دراميون : ما قدمناه لم يكن للتنفيس بل لإعادة الزخم لمكافحة الفساد
تحقيق ـ سعاد جروس: عندما تم الحجز على أموال رئيس الوزراء السوري محمود الزعبي عام 1999 حبس الشارع أنفاسه بانتظار تداعيات حدث سرعان ما تلاحق بسرعة البرق، ليتحول بعدها إلى قصة من الماضي، وليمثل مؤشراً لبدء مرحلة جديدة في حياة السوريين، مع انتقال السلطة الى الرئيس بشار الأسد. أكثر من ست سنوات مرت كانت حافلة بأحداث داخلية عبرت عن رغبة عارمة بالتغيير، اصطدمت بمعوقات كثيرة، تراوحت بين مد وجذر مع اشتداد حركة الرياح الدولية المعاكسة طوال سنوات كانت عبارة عن مرحلة مفصلية لم تنته بعد، رافقها برود حماس الشارع للتغيير، مما جعل مؤخراً خبر الحجز على أموال رئيس حكومة سابق يمر مرور الكرام، كما مر ما تلاه من أخبار مماثلة حول الحجز على أموال فلان وعلتان من موظفين كبار وصغار هنا وهناك مع مطالبتهم بإيفاء ملايين الليرات للخزنة العامة؛ مرت جميعها دون أن يحبس أحد أنفاسه، وكأنما مكافحة الفساد لم تعد مثيرة كما كان عليه الأمر منذ سنوات. باتت هناك قناعة عامة أن طريق التغيير مازالت طويلة، خاصة وأن الظروف الدولية لا تفسح المجال للمنطقة كي تلتقط أنفاسها، ومن أزمة إلى أزمة، تأجلت أحلام كثيرة، دون أن تتراجع، مازال هناك تحت السطح توق شديد للإصلاح، وهو ما كشف عنه تفاعل الشارع السوري مع ماقدمته الدراما السورية لهذا العام، التي خاضت بجرأة كبيرة في غالبية القضايا الداخلية الحساسة، وأعادت ضخ الحيوية في النقاش الوطني العام.
بلا ضحك
لأول مرة لا يضحك السوريون وهم يتابعون نماذج درامية اعتادت الأعمال الكوميدية تقديمها بحذاقة وظرافة لتمرير نقدها اللاذع لواقع ساخن بات مرصوداً بدقة يتشكل من المسؤولين وأبنائهم، بالإضافة إلى رجال الأمن، رجال الأعمال، الموظفين الكبار والصغار، الشرطة، الانتهازيين واللصوص ...إلخ. وكانت المفاجأة في رمضان الحالي بأكثر من عمل يكشف بجدية صارخة وجارحة الملحمة اليومية العسيرة للمواطن السوري، كنموذج لمواطن عربي يعيش واقعاً متشابها حتى السقم، من مدن الصفيح إلى حياة القصور، وكأنما "الحال من بعضه" واستطاعت الدراما السورية ملامسته بأعلى قدر من الشفافية من خلال حيوات متناقضة كانت مغيبة على امتداد البلاد العربية.
عودة النقاش الساخن
ويمكن القول هذا العام ـ بغض النظر عن تفاوت المستويات الفنية بين المسلسلات التي قارب عددها 45 مسلسلاً ـ أنها قامت بخطوات جريئة على صعيد التابوهات الثلاثة: "السياسة ـ الدين ـ الجنس" وتفجر نقاشات ساخنة داخل الشارع السوري، فيما إذا كان السماح بتناول قضايا الفساد والتطرف الديني والتحرر الاجتماعي مؤشراً لبوصلة حركة السياسية السورية الداخلية، فقد تفاءل الكثيرون خيراً بأن البلاد تتجه نحو مزيد من الانفتاح إيذاناً بمرحلة جديدة، فيما رأى البعض أن ذلك لا يتجاوز محاولة إعادة تسخين ما برد من قضايا وملفات بهدف التنفيس أو اختبار الشارع، حيث أعتبر منير. ج (52 عام) أنها استعادة الألق للحركة التي شهدتها سوريا عام 2000 ووعدت بالكثير، عندما تواكبت مع حراك المجتمع المدني والمثقفين والتي للأسف جرى قمعها بشكل محبط.
هواجس كثيرة فجرها مثلاً مسلسل "غزلان في وادي الذئاب" من تأليف فؤاد حميرة، وإخراج رشا شربتجي، بعدما نال فترة عرض ذهبية على الفضائية السورية، أي بعد نشرة الأخبار الرئيسية، الأكثر مشاهدة، ولم يتوقع المشاركون في العمل أن يحظى باهتمام القطاع الأكبر من الجمهور في عجقة الدراما الرمضانية، محققاً نجاحاً فاق التوقعات، مع بدء الاهتمام به من الحلقة الأولى، تميز فيه بطل العمل الممثل الشاب قصي خولي بأدائه المحكم لشخصية ابن مسؤول كبير، عَكَسَ شخصية ولد مدلل وفاشل يستفيد من موقع والده الوظيفي ليمارس استبداده البشع والوقح على المحيطين به والمتعاملين معه، إذ لا احد بإمكانه أن يقول له لا. شخصية أجاد قصي لعبها، وأيقظ في الذاكرة قصصاً مماثلة يتداولها السوريون همساً، وكانت مفاجئة حقاً أن يرونها تعرض على الفضائية الرسمية لا على إحدى القناتين الأرضيتين، وراح الناس يطابقون أحداث المسلسل على ما يحفظونه من أحداث مشابهة كانوا شهوداً عليها أو سمعوا عنها، هل هي قصة أبناء فلان أم فلان؟! وكاد أن يجمع الكل بما فيهم صحفيون كتبوا أخباراً عن المسلسل أنها قصة رئيس الوزراء الراحل محمود الزعبي ، إلا ان الكاتب فؤاد حميرة كان يؤكد في كل حديث معه أنه "لا يقصد مسؤولاً أو ابناً بعينه سابقاً أو لاحقاً، وإنما حاول تقديم نموذج درامي لابن المسؤول الفاسد".
رسالة تذكيرية
مع تقدم الأحداث في المسلسل بدأت الأمور تتوضح أكثر، فتلك الشخصيات التي حاول المشاهدون إسقاطها على أسماء حقيقية، تبين أنها تنطبق على الغالبية، وأيضاً لا تنطبق على أحد، وتحول النقاش من التساؤل عن مقولة هذا العمل، وأي قصة يروي، إلى النقاش حول الهدف من عرضه. ففي التحقيق يسأل المحقق الشاهد، لماذا لم تتدخل لمنع زميلك في الجامعة "ابن المسؤول الفاسد" من الإساءة لحبيبتك؟ وٍلَم وافقت على أن يسرقها منك؟ فيجيب الشاهد، لماذا لم تتدخلوا انتم حين كان يذهب الى أمام بيتها ويرفع صوت مسجلته عالياً ليُسمع كل الحي ويطلق الرصاص في الهواء؟ بعد قليل من الصمت ينتهي الحوار بقول المحقق، يجب أن تعلم أن لا أحد فوق القانون. فهل هذه رسالة تذكيرية للفاسدين المتنفذين وللمواطنين، أم هي محاكمة لفترة ماضية، كان الصمت والتجاهل سيدها! وما فتحُ هذا النقاش إلا للتخلص من أدران تلك الفترة؟ فايز (40 عام) يقول الإجابة تحتمل النقيضين، فهي لاشك رسالة تنبئ عن جديد قادم، لكن حين نلمس تدخل الرقابة في المسلسل وقصقصة العديد من المشاهد والمقولات لا نتفاءل كثيراً .
كاتب العمل فؤاد حميرة، قال للشرق الأوسط: "إن الرقابة حذفت ثلاث ساعات من العمل، كان هناك شيء مهم يجب أن يصل الى المشاهد، أهم المقولات التي تمنيت وصولها حذفت وبقيت الحكاية الجميلة." ويضرب مثلاً على تلك المقولات ما جاء على لسان تاجر كبير: "هذه القوانين وضعت كي نبقى بحاجة إليهم، لإبقاء التوازي بين السلطة والمال".
قصقصة وضغط
المفارقة أن العمل ذاته يعرض على قناة سورية خاصة دون حذف، إذ أن الرقابة في التلفزيون السوري مورست على ما سيعرض على شاشاته، ولم تتدخل فيما سيتم تصديره. ثمة أعمال عدة رفضها التلفزيون السوري وتم عرضها عربياً، كـ "أيام الولدنة" من بطولة دريد لحام، ومسلسل "المارقون" من إخراج نجدت أنزور والذي تم رفضه في البداية، ثم عاد وتم عرضه على القناة الأرضية بعد مرور حوالي خمسة عشرة يوماً من شهر رمضان. كما رُفض عرض مسلسل "أحقاد خفية" للمخرج مروان بركات، ومسلسل آخر من إنتاج التلفزيون السوري. كان من الواضح جداً أن أصحاب قرار العرض قد تعرضوا لضغوط كثيرة من قبل عدة جهات قبيل بدء الموسم الرمضاني.
موظف في التلفزيون رفض ذكر اسمه قال: "نجح التلفزيون لأول مرة بوضع خارطة العرض قبل أسبوع من بدء شهر رمضان، وهو ما كان صعباً في سنوات سابقة، إذ أن شركات الإنتاج تعود ملكيتها لرجال أعمال وأبناء مسؤولين تمارس ضغوطاً هائلة على الإدارة للحصول على الوقت الأفضل لعرض إنتاجها، هذا العام كانت الضغوط أخف، فتم اختيار الأوقات بالنظر إلى معايير مهنية أولاً، وهو ما كان صعباً من قبل، وكان الصراع عليها يستمر حتى الساعة الأخير قبيل بدء شهر رمضان" ويؤكد ذلك الموظف أن المدير العام السيد ماجد حليمة لم يقبل أية وساطة وحاولت قدر الإمكان عدم الاستجابة للضغوط الشركات أو أي جهة داعمة. أما ما يتعلق بمسلسل نجدت أنزور (المارقون) فيؤكد الموظف، بأن المشكلة كانت حول مضمون عمل يتناول حوادث تتعلق بملاحقة المتطرفين والمواجهات معهم، وكان هناك خلاف قوي في وجهات النظر حول عرضه، فثمة من كان يرى ضرورة طرح هذه القضايا للنقاش العام عبر الدراما، وفريق آخر كان يرفض فكرة التعرض للمتطرفين الدينيين من الأساس، فحتى وقت قريب كانت وسائل الإعلام الرسمية السورية لا تقترب من أي شيء يخص الحياة الدينية، أو ما يعبر عنها سوى نقل صلوات الأعياد، وبرنامج ديني تربوي يكاد يكون الوحيد، ولم تكن الدراما السورية تتناول أي موضوع تتم الإشارة فيه الى الدين، لكن في السنوات الخمس الأخيرة بدأت المرأة المحجبة تظهر في المسلسلات والإعلانات، ودخل موضوع الدين بين الخطوط الدرامية الثانوية كخلفية للأحداث، لكنه لم يغدو رئيسياً وظاهراً سوى هذا العام. وكما يبدو أن خلاف وجهات النظر بشأن "المارقون" قد حسم لصالحه وإن كان متأخراً، وأن العقلية الطهرانية التي تريد من التلفزيون عرض ما لا يثير الجدل والانتقاد، على مبدأ أن هذه الصورة لا تمثل سوريا، قد اهتزت، إذ من يستطيع رسم صورة ترضي الجميع؟!
حل وسط
كان الحل الوسط الذي تم التوصل إليه هو محاكمة الطريقة التي تتم فيها معالجة قضية إشكالية ما، لا مجرد تناولها، وعلى هذا الأساس ربما تخوفت الرقابة من عرض مسلسل( أحقاد خفية) الذي يتناول حياة رجل أعمال كبير يتاجر بالممنوعات ولا يتوانى عن ارتكاب الجرائم بمختلف أنواعها، ومن ثم يدخل الحياة السياسة من باب علاقاته المشبوهة. في البداية، كان الظن أنه منع بسبب المبالغة في المعالجة، ما جعل أحد النقاد يصف المسلسل بأنه يشبه أفلام عصابات المافيا، ولا يمت للواقع السوري بصلة، لكن السبب كما تبين لاحقاً ومن خلال ما يتداول في أروقة التلفزيون يعود لطريقة تناوله التيار الديني، وأن الصورة التي قدم بها المتطرف ستثير استياء البعض. إلا أن الموظف الذي قابلناه، لم ينف هذا السبب ولم يؤكده، لكنه أشار إلى أسباب فنية بحتة، وإلى طلبه حذف بعض المشاهد، إلا أن الجهة المنتجة رفضت ذلك.
