داعش»: أربع قضايا رئيسية للتفكير الحر
القضية الأولى تكمن في حقيقة تأريخية يجري التغاضي عنها، في مسعى حسن النية، لتجريد «داعش» من شرعيتها الدينية؛ بينما لا يتوافر، في أفكار «داعش» وممارساتها، ما ليس له أصل في النص أو في حروب الدولة الإسلامية الأولى والفتوحات؛ تتطلب معالجة هذه الحقيقة، مواجهة فكرية يتصدى لها مفكرون اسلاميون يجرؤون على التوصل إلى حل فقهي جذري، كالتأصيل ـــ مثلا ـــ لتاريخيّة النصوص الدينية التكفيرية القتالية، وربطها بزمانها ومكانها، والتأكيد على أنها غير قابلة للتكرار شرعا، وأن الوسائل التي اتبعتها الدولة الإسلامية الأولى في نشوئها مرتبطة ليس فقط بظروفها الخاصة، بل، وأيضا، بوجود نبي هو خاتم النبيين، فما كان يحق له لا يحق لسواه مطلقا.
إن أفكار «داعش» وممارساتها تُدَرّس في المناهج العربية، كما كرّستها، في عهد التلفاز، مئات المسلسلات التلفزيونية، بصيغة مخففة هنا، أو صريحة هناك؛ لكنها موجودة، بل محفورة في الوجدان الجماهيري. وربما يكون هذا واحدا من الأسباب التي تحول بين الأغلبية وبين الصدمة إزاء وحشية «داعش»؛ إنها، في الواقع، تحظى بالقبول الضمني على نطاق واسع. وهو ما يطرح ضرورة القيام بثورة تقدمية في الفكر الديني.
خلال الـ14 قرنا الماضية، عملت المجتمعات المتحضرة في العالم العربي، على القيام بعمليات نسخ واقعي للنصوص التكفيرية القتالية، وطي صفحة الأحداث الدموية التي رافقت التأسيس والفتوحات. وكان النَسْخ الواقعي والتناسي، استراتيجية فعّالة للحفاظ على المجتمعات والحضارة، لكن، كانت العودة الدورية إلى لحظة التأسيس، لا تستلزم سوى العودة إلى نصوص جاهزة وذكريات يجري استنهاضها واستلهامها. وكان هناك ظنٌ واسع الانتشار باستحالة تجربة العودة، مرة أخرى، إلى لحظة التأسيس الأولى ونصوصها، وخصوصا بعد ما يقرب من القرن من قيام الدول الوطنية الحديثة؛ لكن تبين أنه ظن واهم؛ لا مهرب، إذاً، من موجبات الثورة الثقافية الدينية، باعتبارها ألف باء الحداثة العربية المأمولة، ووقف الحروب الأهلية.
القضية الثانية تكمن في السؤال عما إذا كانت الإمبريالية الأميركية، تريد حقا استئصال «داعش» و«النصرة» وتنظيمات «القاعدة» وسواها من التنظيمات التكفيرية الإرهابية في بلادنا.
والإجابة عن هذا السؤال تتطلب طرح سؤال آخر: هل للإمبريالية الأميركية مصلحة حقيقية في التخلي عن جيش الإرهابيين؟ نشأت فكرة الاستعانة بالميليشيات التكفيرية الإرهابية في نهاية السبعينيات، انطلاقا من ضرورة أميركية هي تلافي الاشتباك المباشر بقوات أميركية على الأرض. وهو ما كان بالغ الخطورة، إضافة إلى أن الزمن الفاصل عن حرب فيتنام لم يكن يسمح بعد بالانخراط في حروب. في المقابل، كانت تجربة الجهاديين في استنزاف القوات السوفياتية في أفغانستان، ناجحة.
بعد الحرب الأميركية على العراق، نشأ وضع انكفائي كالذي تبع حرب فيتنام؛ وقد وجدت إدارة الرئيس باراك أوباما في الإخوان المسلمين حليفا في ثورات الربيع العربي في الدول الصديقة، وفي المقاتلين الإسلاميين، سلاحا فعالا لإسقاط الدول والقوى المعادية كليبيا وسوريا وحزب الله، والعودة إلى التحكم في القرار العراقي، وتهديد إيران؛ وكل ذلك من دون أن تضطر إلى التدخل العسكري المباشر، بل من خلال منح الغطاء السياسي لأنظمة رجعية كتلك الحاكمة في قطر والسعودية وتركيا، لتحشيد التكفيريين الإرهابيين وتدريبهم وتسليحهم وتمويلهم ودفعهم نحو الحروب التي تريد واشنطن خوضها، بلا أي كلفة.
فلماذا تستغني الولايات المتحدة عن هذه الأداة الفعّالة؟ لن تستغني عنها أبدا؛ فإذا كانت مضطرة إلى توجيه ضربات محدودة؛ فلمَنْع «داعش» من التمدّد خارج الخطوط المرسومة، أو لأن ما أنجزته، هنا أو هناك، حقق المطلوب. وفي ما يتصل بالحلف الذي تنوي واشنطن بناءه ضد الإرهاب، فهو مقصود لذاته، لإدامة الحرب، لا لإنهائها.
القضية الثالثة تتعلق بالسعودية وموقفها من «داعش». يشير الكاتب بدر الإبراهيم إلى «انقسام الوهابية إلى وهابيتين، واحدةٌ براغماتية والثانية راديكالية»، اصطدمتا في معركة السبلة عام 1929، بعدما رفضت جماعة «إخوان من طاع الله»، الامتثال لوقف الغزوات الدينية. يؤكد الكاتب أن «هذه الجماعة كانت عوناً للملك عبد العزيز في ضم أجزاء واسعة من الجزيرة العربية تحت سيطرته»، لكن دورها، حين ذاك، انتهى؛ فهل حققت «داعش»، اليوم، أغراض السعودية، بحيث تتخلى عنها؟ سؤال مطروح، لا يلغي، بالطبع، استمرار التحالف مع «الوهابية البراغماتية»، أي المقاتلين الإسلاميين «المعتدلين»، في العراق، وخصوصا في سوريا.
القضية الرابعة تتعلق بإمكانية ضم سوريا إلى الحلف الأميركي المضاد للإرهاب؛ هل يمكن ذلك، مع بقاء سوريا مستقلة وعضوا أساسيا في حلف المقاومة، ودولة ذات نزوع قومي تنموي علماني؟ أي فاتورة يستوجب تسديدها للانخراط في ذلك الحلف؛ ذلك إذا لم يكن الهدف الأميركي، بالأساس، استمرار الحرب السورية واستنقاعها وتهميشها؟ فهل هناك بديل عن الاعتماد على الذات والحلفاء؟
ناهض حتر
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد