خليل صويلح يكتب الجنس كفضيحة ذكورية..
»زهور وسارة وناريمان«، عنوان الرواية الرابعة للكاتب السوري خليل صويلح (صادرة حديثا عن دار الآداب في بيروت) حيث يرسم عبر »سيرة« مخرج سينمائي يحاول أن يصور فيلما، لوحة من مكان اجتماعي بكل تناقضاته وتشعباته. حول الرواية هذا اللقاء.
ذات يوم، قررت مغادرة الشعر (أعتقد ذلك)، بعد أن كتبت ونشرت عدة دوواين، لتدخل إلى العالم الروائي. لمَ هذا الانتقال؟ هل أن الشعر مثلا لم يعد يعطيك غزارة في العبارة والتعبير؟ ماذا تعني لك هذه الحركة الانتقالية؟
﴿ لست نادماً على أي حال، على مغادرة الشعر. في لحظة ما، أحسست أن مزاجي الكتابي ليس شعرياً تماماُ، وأنني أدور في مساحة ضيّقة، فجربت أن أكتب نصاً سردياً في معنى الحب. كنت غارقاً في قراءة نصوص الحب العربية القديمة. ابن حزم على نحوٍ خاص. كان صاحب »طوق الحمامة« يكتب في خفر، وينسب نصوص المكاشفة إلى سواه، ففكرت باقتحام الصندوق الأسود للكتابة الحسيّة العربية، فوجدت فقهاء غارقين إلى لحاهم في الشهوانية. هناك قرون عدة تفصل بين نصوص المكاشفة القديمة، ونصوص اليوم، وكل ما فعلته هو إزاحة اللثام عمّا هو مخبوء تحت رمال الموروث، فكانت روايتي الأولى »ورّاق الحب«. خلال كتابة هذه الرواية أحسست ببهجة في الكتابة، لم تتحها لي القصيدة، فاكتشفت شغف السرد، وتوغلت في اللعبة الروائية ومتاهاتها. لكن جملتي بقيت شعرية أو على تخوم الشعرية، لجهة الكثافة والاختزال في العبارة، والبناء البصري للسرد عموماً. ما سعيت إليه في الواقع هو نقل جماليات قصيدة النثر إلى الرواية، فالجملة لدي تخضع للمشهدية، كما أن التفاصيل التي لا تعتني بها الرواية عادة إلا بوصفها زخرفة، صارت هي المتن في جدارية كاملة ينبغي قراءتها أفقياً وعمودياً لفحص أبعادها وتجلياتها السردية. لنقل إذاً أن الرواية هي مزيج من كل حقول الكتابة، تتيح لكاتبها التجوال بين تضاريس متباينة، من الشعر إلى التشكيل والصورة، وتفتح ثغرة في الأسلاك الشائكة لاختبار فقه اللغة العارية وترميم عطبها بما تشاء من الأوهام. فكرة أن يكون المرء شاعراً فحسب، فقدت سحرها القديم. الكتابة اليوم مهنة ديموقراطية في اقتحام مختلف الأجناس الإبداعية، وباتت الحدود وهمية ما بين الشعر وما ليس شعراً.
هل تريد أن تقول بذلك إن السرد هو مستقبل الشعر؟ أو على الأقل يقدم له إمكانيات تعبير مفتوحة على آفاق أكبر؟
﴿ هذا صحيح إلى حد بعيد، فالشعر العربي الذي يُكتب اليوم هو أسير التماثل والكيمياء الواحدة، إلى درجة بات المرء يشك أن كل الشعراء ـ أقصد السوريين على الأقل ـ يحبون امرأة واحدة، ويعيشون في غرفة واحدة، وينظرون إلى شرفة واحدة. لا أذكر من هو صاحب هذه الجملة »أهديكِ حديقةً كاملة«، ولكنني في المقابل قرأتها لدى الجميع. نعم شعر ما بعد الثمانينات وجد نفسه في طريق مسدود، بعد استهلاك كل التفاصيل، من الطاولة والكرسي إلى منفضة السجائر، وطبعاً الياسمين والقرنفل وزهر الرمان والبقدونس. لدي اعتقاد أن السرد رافد مهم للعبارة الشعرية لجهة العمق والتأمل والحفر. السرد طبقة تأسيسية على قماشة القصيدة كي لا تبقى سطحاً واحداً قابلاً للتبخّر والخواء الجمالي والبلاغي. وينبغي أن نلتفت إلى ما صنعه شاعر مثل محمود درويش حين التفت إلى أهمية السرد في شحن تجاربه الأخيرة بما هو سردي، وكذلك سعدي يوسف وعباس بيضون وأمجد ناصر، وقبلهما بالطبع ريتسوس وكفافي.
