فرُويَت أخبارٌ كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها. وجدَّ الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتّى أشادوا بذكر ذلك على المنابر، وأُلقِيَ إلى معلّمي الكتاتيب فعلّموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع حتّى رووه وتعلّموه كما يتعلّمون القرآن، وحتّى علّموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم، فلبثوا في ذلك ما شاء الله.. فظهر حديث كثير موضوع، وبهتان منتشر، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة، والقرّاء المراؤون والمستضعفون الذين يُظهرون الخُشوع والنُسك فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند الأئمّة يُصيبوا به الأموال والضياع والمنازل...حتّى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى الديّانين الذين لا يستحلّون الكذب والبهتان، فقلبوها ورووها وهم يظنّون أنّها حقّ، ولو علموا أنّها باطلة لما رووها ولا تدّينوا بها))(4).
وإلى مثل هذا القول انتهى حديث الإمام الباقر (ع) وهو يصف تلك المرحلة، حيث قال في آخر كلامه: (( حتّى صار الرجل الذي يُذكر بالخير، ولعلّه يكون ورعاً صدوقاً، يُحدّث بأحاديث عظيمة عجيبة من تفضيل بعض من قد سَلَف من الولاة، ولم يخلق الله تعالى شيئاً منها، ولا كانت وقعت، وهو يحسب أنّها حقّ لكثرة من رواها ممّن لم يُعرَف بالكذب ولا بقلّة ورع ))(5).
وإلى نحو هذا انتهى كلام نفطوية حيث يقول: (( إنّ أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة اختُلقت في أيّام بني أميّة تقرّباً إليهم في ما يظنّون أنّهم يُرغمون به أنوف بني هاشم))(6) !!.
تلك إذن كانت مرحلة طويلة وسعي حثيت ثبت فيه حديث كثير...
قال الشيخ محمد حسين الذهبي: (( كان مبدأ ظهور الوضع في الحديث سنة 41هـ، ولكن فُشُوَّ الوضع وتفاقم خطره كان في عصر التابعين ))(7).
ثم جاء اللاحقون من أهل التدوين والجرح والتعديل فاعتمدوا على ما ثبت في ذلك العهد من أحاديث وأخبار مدونة أو مروية يتناقلها الناس ـ وفيهم الثقات وأهل العلم ـ على أنها أحاديث صحيحة، فقبلوها وصححوها وأدخلوها في دواوينهم، فصاروا ينظرون إلى كل ما خالفها على أنه حديث منكر، ومن أكثرَ منه صار عندهم في عداد الوضاعين !!
إنها حقيقة يؤيدها التاريخ بكل جزئياته... وهي الحقيقة التي تنسجم تماماً مع ما سيأتي ذكره حول تدوين التاريخ... وإنها بلا شك حقيقة مرة... ولا بد أن نتجرَّع مرارتها فنحاكم تلك القواعد الخاطئة حتى يتسنى لنا معرفة الغث من السمين، والوقوف على تراثنا الإسلامي في صورته الناصعة.
ومن ناحية أخرى ظهر اتجاه معاكس في الوضع... إنه اتجاه الفرق الغالية...
فقد تعددت الفرق الغالية في ذلك العهد، وظهر معها كم كبير من الحديث الموضوع الذي نسبوا أكثره إلى الأئمة من أهل البيت عليهم السلام، وأكثر حديثهم كان: في فضائل أهل البيت بما يتضمن المغالاة فيهم، وفي مطاعن خصومهم، وفي العقائد المنحرفة التي أتى بها هؤلاء الغلاة.
وفي هذه الميادين جميعاً أكثروا من الحديث الموضوع ونسبوه إلى أهل البيت عليهم السلام.
قال الإمام الصادق (ع) : (( كان المغيرة بن سعيد يتعمد الكذب على أبي، ويأخذ كتب أصحابه، وكان أصحابه المتسترون بأصحاب أبي يأخذون الكتب من أصحاب أبي فيدفعونها إلى المغيرة، فكان يدس فيها الكفر والزندقة ويسندها إلى أبي ثم يدفعها إلى أصحابه ويأمرهم أن يبثوها في الشيعة.. فكل ما كان في كتب أصحاب أبي من الغلو فذاك ما دسه المغيرة بن سعيد في كتبهم ))(8) .
وقال الصادق أيضاً: (( إن المغيره كذب على أبي فسلبه الله الإيمان، وإن قوماً كذبوا عليَّ، ما لهم أذاقهم الله حر الحديد ؟! فو الله ما نحن إلا عبيد الذي خلقنا واصطفانا، ما نقدر على ضر ولا نفع، وإن رحمنا فبرحمته، وإن عذبنا فبذنوبنا، والله ما لنا على الله من حجة، ولا معنا من الله براءة، وإنا لميتون ومقبورون ومنشورون ومبعوثون وموقوفون ومسؤولون، ويلهم، ما لهم، لعنهم الله ! فقد آذوا الله وآذوا رسوله في قبره )) (9).
وفي حديث الإمام الرضا (ع) تفصيل في أهم أصناف الأحاديث الموضوعة، إذ يقول: ((إن مخالفينا وضعوا أخباراً في فضائلنا، وجعلوها على ثلاثة أقسام :
أحدها: الغلو.
وثانيها: التقصير في أمرنا..
وثالثها: التصريح بمثالب أعدائنا )) (10).
وقد يتوهم البعض أن أحاديث الغلاة محصورة في ما يعود إلى إضفاء صفة الربوبية أو النبوة إلى الأئمة، وهذا وَهْمٌ فَنَّده الإمام الصادق (ع) حين قدم لنا أنموذجين من تلك الأحاديث ليس لهما صلة بمفهوم الربوبية أو النبوة، فقال (ع) : (( أما المغيرة فإنه يكذب على أبي، قال: حدثه ( أبي ) أن نساء آل محمد إذا حضن قضين الصلاة! وكذَّبَ والله، عليه لعنة الله، ما كان من ذلك شيء ولا حدّثه.
وأما أبو الخطّاب فكذب علي وقال: إني أمرته ألا يصلي هو وأصحابه المغرب حتى يروا كوكب كذا، يقال له : ( القنداني )، والله إن ذلك لكوكب ما أعرفه )) (11) !!.
فكيف يقال بعد ذلك إن أحاديث الغلاة محصورة في معاني الربوبية والحلول والنبوة ؟
إنه لا بد من وقفة علمية دقيقة على الأسانيد وعلى المتون أيضاً كما هو مألوف عند الفقهاء في أحاديث الأحكام والعبادات، وهذه الضرورة قد عمل بها غير واحد من علماء الإمامية المتقدمين :
سئل يونس بن عبد الرحمن فقيل له : يا أبا محمد، ما أشدَّك في الحديث وأكثر إنكارك لما يرويه أصحابنا، فما الذي يحملك على رد الأحاديث ؟
فقال : حدثني هشام بن الحكم أنه سمع أبا عبد الله (ع) يقول :
(( لا تقبلوا عنا حديثاً إلا ما وافق القرآن والسنة، أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدمة، فإن المغيرة بن سعيد لعنه الله دس في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يُحدِّث بها أبي ، فاتقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربنا تعالى وسنة نبينا (ص) . )).
وقال يونس بن عبد الرحمن : ((وافيتُ العراق فوجدت بها قطعة من أصحاب أبي جعفر (ع) ووجدت أصحاب أبي عبد الله (ع) متوافرين، فسمعت منهم وأخذت كتبهم فعرضتها بعدُ على أبي الحسن الرضا (ع) فأنكر منها أحاديث كثيرة أن تكون من أحاديث أبي عبد الله (ع)، وقال (ع): (( إن أبا الخطاب كذب على أبي عبد الله (ع)، لعن الله أبا الخطاب، وكذلك أصحاب أبي الخطاب يدسون هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبد الله (ع)، فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن...)) (12).