مديرة التلفزيون ديانا جبور لم تشأ الدخول في تفاصيل النفي، لكنها أكدت أن التلفزيون شكل عدة لجان رقابية، كل لجنة تضم سبعة أشخاص من مختلف الاختصاصات، ولم يُكتفَ بلجنة واحدة، كي يكون هناك أكثر من وجهة نظر كي لا يظلم أي عمل. وقد تمتعت الرقابة بقدر كبير من الاستقلالية، والأعمال التي لم تعرض في التلفزيون السوري، عرضت في قنوات أخرى. وأشارت جبور الى ضرورة إعادة النظر في المعايير الرقابية لأن تغييرات كثيرة تحدث على الأرض، كما لا يجوز أن لا يستغل التلفزيون الهوامش المتاحة بالكامل.
ازدواجية لامنطقية
لاشك أن الرقابة التلفزيونية هذا العام مرت بمأزق حرجة لعدة أسباب منها كثرة الأعمال التراجيدية التي تعرضت لقضايا الفساد وقضايا اجتماعية حساسة ومشكلة التشدد الديني، وهي موضوعات سبق وتناولتها الأعمال الكوميدية ببراعة وذكاء مكنها من التملص من الرقابة ومن رفع السقف عالياً، ليصبح التحدي أصعب موسماً بعد موسم، فقد كان الفنان ياسر العظمة سباقاً عبر برنامجه الكوميدي (مرايا) المستمر منذ الثمانينات في توسيع هوامش الدراما. وكان المطلوب ممن سلك الطريق ذاته من الشباب في السنوات الأخيرة، أن يضيفوا الى تجربته على صعيد الشكل والمضمون، لكن قلة منهم نجحوا في ذلك، ولم يستمروا كمسلسل "بقعة ضوء" الذي حقق نجاحاً كبيراً في أجزائه الثلاثة. إلا أن ما قد يتقبله الناس والسلطة على سبيل النكتة والحكايا الطريفة، قد لا يتقبلونه حين يتحول الى مناقشة جدية تحتوي على وجهة نظر مخالفة للسائد، وهو مأزق خطر حتى لو تمت مناقشته وتجاوزه أحياناً مع السلطة، لكن من الصعب جداً مناقشته مع المجتمع، فكيف بتجاوزه؟! فمسلسل (شاء الهوى) للكاتبة يم مشهدي وإخراج زهير قنوع، يُظهر لأول مرة في الدراما التلفزيونية صورة صريحة عن مشاكل الشباب الجامعي الباحث عن فرص للعمل والحياة، متجاوزاً الكثير من الخطوط الاجتماعية الحمراء، إذ يعالج الكثير من المظاهر الحساسة بحرية كبيرة ودون عقد مسبقة، من خلال استعراضه لنماذج متعددة كالفتاة التي تزور حبيبها في غرفته وتمضي معه يوماً كاملاً، وهو ما كان ممنوعاً تلفزيونياً بحجة أن المجتمع لا يسمح بذلك، وأيضاً الابنة المطلعة على مغامرات والدها العاطفية فتسمح لنفسها بإقامة علاقة مع صديق والدها، وابن العائلة التقليدية في المدينة الذي تحيره فتاة فرنسية المنشأ سورية الأصل، فلا يعرف إذا كان استقبالها له في منزلها وحركاتها الودودة معه تعبيراً عن حب، أم هي تصرفات طبيعية لفتاة تربت في بيئة غربية؛ والطالبة الجامعية الفقيرة القادمة من بيئة ريفية مغلقة إلى عالم المدينة الرحب والمجتمع الغني، تبحث عن أي فرصة للبقاء في المدنية، وبدل متابعة الدراسة تفضل دخول سوق العمل والتسلل كمندوبة مبيعات إلى الصحافة الفنية ومن ثم عالم التمثيل الشائك، وعن شباب يضطر لسلوك الطرق الملتوية لتحقيق أحلام غير مضمونة العواقب لطموحات بسيطة ومشروعة. فالنماذج الذي يطرحها هذا العمل للشباب السوري يحتوي على الكثير من الجرأة، عندما يناقش بصراحة حقيقة مجتمع مازال مصراً على محافظته، وتحت هذا الزعم يقمع حريات أبنائه، وفي الوقت نفسه يتجاهل التشوهات التي تخلفها حالة الإزدواجية اللامنطقية التي تجمع بين حالة الانفلات والاختلال في العلاقات الاجتماعية، وبين التمسك الكاذب بالعرف الاجتماعي والأخلاقي العام. هناك الكثير من الآراء، اتهمت العمل بالتجني على صورة الشباب الجامعي، فالواقع ليس على هذا النحو من السوداوية والتحلل، الذي يظهر طالبة جامعية تتعاطى وتوزع المخدرات وتبحث عن زبائن في البارات. إن المجتمع الذي يجيز نقد السلطة، سيكون صعباً عليه هضم ما يوجه إليه من نقد جارح في معركة يبدو أن الشباب السوري قد أعلنها وسيخوضها بشراسة، فغالبية الأعمال التي حققت حضوراً لافتاً، كان كتابها ومخرجوها وممثلوها وحتى منتجيها من الشباب، يريدون أن يقولوا أفكارهم وتجاربهم ويعبروا عن رؤيتهم. المخرجة رشا شربتجي قالت للشرق الأوسط، إنه لولا وجود منتج شاب بعقلية منفتحة، لما حصلت على فرصة إخراج مسلسل مثل "غزلان في وادي الذئاب" عادة صاحب المال لا يغامر بوضع ملايينه بأيدي شابة تخوض تجربتها الأولى، وكان هذا مع مسلسلها الأول "أشواك ناعمة" الذي عرض العام الماضي.
سيرة التغيير
ورشا التي درست في القاهرة تمتلك موهبة كبيرة ظهرت في عملها الأخير، كما تمتلك عيناً حساسة جداً مكنتها من التقاط تفاصيل دقيقة في مدينة دمشق، لتقدم صورة بانورامية مذهلة في تناقضاتها ما بين الحارات العشوائية والسجون والمستشفيات وبين الفيلات والقصور والمكاتب الفخمة ومؤسسات الدولة والجامعة والأسواق، فروت بالكاميرا ما قرأته بين سطور النص لتقدم نصاً بصرياً يعكس سيرة التغيير في سوريا على الصعيد السياسي وانعكاسه على الحياة الاجتماعية مع رصد لحركة الفساد عرّضت المسلسل للصعوبات في مراحل تنفيذه الأولى، فكما هو متعارف عليه في سوريا تُمنح تسهيلات كبيرة لعمليات التصوير التلفزيوني الدرامي، فلا يغلق أمامهم باب في أي مؤسسة حكومية بعد الحصول على إجازة من الوزارة المعنية، فدخلت عدسة رشا شربتجي كغيرها من عدسات الدراما السورية إلى مشفى الأمراض النفسية وإلى مكاتب بعض المسؤولين كأي عمل رويتني. رشا أبدت امتنانها لكل من استضاف فريق العمل، إلا أن هناك من حكى عن طرد الفريق من أكثر من مكان لدى سماع جزء من الحوارات الدرامية، وقد طلب منهم موظف حكومي مغادرة مكتبه، بعدما علم أن الممثل سيؤدي دور موظف فاسد. أما مشفى الأمراض النفسية، فقد استاءت إدارته من الصورة التي ظهر فيها المشفى، كما تعرض الكاتب فؤاد حميرة كما يقول، للتحرش من قبل أولاد مسؤولين كسروا بسيارتهم على سيارته في الشارع وبصقوا عليه، لأنه قدم نموذجاً سيئاً لابن المسؤول. وبهذا يكون حميرة قد وصله حقه من نجاح المسلسل بحسب رأيه.
معركة المجتمع
ردود الفعل تلك كأمثلة حية، تعطينا فكرة عن صعوبة التعامل مع المجتمع، وقد تبلغ درجة خطيرة عندما تصطدم بالمحظورات، وبالأخص ذات البعد الديني، والتي تم التعاطي معها في أكثر من عمل. فمسلسل "فسحة سماوية" المتميز بهدوء الطرح وبساطته، تعرض لحريات المرأة والشرع، وتطرق الى نشاط جمعية نسوية والحملة التي واجهتها من رجال الدين، وهي قضية واقعية شهدتها دمشق العام الماضي عندما اتهم رجال دين إحدى الجمعيات النسائية بالتشجيع على الرذيلة! ولم تتوقف الدراما عند هذا الحد، بل وطرقت أبواب مجتمع القاع، وكرست عملاً كاملاً لرصد تفاصيل مجتمع سكن عشوائي يوحد الفقر فيه بين جميع الشرائح، كمسلسل "الانتظار" تأليف وسيناريو حسن سامي اليوسف ونجيب نصير، وإخراج الليث حجو، في عمل قدم قراءة دقيقة للكيفية التي يتعايش فيها المثقف الشريف النظيف مع ابن الحرام اللص الأمي، إلى جانب الشرطي المرتشي المتخلف ضمن مجموعة الجيران البسطاء، وكيف ينتج هذا المجتمع الهجين قيماً بديلة تعينه على انتظار تغير الأحوال، فنرى اللصوص وفيهم الجبان والقذر، كذلك الشهم النبيل على طريقة الصعاليك. تميز هذا العمل بحواراته المعبرة بقوة لافتة عن شخصيات لا تكف عن إعادة طرح الأسئلة البديهية بما يعكس بشفافية اضطراب المبادئ والمفاهيم المتعارف عليها، كمعايير الشرف والطيبة والأخلاق، وأيضاً طرح تساؤلات في منتهى الجرأة، إذا ما كانت ممارسة المرأة لمهنة مجالسة السكارى في النوادي الليلية تتنافى مع الأخلاق أم لا، طالما لا تصل الى النهاية و الهدف هو العمل؟ وهل فتاة تقيم علاقة مع رجلين في وقت واحد هي أكثر شرفاً؟ وإذا لم تُطلب الفتاة للزواج هل يعني ذلك حرمانها من إقامة علاقات عاطفية؟ ولا يُفوّت العمل أي فرصة لتمرير أفكار حساسة على لسان الشخصيات كتلك الفكرة التي تفضح ماهية العقد الاجتماعي في مجتمع أفسده الفقر وحالة التهميش التي يعيشها على طرف المدينة: "في هذه الحارة الكل كاشف بعضه والكل ساكت لأن كل واحد منهم أسوأ من الآخر" مشاهد تتشكل في داخلها جزراً لأزقة عشوائية تتميز عنها الأحياء الشعبية ، بأن في الأخيرة يعرف الجيران بعضهم البعض، وظروف حياتهم متشابهة، بينما في الأحياء العشوائية لا تعرف من يكون جارك ومن أي بيئة قادم، فقد تكون بيئة خارجة عن القانون وحتى عن المجتمع.
نكاية بالسياحة
عاصم . ن (46 عام) علق ممازحاً على تركيز الدراما هذا العام على مناطق السكن العشوائي الفقيرة بالقول: "لم يتركوا كومة زبالة إلا وأعطوها دوراً رئيسياً في المسلسلات، نكاية بوزارة السياحة". إلا أن لينا (20عام) ومن سكان تلك الأحياء عقبت دون دهشة، لأن عمل "أسياد المال" سرق دهشتها، بعرضه لحياة الأثرياء والمنازل الفخمة التي دارت فيها الأحداث، وتمنت لو تحصل على درفة باب واحدة فقط من أبواب تلك المنازل!! أما ماذا تفعل بها إذا كانت لا تملك بيتاً، فضحكت قائلة: "أبيعها وأعيش بثمنها لمدة عام". لا تبالغ لينا كثيراً، لأن المسلسلات كما تعرضت للفقر تعرضت لما تعيشه الطبقة الثرية من حياة باذخة ومنحلة ـ وإذا كان الفقر مفسدة فالمال أكثر إفساداً ـ لطبقة راحت تطفو بوضوح في السنوات الأخيرة جراء سياسة الانفتاح الاقتصادي والسماح للقطاع الخاص بالعمل في غالبية المجالات، فأماكن التصوير تضمنت فيلات وقصور معظمها في ريف دمشق، لم يعتد السوريون على رؤيتها سابقاً بهذه الكثافة والفخامة، لاسيما وقد فاق بعضها ما يظهر في المسلسلات الخليجية المعروفة بترف العمارة، فكان التناقض صارخاً بين بيوت عبارة عن غرف ملفقة تركب فوق بعضها بعضاً بفوضوية وبين فيلات ومكاتب ديكوراتها أقرب الى قصور ألف ليلة وليلة، فإذا كانت الأولى متاحة ويراها الجميع، فالثانية حكماً مغلقة على رفاهيتها في مناطق نائية لم تعد بعيدة عن العين بعد اقتحامها درامياً، وإن كان ثمة دلالة، فهي دليل لا يقبل الشك على تلاشي الطبقة الوسطى في ظل تنامي طبقة الفقراء، وزيادة ثراء الأثرياء.
الباب الموارب
كيفما قلبنا النظر في تلك الأعمال التي تفاوتت سويتها الفنية، سنعثر على ما يؤكد حدوث تغييرات كثيرة في سوريا، وكل تفصيل فيها يثير نقاشات في اتجاهات مختلفة، الأمر الذي سيفتح باباً من غير المرغوب فتحه على مصراعيه في بلد مازال يعتمد في تقدمه على سياسة الباب الموراب وأنصاف الحلول كصيغة تدريجية آمنة لعملية تغيير تقلل ما أمكن من الخسائر، ويجعل السؤال ملحاً، ترى هل ستحرض هذه الفورة الدرامية على حراك اجتماعي جديد شبيه بما حصل منذ ست سنوات لدى حراك المجتمع المدني، أم ستسجل خطوة تراجع نحو الخلف؟
عدم توازن
مديرة التلفزيون ديانا جبور ترى أنه على صعيد الدراما التراجع مستحيل عما تم تحقيقه بالنسبة لهامش النقد، والخطر الذي تواجهه الدراما ليس في اتساع أو ضيق الهوامش، وإنما في حالة انعدام التوزان في الإنتاج، فغالبية الأعمال البالغ عددها 45 عمل تناولت موضوعات اجتماعية معاصرة متشابهة، بينما كادت أن تغيب الأعمال الكوميدية والتاريخية، عكس السنوات السابقة، والسبب يعود لعدم وجود جهة تنظم عملية اختيار الموضوعات, وتقترح ديانا أن يتم التفكير بإنشاء مجلس أو هيئة تتولى الإشراف على هذه المسألة.
فايز. ح مهندس (60 عام) يعتقد أن الهوامش العام القادم ستتراجع ويتنبأ بنقاشات حادة ربما تفتح باب تأتي منه رياح عكس ما تشتهي السفن، أما عن الدراما فلا يعتقد أنها ستتطور كثيراً طالما المنتجون يتعاملون معها بعقلية المزارعين الذين يقبلون على زراعة حققت أسعاراً مرتفعة من قبل بسبب قلتها، فيتسابقون عليها العام التالي فتنخفض أسعارها ويُمنون بالخسارة، هكذا الدراما؛ عندما ينجح مسلسل تاريخي نتوقع العام التالي عشر مسلسلات مشابهة. فالعام الماضي كانت الغلبة للكوميديا والتاريخ وقبلها للفنتازيا، وهذا العام للاجتماعي المعاصر وقضايا المرأة والتيارات المتشددة، إذا بقي الحال هكذا، فسوف يبقى الإنتاج الدرامي محكوماً بالفوضى.
سوق
يحمل هذا الرأي الكثير من الصواب فمن 45 مسلسلاً، تم بيع ما يقارب 20 عملاً فقط للمحطات العربية، وهي نسبة ضئيلة جداً وغير مجدية اقتصادياً، إذ ان الدراما في سوريا منذ عام 1999 باتت مجالاً مغرياً للاستثمار، بعد صدور قرار بتشجيع الإنتاج الدرامي الخاص، وقد تمكنت فعلاً من غزو غالبية القضائيات العربية وأثبتت تفوقاً ملحوظاً باعتمادها على الانتاجات الضخمة، فالمسلسل يكلف الملايين من الليرات ولا يمكن استعادتها إلا من خلال سوق رمضان الذي تدفع فيها أسعار عالية جداً للعرض الأول وللعرض الحصري، وهناك أعمال تجاوز سعر الحلقة منها الـ20 ألف دولار، لكن هذا الموسم لم يتجاوز السقف الستة آلاف، فيما المعدل الوسطي لكفلة أي حلقة ضمن ما يعرف بالإنتاج الضخم ما بين الثلاثة آلاف والخمسة ألاف دولار، والإنتاج العادي لا يقل عن ألف دولار. فإذا لم يبع العمل في رمضان لن يعيد تكاليفه، كما أخبرنا موظف في إحدى شركات الإنتاج التلفزيوني الخاصة قائلاً: "المنتجون راهنوا هذا العام على الموضوعات المحلية الساخنة، بعدما بدأ المال الخليجي يتجه نحو إنتاج دراما محلية تغطي مساحات البث في القنوات الخليجية والعربية الممولة من قبلهم، ونافس الدراما السورية على احتلالها، بالإضافة إلى ذلك فإن الممولين الخليجيين باتوا يفضلون الاعتماد على منتجين محليين للإعمال التاريخية واستقدام نصوص ومخرجين وممثلين من سوريا، كمسلسل "خالد ابن الوليد" المنتج في الكويت وهنا مكن الخطر على الانتاج السوري.
التحديات التي تنتظر الدراما السورية العام القادم كثيرة على مستويات عدة وفي أكثر من مجال، فهناك المجتمع وردة فعله المنتظرة على ما عرض هذا الموسم، وهناك الرقابة وسقف الحريات المتاح، كذلك ظروف الإنتاج، وحركة السوق العربية ... إلخ؛ تحديات لاشك أنها ستكون بحجم ما أحرزته الدراما السورية من جرأة في الطرح والتجريب الفني والإخراجي، وإن لم يحالفها التوفيق في بعض الأعمال، فالرغبة بالتغيير كما قدمها الشباب السوري في دراما هذا الموسم ماتزال جامحة، وتثير الإعجاب بقدراتهم الكامنة من خلال التعبير عن جزء يسير منها، كما تستحق التعجب من بقائهم متحمسين رغم كل المعوقات والظروف القاهرة التي يمرون بها على الصعيد الشخصي وعلى الصعيد العام دون تجاهل تأثير الضغوط السياسية الخارجية التي تعاني منها البلاد منذ احتلال العراق. فهذا الدفق من الحيوية يبعث الأمل، وإرادة التغيير تحتاج الى حماس شبابي. فبعد أكثر من ست سنوات على خطاب القسم للرئيس بشار الأسد الذي دعا فيه المواطنين السوريين للمشاركة في حملة مكافحة الفساد، يأتي شباب كالكاتب فؤاد حميرة والمخرجة رشا شربتجي ليقولا أن مسلسل "غزلان في وادي الذئاب" بمثابة تلبية للدعوة. دون أن يخفي حميرة توجسه من حذف الرقابة لمشهد تظهر فيه قناة الجزيرة وهي تبث خبر إعلان الرئيس السوري إطلاق حملة مكافحة الفساد، ويعتقد أن " من يقف خلف حذف هذا المشهد هو من يخاف من هذه الحملة، وهذا ما نخاف نحن منه، فالعمل الذي قدمناه لم يكن للتنفيس، وإنما لإعادة الزخم لعملية مكافحة الفساد." وبلا ريب أحدثت هذه الأعمال توتراً وشحناً ومن هنا مبعث التوجس.
الجمل +الشرق الأوسط
إضافة تعليق جديد