يمكن قراءة رواياتك على أنها، وفق ما كتبه شارل دوبروفسكي ذات مرة، تنتمي إلى تيار التخييل الذاتي. ليست الرواية هنا سيرة ذاتية صرفة وإنما تنطلق من بعض نقاط هذه السيرة، لتحقق انفصالها عنها كي تخلق عالمها الخاص. هل يمكن اعتبار ما كتبته من روايات لغاية الآن أنه يمت إلى هذه المنطقة الكتابية؟
﴿ لا تخلو رواياتي من سيرة ذاتية، لكنها بطبيعة الحال محمولة على ما هو تخييلي، لنقل إنها سيرة مشتهاة في بعض جوانبها. إنني اكتب بارتجال، بالكاد أجد مفتاحاً لرواية ما حتى أغرق في الكتابة التي لا أدري إلى أين ستقودني، ولكن ضمن الثيمة التي اشتغل عليها في هذا النص أو ذاك، كما أن لحظة الكتابة نفسها تدخل في صميم عملي اللاحق، فيتشكل النص على مراحل عن طريق روافد جانبية. خلال كتابة »ورّاق الحب«، لفتت انتباهي قطعة نسيج يدوي معلّقة على الحائط، كانت أهدتني إياها جدتي، فاخترعت سيرة للجدة، ليست حقيقية على الإطلاق، المهم أن تكون مقنعاً في ما تكتب. استغرب تماماً أن تكتب رواية معزولة تماماً عن كاتبها وسيرته الشخصية وبيئته الأولى، لذلك ربما تجد في كل رواياتي رائحة بداوة ما، أو هبوب هواء صحراوي في ثنايا العمل، وهو ما تفرضه السيرة الذاتية بكل تأكيد. سأوضح لك فكرة أخرى تتعلق بضمير المتكلم الذي اخترته في كل أعمالي. هذا الضمير يضع المؤلف في دائرة الشك السيروي، إذ يتحول المؤلف إلى راوٍ، رغماً عنه، وهو ما أوقعني في مطبّات كثيرة بعد إنجاز كل رواية.
لم تعد حكاية
هل تقصد بالمطبات، القارئ الذي يقيم علاقة مقارنة بين النص وبين شخصك؟ لكن أليس الأدب بأسره في النهاية هو هذه »الأنا« حتى ولم يكن ضمير المتكلم موجودا؟
﴿ القارئ المتلصص في الدرجة الأولى، وحتى الناقد. البعض يذكرني بموقفٍ ما من الرواية بقوله »أقصد عندما قبّلتها في المصعد«، والواقع أن الراوي هو الذي قبّلها. روائي ساخط كتب مرة في شتيمتي »ما هذه الرواية واحدة قبّلها وصفعته، وأخرى بصقت عليه، رغم أن البصاق لم يكن موجوداً في النص، أخرى سألتني »هل قرأت زوجتك رواياتك؟«، بمعنى ألم تطلب الطلاق؟ في »دع عنك لومي« حاول الأبطال الافتراضيون الانتقام مني بشتى الوسائل، منها أنني مريض نفسياً، على اعتبار أن الراوي كان يتردد إلى عيادة نفسية.. وفي روايتي الأخيرة »زهور وسارة وناريمان«، ازدادت حالة التلصص للتعرف على حقيقة النسوة الثلاث، خصوصاً أن الراوي يحمل اسم خليل.