وإن نظرة واحدة في كتاب ( تصحيح الاعتقاد ) للشيخ المفيد (413هـ) تفي في وضع النقاط على الحروف. فعنوان الكتاب لوحده شهادة صريحة بضرورة التصحيح.
وفي قراءة واعية لهذا الكتاب ( تصحيح الاعتقاد ) تَقدّم بها العلامة السيد محمد حسين فضل الله، جاءت الصورة أكثر وضوحاً وبسطاً:
قال السيد فضل الله : (( قد تكون قيمة هذا الكتاب ( تصحيح الاعتقاد ) في عنوانه، باعتبار أنه يثير أمامنا مسألة مهمة: وهي أن كتب الاعتقاد المؤلفة من قبل علماء المسلمين الشيعة لا تمثل الفكرة النهائية الحاسمة في اعتقادات الشيعة، لأنها انطلقت من اجتهادات هؤلاء العلماء في فهم القواعد والنصوص التي يحفل بها التراث الشيعي....
وفي ضوء ذلك قد نحتاج في كل مرحلة من مراحل نمونا الفكري أن نضع تراثنا العقيدي الاجتهادي في نطاق البحث والمناقشة، فقد نكتشف خطأ في اجتهاد، وانحرافاً في تصور، وضعفاً في حديث، يُؤدّي إلى تصحيح بعض ما أخذ الناس به من عقائد )).
وبعد أن مضى في البرهان على ذلك بنماذج حية انتخبها من التراث، أكد ضرورة التصحيح بهذه الملاحظة الهامة، فقال: « لاسيما مع الفوضى التي أحاطت بالأحاديث الواردة عن الأئمة عليهم السلام من وضاع الحديث الذين كانوا لا يكتفون بنقل الأحاديث الموضوعة بشكل مباشر، بل كانوا يدسونها في كتب أصحاب الأئمة الموثوقين ـ كزرارة ومحمد بن مسلم وأمثالهما ـ ليدخل الحديث الموضوع إلى الذهنية الإسلامية العامة من خلال هؤلاء الثقات الذين لا يدخل الريب إلى ما ينقلونه عن الأئمة انطلاقاً من وثاقتهم.
الأمر الذي يفرض الكثير من التوقف عند هذا اللون من الحديث المتصل بتفاصيل العقيدة، سواءً من ناحية ما يحيط بالسند من علامات استفهام متنوعة، أو ما يوحي به المتن من التساؤلات )) (13).
وهكذا كثر هذا النوع من الحديث وانتقل إلى كتب الشيعة...
ولا يكفي في مواجهته كون الرواة من الغلاة مذكورين في كتب الرجال، فهذا قدر لا ينتفع به إلا أهل التحقيق الذين تجردوا من كل هوى؛ وهم الندرة دائماً في كل عصرٍ ومصر..
وأمام هذين الاتجاهين من الوضع تبدو المسألة أكثر يُسراً، حين كانت كتب الرجال قد عَرَّفت النواصب والغلاة....
وحين كان النواصب بحكم المنافقين على ما في الحديث الصحيح (( لا يبغضك إلا منافق)).. والغلاة بحكم الكفار لسوء معتقدهم... ولا خلاف في أن المنافقين والكفار معاً لا يؤتمنون على هذا الدين، فلو ابتدأ المشروع التصحيحي بطرح أحاديث النواصب والغلاة من تراثنا الإسلامي وبكل حزم، وبعيداً عن التساهل، لقطعنا شوطاً عظيماً على الصعيدين معاً: صعيد التقريب، وصعيد التصحيح.
يقول السيد فضل الله: (( إننا نعتقد أن حركة الاجتهاد الشيعي لا بد أن تواجه مسألة التفاصيل العقيدية بنفس القوة والدرجة التي واجهت بها مسألة التفاصيل الشرعية في فروع الأحكام ))(14).
ويرى الإمام عبد الحسين شرف الدين : « أن السُنَّة منهاج الإسلام، ودستور الحياة اللاحب في كل ما يجب أن تُصاغ الحياة على مثاله في الأخلاق والعقائد والاجتماع والعلم والآداب، فلا يصحّ في منطقٍ أن نسكت عن هذا الدَخَل الشائن لجوهر الإسلام وروحه الرفيعة المنادية بالتحرر والانعتاق من كبول العقائد السخيفة والخرافات التي يسبق إلى الذهن استنكارها... وإذن فالواجب تطهير الصحاح والمسانيد من كل ما لا يحتمله العقل ))(15).
البعد الثالث : مصادر التدوين :
النظرة إلى مصادر التدوين تكشف كثيراً من الغبار المثار بوجه الحقيقة..
وبكل سرعةٍ وإيجاز، فحين أوعز إلى ابن جريح وأبي بكر بن حزم بجمع الحديث النبوي، كان بينهما محمد الباقر وزيد ابنا علي بن الحسين (ع)، فكان الأولان هما المعنيان بذلك فقط مع أنهما لم يكونا أكثر علماً وأمانةً من الآخرين !!. وحين أوعز إلى الزهري أن يُدّون الحديث والسيرة، كان محمد الباقر وأخوه زيد وابنه جعفر بن محمد أحياءً علماء أمناء، ولم يكن الزهري بأكثر منهم علماً ولا أمانةً على هذا الدين!.
وحين أوعز إلى مالك بن أنس أن يكتب الحديث والفقه ليُعمَّم على بلاد المسلمين، كان في تلك السنين موسى بن جعفر قد غُيّب في السجن فلا يصل إليه أحد يسمع منه حديثاً وينقل عنه علماً، وأمضى على هذه الحال أربع عشرة سنةً حتى توفي في سجنه. إن هذه الحقائق وحدها لتكفي في الدعوة إلى التفكير الجاد في محاكمة مصادر ثقافتنا....
لقد جاء ابن حزم وغيره ليقولوا إنه لم يصح عن علي (ع) سوى خمسمئة حديث وبضعة أحاديث!...إنهم نظروا إلى ما أخرجه أصحاب السنن عند أهلٍ السنة وحدهم. إنه ليس من الإنصاف أن نضرب بالكامل على كل ما رواه محمد الباقر وزيد بن علي مسنداً إلى علي (ع). وأما الصدود عنه ـ تحت أي ذريعة كانت ـ فإنما هو صدود عن قسم كبير من السنة الصحيحة والعلم الحق... وإن هذا الصدود قد خلف بلا أدنى شك باطلاً كثيراً حل محل ذلك الحق المضاع !.
إن فراغ التصنيف ـ على أيدي المتقدمين ـ في السُنن والعِلل ونحوها، لا يعني بالضرورة امتناع المراجعة والنظر، خصوصاً مع وجود مثل هذه الثغرات الكبيرة التي لا يمكن أن يُستهان بشيء منها.
لقد تَنبّه إلى هذه الحقيقة بعض المحققين، وتكلم في تفسيرها غير واحد وسننقل هنا ما قاله الشيخ أبو زهرة بنصه. قال : (( إنه يجب علينا أن نقرر هنا أن فقه علي وفتاويه وأقضيته لم تُروَ في كتب السُنّة بالقدر الذي يتفق مع مدّة خلافته، ولا مع المدة التي كان منصرفاً فيها إلى الدرس والإفتاء في مدة الراشدين قبله.. وقد كانت حياته كلها للفقه وعلم الدين.. وكان أكثر الصحابة اتصالاً برسول الله (ص)، فقد رافق الرسول وهو صبي قبل أن يبعث (ع) ، واستمر معه إلى أن قبض الله تعالى رسوله إليه، ولذا كان يجب أن يذكر له في كتب الُسنّة، أضعاف ما هو مذكور فيها.
وإذا كان لنا أن نتعرّف السبب الذي من أجله اختفى عن جمهور المسلمين بعض مرويات عليّ وفقهه، فإنا نقول: إنه لا بد أن يكون للحكم الأموي أمر في اختفاء كثير من أثار علي في القضاء والإفتاء، لأنه ليس من المعقول أن يلعنوا علياً فوق المنابر، وأن يتركوا العلماء يتحدثون بعلمه وينقلون فتاويه وأقواله للناس، وخصوصاً ما كان يتصل منه بأساس الحكم الإسلامي.. والعراق الذي عاش فيه علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه، وفيه انبثق علمه، كان يحكمه في صدر الدولة الأموية ووسطها حكام غلاظ شداد، لا يمكن أن يتركوا آراء علي تسري في وسط الجماهير الإسلامية، وهم الذين يخلقون الريب والشكوك حوله، حتى إنهم يتخذون من تكنية النبي (ص) له (( بأبي تراب )) ذريعةً لتنقيصه، وهو رضي الله عنه كان يطرب لهذه الكنية ويستريح لسماعها لأن النبي (ص) قالها في محبة، كمودة الوالد لولده.
ولكن هل كان اختفاء أكثر آراء علي رضي الله عنه وعدم شهرتها بين جماهير المسلمين سبيلاً لاندثارها وذهابها في لجة التاريخ إلى حيث لا يعلم بها أحد؟
إن علياً رضي الله عنه قد استشهد، وقد ترك وراءه من ذريته أبراراً أطهاراً كانوا أئمة في عِلْمِ الإسلام، وكانوا ممن يُقتَدى بهم، ترك ولديه من فاطمة: الحسن والحسين، وترك رُوّاد الفكر محمد بن الحنفية، فأودعهم رضي الله عنه ذلك العلم، وقد قال ابن عباس: إنه ما انتفع بكلام بعد كلام رسول الله (ص) كما انتفع بكلام علي بن أبي طالب (ع).
لقد قام أولئك الأبناء بالمحافظة على تراث أبيهم الفكري، وهو إمام الهدى، فحفظوه من الضياع، وقد انتقل معهم إلى المدينة لما انتقلوا إليها بعد استشهاده رضي الله عنه.
قال : وبذلك ننتهي إلى أن البيت العلوي فيه علم الرواية كاملة عن علي رضي الله عنه، رووا عنه ما رواه عن الرسول كاملاً أو قريباً من الكمال، ورووا عنه فتاويه كاملة، وفقهه كاملاً أو قريباً من الكمال، واستكنوا بهذا العلم المشرق في كن من البيت الكريم )) (16).
الهوامش:
(1) د. محمد حسين الذهبي / الإسرائيليات في التفسير والحديث : 27.
(2) انظر : نشأة الفكر الفلسفي 1: 314-327، تطور تفسير القرآن: 101.
(3) راجع : العلل المتناهية 1: 152-169، اللآلئ المصنوعة 1: 258-261.
(4) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 11: 44-46 عن كتاب الأحداث للمدائني.
(5) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 11: 44.
(6) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 11: 46 عن تاريخ نفطويه.
(7) الإسرائيليات في التفسير والحديث : 27.
(8) رجال الكشي ح /401 ترجمة المغيرة بن سعيد.
(9) رجال الكشي ح /409.
(10) عيون أخبار الرضا – باب 28-ح/63.
(11) اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي) – ترجمة المغيرة بن سعيد – 2 ح/407.
(12) اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي) – ترجمة المغيرة بن سعيد – 2 ح /401.
(13) مجلة الفكر الجديد الصادرة عن دار الإسلام للدراسات والنشر – لندن – العدد 9- ص 6-8.
(14) المصدر نفسه : 9.
(15) أبو هريرة / للسيد شرف الدين : 6-7.
(16) محمد أبو زهرة / الإمام الصادق : 162-163.
صائب عبد الحميد
الجمل
إضافة تعليق جديد