ثمة اتكاءات دائمة في كتبك ـ إذا جاز التعبير ـ على نصوص أخرى، بمعنى أن الكتابة هنا تبحث عن مرجعية دائمة لها، أي أن النص غالبا ما يستعيد أقوالا لكتاب آخرين ـ وفي روايتك الأخيرة هذه، تستعيد بعض كتابات السينمائيين وأفلامهم، وفق ما تقتضيه ظروف السرد. ماذا يعني لك البحث عن هذه المرجعية إذا جاز التعبير؟
﴿ في رواياتي أشتغل على الراهن، أي على حكاية لم تنجز نهائياً، خلافاً لروايات عربية كثيرة، تلجأ إلى تاريخ منجز، وتسعى إلى إعادة إنتاجه تخييلياً. هذه المنطقة الكتابية، أزعم أنها أكثر صعوبة في عمارتها السردية، إذ تعمل على أرض مكشوفة، تحتاج على الدوام إلى مرجعيات تؤكد حقيقيتها على صعيد نظري. في »ورّاق الحب« كان عليّ أن أستعير مهنة الورّاقين والنساخين والخطاطين، فلجأت إلى مرجعيات تعزز السياق الحكائي المعاصر، مثلما تؤكد على مقولة أؤمن بها أن تاريخ الكتابة هو كتابة ومحو، أو نص يلغي الآخر، وفي »بريد عاجل« كان ضرورياً أن أستعيد تاريخ البريد وطريقة كتابة ديباجة الرسالة في العصر الأموي، وأنواع الحمام الزاجل، وصولاً إلى الرسائل القصيرة في الموبايل. هذه الروح التسجيلية، كما أعتقد، تمنح النص سردية خاصة، تقترب به من البحث، فالرواية لم تعد مجرد حكاية بل بحثاً معرفياً في المقام الأول، وأجد أن روايةً ما تعتمد الخيال وحده ينقصها الإقناع. لا تنس أنني في ختام »ورّاق الحب« أشرت إلى أنني وجدت عنوان روايتي، فنحن إلى اليوم لم نكتب نصنا المشتهى والطليق. ولعل ردم المسافة بين نص من القرن السادس عشر، ونص يُكتب الآن، هي محاولة للقول إن القطار لم يبتعد كثيراً عن سكته الأولى، وكثيراً ما أتلمس رأسي خلال الكتابة للتأكد من عدم وجود عمامة أو طربوش، يعيق أجنحتي في التحليق بعيداً.
يأخذ عليك البعض أن الجنس حاضر أبدي في كتابتك الروائية، (مع أنني لا أجد أنه أمر مفتعل، إذ يأتي في سياق النص الطبيعي)، في أي حال، ما هو تعليقك؟
﴿ كل رواياتي إلى اليوم، تدور في فلك المثقفين الهامشيين، وهذه الشريحة تعيش الحياة على هواها، وفي مناخات مفتوحة على وهم الحرية. حرية الجسد أولاً، أو التورط في هذه القناعة، لذلك فإن الجنس هو أحد مكونات هذه الفئة. لا أعتقد أن سهرة تضم مثقفين من هذا النوع، تكتفي بالاستماع إلى مارسيل خليفة أو الشيخ إمام، ثم تتوجه مباشرة إلى فلسطين، ثم إنني أكتب الجنس كفضيحة ذكورية، بمعنى كيفية تفكير المثقف الشرقي بالأنثى. قطعاً هي ليست رفيقة كفاح، وكي لا أعمم فإن أغلب المثقفين يعتبرونها رفيقة سرير. المكاشفة في نصوصي أراها ضرورية لاختبار مصائر شخصيات تعيش عسفاً مزدوجاً، سياسياً واجتماعيا، وأعتقد أن أي مجتمع مكبوت سياسياً، لا بد أن يعيش كبتاً جنسياً. وفي المحصلة لست داعية كي أكتب أدب حشمة.
أضف إلى الجنس، تلتفت كثيرا إلى اللحظة السياسية ـ الاجتماعية الراهنة على الرغم من انك لا تكتب طبعا خطابا سياسيا؟ هل أن ذلك يشكل أيضا جزءا من هذا الراهن الذي ترغب في العمل عليه؟
﴿ نعم. وهو أمر صعب للغاية، فالاشتغال على مقطع من حياة جارية، لها ما قبلها، ولها ما بعدها، ليس عملاً سهلاً. أحاول تثبيت لحظة راهنة واختبار تحولاتها اليومية بما يشبه التسجيلية. أحياناً أضيف جملة سمعتها من سائق تاكسي، أو في مقال منشور في صحيفة، كما أنني اكتب الرواية نتيجة شحنة مباشرة تقودني إلى كتابة المدخل، ثم اكسوها بيومياتي، وما تفرزه الصورة التلفزيونية، وحركة الشارع. في روايتي »بريد عاجل« استوحيت مشاهد من زيارة إلى أرشيف الصحيفة التي أعمل بها، وحين أنهيتها، تخيّلت أن موظفة الأرشيف قد ارتدت الحجاب، وكان عدد المحجبات قد ازداد في الجريدة. عموماً احتاج إلى سنتين كي اجمع خيوط رواية ما، وإلى ثلاثة أشهر لكتابتها، لست من أولئك الروائيين الذين يقولون بصلف »صرفت عشر سنوات من عمري لكتابة هذه الرواية«، حقيقة أنا أضجر من النص بمجرد الانتهاء منه، ولم يسبق أن قرأت رواياتي بعد صدورها.
اسكندر حبش
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد