سامي أحمد: الكتاب كسلعة مؤجلة لدى المواطن العربي

21-12-2009

سامي أحمد: الكتاب كسلعة مؤجلة لدى المواطن العربي

الجمل- سامي أحمد:
1 ـ من " المطبعة " و" مكتبة البيع " إلى " دار النشر "
لعبت بدايات الطباعة وشروط تطورها في منطقة الشرق العربي دوراً أساسياً في بلورة الخصائص الراهنة لمحيط النشر وسوق الكتاب العربي, وأسهمت في تحديد علاقة القارئ العربي بالكتاب وبظاهرة القراءة. ولم تدخل تقنية الطباعة بالحرف العربي إلى الشرق العربي إلا مع بداية القرن الثامن عشر, وتم ذلك بواسطة البعثتين البروتستانتية والكاثوليكية في لبنان. فقد تأسست " المطبعة الأمريكية " عام 1834, ونشرت القاموس العربي " محيط المحيط " و" دائرة المعارف " في ستة أجزاء لبطرس البستاني. وتأسست  " المطبعة الكاثوليكية " عام 1846, ونشرت " القاموس الفرنسي العربي " الذي وضعه بول هوري عام 1856, و " قاموس المنجد " الذي وضعه لويس معلوف, و" أنطولوجية الأدب العربي ", كما نشرت " مجلة الشرق " لمؤسسها لويس شيخو. أما في مصر فقد أنشأ أحمد البابي الحلبي " المطبعة الميمنية " 1859, ثم انقسمت فيما بعد إلى مؤسستين طباعيتين مستقلتين. وفي عام 1870 أسس إبراهيم المويلحي " مطبعة المعارف " , وظهرت أيضاً في هذا العام " المطبعة الأهلية القبطية ". وفي الفجالة انشأ كلاً من جورجي زيدان ونجيب متري " مطبعة التأليف " عام 1890, لينفصلا بعدئذ واستقل جورجي زيدان لوحده بالمطبعة باسم " مطبعة الهلال " وينشئ نجيب متري " مطبعة المعارف ".
إن تأخير دخول تقنية الطباعة بالحرف العربي إلى الشرق العربي حتى بداية القرن الثامن عشر ـ أي بعد قرنين ونصف القرن من تاريخ ظهورها في أوروبا ـ يعود إلى سببين أساسيين, الأول ديني يرتبط بتخوف رجال الدين المسلمين من تحريف القرآن عبر استنساخه آلياً, والثاني اقتصادي يتمثل باعتراض جمعية الناسخين في اسطنبول على التقنية الجديدة التي ستهدد عملهم بالانقراض. وهكذا فإن أول مدينتين عربيتين ظهر فيهما أول نشاط نشر وطباعة هما بيروت والقاهرة, ويعود ذلك إلى تمتعهما بحرية سياسية واقتصادية نسبية مقارنة ببقية المدن العربية الأخرى. ولقد انعكست الأحداث السياسية والاجتماعية والفكرية الكبرى في النصف الأول من القرن العشرين على تنشيط حركة التأليف وظهور صفوة من الكتاب والمفكرين في العالم العربي, مما أسهم بتطوير حركة النشر وازدياد عدد القراء. فإلى جانب أحداث الحربين العالميتين الأولى الثانية فقد انتشرت حركة التعليم بشكل واسع, وازدهرت الصحافة العربية مع ازدياد أعداد المتعلمين وانتشار الحركات السياسية الوطنية, مما ترك كل ذلك تأثيره على الأوضاع السياسية والفكرية في المجتمعات العربية, وبشكل خاص على تطور حركة النشر والطباعة, فانتشرت المطابع وتزايد عدد مكتبات البيع التي تحولت إلى النشر.    
 ولم تتغير الصورة كثيراً حديثاً بعد تاريخ طويل من حركة النشر والطباعة في العالم العربي, فلا زال الكيان الاقتصادي يعتمد بشكل أساسي على أصحاب المطابع الذين ينشرون الكتب لحسابهم الخاص أو لحساب المؤلفين, مع دخول مالكي مكتبات بيع الكتب إلى الالتزام بالنشر والطباعة, وذلك إلى جانب الناشرين المتخصصين. والباحث في ظروف تحول مكتبات بيع الكتب إلى النشر يجد أن ما يزيد من تسعين بالمائة من عددها الحالي قد أنشأه أفراد, كانوا يعملون في مهنة بيع الكتب لدى أصحابها, وقد تمرسوا في أعمالها, واكتسبوا أسرار المهنة, ثم هالهم ضآلة ما يتقاضونه من أجر بالمقارنة مع مالك المتجر, فآثروا أن يكونوا هم أصحاب مكتبات خاصة بهم تتحول إلى النشر. وقد ساعدهم على ذلك خبرتهم في اقتناص المؤلف الذين اعتادوا التعامل معه, حيث سهل ذلك تحوله من ناشر إلى آخر بسهولة في ظروف عدم الرضى بالمعاملة الاقتصادية واحترام حقوقه. وسينطبق هذا أيضاً على عمال المطابع الذين يتحينون الفرصة المناسبة لإنشاء دور نشرهم انطلاقاً من معرفتهم ببعض أساليب المهنة. وبهذه الطريقة فإن أغلب دور النشر القائمة الآن في العالم العربي قد قامت على نفس المعطيات والطريقة ذاتها.
إن النشر كمهنة لها أخلاقيتها ودورها الاجتماعي والفكري بحاجة إلى تحديد علمي وعملي بسبب تكاثر المتطفلين عليها, فهناك مطابع كثيرة في المدن العربية تُصنف تحت اسم دور النشر ومكتبات توزيع تحولت على النشر, مما يسئ بالنتيجة إلى الناشر الحقيقي, وتحويله أحياناً إلى مجرد وسيط. وبالارتباط مع مفهوم الكتاب كأداة اتصال اجتماعي فإن مفهوم كلمة " نشر " هو أن تعمم, وتنشر بين أفراد المجتمع بالكلمات والصور الأفكار التي أنتجتها العقول المبدعة, والتي صاغها المحررون, والتي جهز الطابعون نسخها. فإذا ما انطبق هذا المفهوم على الكتب,فهو يعني سلسلة متتابعة ضخمة من ضروب النشاط الفكري والعملي, والتي لا يمكن لحلقة واحدة منها بمفردها أن تُسمى نشراً. ولا يكتمل ذلك فقط بتحول المخطوط إلى كتاب مطبوع, وإنما أيضاً بتوزيعه بأسواقه, والتي تكتمل بها عملية النشر. أما القيام بخدمة تحريرية فلا يعد نشراً, ومثله خدمات الطباعة والتجليد أو تنمية المبيعات فكل واحدة منفردة منها لا تعد نشراً. إن مفهوم " نشر الكتاب " يتضمن جميع هذه الإجراءات في عملية متكاملة الجوانب, سواء قامت بها مؤسسة واحدة أو عدة مؤسسات, وهو بالنتيجة يعني " جميع الإجراءات الفكرية والفنية والعملية لاختيار موضوع الكتاب وترتيب إصداره وتنمية توزيعه . وتتطلب دار النشر في هذه الشروط إنشاء مؤسسة عصرية يتم فيها الالتقاء بالمؤلفين الذين يرغبون بنشر كتبهم, وتضم جهازاً متكاملاً من المحررين والمراجعين الفنيين و المتخصصين في الدعاية والإعلان والعلاقات العامة. وينتهي عمل الناشر بإتمام إعداد المخطوطة إعداداً سليماً, وإخراج الكتاب إخراجاً متقناً, ومحاسبة أصحاب الحقوق حساباً عادلاً, ومن ثم تسليم الكتاب مطبوعاً إلى مكتبات البيع والتوزيع. ويجب أن تتأطر هذه العمليات كلها برؤية ثقافية فكرية للناشر, تجعل من كتبه الخاصة به تعبر عن مشروع ثقافي خاص بدار نشره, يسهم من خلالها بتنمية مجتمعه في مختلف المجالات. وهذا الشرط الأخير هو الذي يتناساه المتطفلون إلى مهنة النشر, لا فرق كبير من أن يكون ناشراً أو بائع ملابس, فالمهم بالنسبة له هو ما يدر مالاً أكثر.   

2ـ  المؤثرات السياسية والفكرية التاريخية على نشوء حركة النشر العربية وتطورها
مع انتهاء النصف الأول من القرن العشرين انعكست الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية على مهنة النشر والطباعة, وبخاصة ارتفاع أسعار الورق ومواد الطباعة, وارتفعت أصوات المؤلفين بالشكوى من استغلال الناشر لحقوقهم. لكن الأهم في التطورات الجديدة التي ستؤثر على مجال النشر والطباعة هو أن المسؤولين في الدول العربية بدءوا يدركون أهمية هذا القطاع وضرورة السيطرة عليه. فحتى هذه الفترة كان التنافس القوي في مجال النشر قائم أساساً ما بين بيروت والقاهرة, إلا أن قيام ثورة يوليو في مصر سنة 1952 وسيطرتها على قطاع الطباعة والنشر ـ كأحد مظاهر سيطرتها على الحياة السياسية والفكرية ـ أبعد القاهرة عن المنافسة.
 وتفوقت بيروت في مجال النشر والطباعة لاعتبارات سياسية بالدرجة الأولى, وذلك بسبب مرونة النظام السياسي الليبرالي اللبناني فيها, إضافة إلى أنها أضحت العاصمة الوحيدة في العالم العربي لإمكانية التنافس بين التيارات السياسية العربية بكافة تلاوينها وتدرجاتها السياسية, والناهضة بكثافة في تلك الفترة, من الحركات القومية والماركسية. ففي صراعها على الوصول إلى السلطة بلدانها وبسط نفوذها على المنطقة العربية, سارعت هذه الحركات إلى تأسيس وتمويل دور نشر من منطق كونها أحزاب ومنظمات سياسية ليس إلا, يهمها بالدرجة الأولى نشر كتبها السياسية والإيديولوجية الدعائية لها. وقد ساعدها على ذلك أنها كانت موطن تأسيس أحزاب وجمعيات سياسية عربية وإقليمية, معارضة لأنظمة الحكم في بلدانها, إضافة إلى تكدس رؤوس أموال عربية فيها. وهذا يعني أن بيروت لم تكن مدينة إبداع, بقدر ما مثلت من مناخ سياسي منفتح لدخول العقول العربية, وخاصةً الهاربة من أنظمة بلدانها القمعية والديكتاتورية, وذلك لممارسة نشاطاتها السياسية والفكرية. وستتطور الأوضاع العامة في بيروت بعد هزيمة 1967, والتي قدمت على أثرها إلى هذه المدينة مختلف المنظمات الفلسطينية وأحزاب اليسار العربي الراديكالي, لتجعلها مقراً رئيسياً لنشاطاتها. وستؤكد بيروت ميزتها الريادية في مجال النشر على القاهرة بالأدوار الثقافية والفكرية التي قامت بهما في هذه الفترة, ففيهما ستصدر على سبيل المثال مجلتي " شعر " و " الآداب ", اللتين لعبتا دوراً رائداً على مستوى الإبداع ونقد التاريخ, وفيما بعد مجلة " مواقف " التي أسسها أدونيس بعد هزيمة 1967, ومنعت وصودرت في أغلب البلدان العربية بسبب تعريتها السياسية والفكرية والتاريخية للواقع العربي. وعلى المستويات الفكرية والأدبية ستتطور الرواية والقصة في تعبيراتهما الأدبية عن المد القومي واليساري بشكل عام, وذلك إلى جانب الشعر. 
وبدءاً من ثمانينيات القرن الماضي مع انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية وظهور بدايات إخفاق " المشاريع الثورية " في الواقع العربي, أخذ نشاط دور النشر اليسارية في بيروت بالانحسار شيئاً فشيئاً, ولكن بالمقابل بدأت تتأسس دور نشر ذات مشاريع ثقافية مستقلة. ولكن الأهم هو بدء ظهور دور النشر الدينية بالارتباط مع صعود المد الديني في العالم العربي بأشكاله التنظيمية والشعبوية المختلفة. وستتراجع أولوية حركة النشر في بيروت والقاهرة منذ تسعينيات القرن الماضي بسبب الانفتاح الرسمي على مؤسسات النشر في القطاع الخاص في دول عربية, مثل سورية والأردن والسعودية ودول المغرب العربي, وهو ما سينشط حركة النشر وينقل بعضاً من ثقلها خارج بيروت والقاهرة. وبالرغم من هذا التطور في حركة النشر إلا أنه لازالت هناك مشاكل عامة كبرى تعاني منها, اقتصادية ومهنية وسياسية, وتأتي على رأسها مشكلة الرقابة التي تشكل الحاجز الأكبر على حرية الفكر والتعبير, وبشكل خاص على ترويج الكتاب. ولذلك يلجأ بعض الناشرين إلى بيروت بشكل خاص لنشر كتبهم التي تمنع في بلدانهم. والأمثلة كثيرة على هذا الهروب من الرقابة الرسمية, يقابله مصادرات لعناوين كثيرة في معارض الكتاب في العالم العربي, حتى في تلك المعارض التي يُظن بأنه لا تخضع للرقابة, مثل بيروت والقاهرة.

3 ـ الأزمة الثقافية المعرفية لاتحاد الناشرين العرب
مع ازدياد الأزمات المختلفة أمام الناشر العربي, من ارتفاع أسعار الورق ومواد الطباعة ارتفاعاً باهظاً ومشاكل الرقابة الرسمية وكثرة الخلافات بين الناشرين والمؤلفين, أحس الناشرون بضرورة التجمع مهنياًً لمواجهة هذه الأزمات الدائمة والمتكررة. ولكن مع غياب تحديد علمي واضح لمهنة الناشر فإن مفهوم النشر مازال متأثراً بفكرة الالتزام بالمهنة من خلال تاريخها التقليدي الموروث, ولذلك سمي الاتحاد الأول الذي أنشأ في القاهرة سنة1951 " الاتحاد المصري العام لدور النشر والمكتبات ", فكان لابد من الفصل بين النشر كمهنة ومكتبة البيع كعمل تجاري.
ومنذ الاجتماع الأول لاتحاد الناشرين وأصحاب مكتبات البيع والخلاف على أشده, فلم يكن حديث الأعضاء يدور حول تحديد مفاهيم المهنة والتطلع على ترقية شؤونها الفنية والتجارية, ولكنه كان حديث تحزب ومنافسة... أيهما يكون الرئيس وأيهما يكون الوكيل ؟ إذ إن استغلال المناصب يُكسب أصحابها سمعة تسوق إليهم المزيد من المؤلفين والعملاء, والمراكز القيادية ذات بريق في مجال العمل التجاري بمكن الاستفادة منه, فلماذا لا ينصرف كل عضو لتأمين مصالحه ولو على حساب المهنة ذاتها ؟ وانتهى الوضع في الاجتماع الأول إلى الأخذ بمبدأ الأقدمية المطلقة, والذي تم تفسيره في العام التالي إلى التحول بأن أصبحت المراكز القيادية من نصيب أصحاب الحزب الأكبر. ومع قيام ثورة يوليو 1952 توقف العمل بهذا الاتحاد حتى بداية 1961. وفي هذا العام تعرض الناشرون في القاهرة لأخطر هجوم في مجلس الأمة, والذي تناول دور النشر واستغلالها للمؤلف, وجوانب التأليف والإنتاج, وتصدير الكتب واستيرادها. وقدمت دور النشر وقتها مذكرة شاملة من قبل مالكيها, لا باسم اتحاد الناشرين المصريين.
إذاً نحن في نفس الأزمة التي طرحت في العام 1961.
فإذا ما تمعنا النظر في هذا المشهد الذي حدث في خمسينيات وبداية ستينيات القرن الماضي فيمكن إسقاطه درامياً على ما يحدث في كثير من الدول العربية. فاتحاد الناشرين السوريين على سبيل المثال الذي استحدث بالمرسوم الجمهوري عام 2004, لم ينعقد المؤتمر التأسيسي له إلا في العام 2006, حيث تم انتخاب أعضاء المكتب التنفيذي على شكل تكتلات شكلية ذات طابع إسلامي. وحتى الآن لا توجد خطة عمل ومن دون تواصل حقيقي مع جميع دور النشر, إذ المنافع الشخصية التي ذكرناها مع أول اتحاد مصري تتكرر في تسويق المصالح الشخصية باسم الاتحاد. فالمراكز يتم الوصول إليها بلعبة التوازنات والتكتلات القائمة على الأقدمية, هذا دون الحديث عن عجزه الفكري والثقافي وابتعاد السمة الديمقراطية عنه في تجييره إلى التوجه الإسلامي. وهكذا يتحول اتحاد الناشرين العرب في أعماله إلى احتفالات رسمية وولائم بعيداً عن القدرة على حل المشاكل المتزايدة أمام الناشر العربي.
إن أغلب أعضاء المكاتب التنفيذية في اتحادات النشر العربية لا يعرف أو لا يهتم بوجود إشكالية فكرية عميقة تتعلق بظاهرة القراءة على مستوى المجتمعات العربية, وهم يستندون إلى نماذج محددة طبعت عدة مرات بنسخ تجاوزت فيها أرقام قياسية غير متوقعة. وهناك من سيقدم أمثلة استثنائية لها, من مثل " لا تحزن " و " لا تضحك " و " أهوال القبور" و " فتاوى الأئمة النجدية "و " اعتني بجسمك وأسنانك " و" صدام مازال حياً " ونسيان كوم. وبالتأكيد يمكن تأطير نجاح هذه العناوين ضمن مفهوم " ثقافة الاستهلاك "  أكثر مما يمكن ربطه بمشهد ثقافي عربي متفاعل مع بيئته, وكلها عناوين هدفها الثرثرة والاستخفاف بعقل القارئ. آلاف العناوين تطبع سنوياً باسم حاجات السوق ورغبات القارئً لدى ناشرين لا يمتلكون أية خطة نشر ثقافية سوى أهداف الكسب التجاري, تزيد من تخلف المجتمعات العربية. وهم لا يستفيدون فقط من انتشار ثقافة الاستهلاك باللجوء إلى جميع الوسائل غير المشروعة لبيع كتبهم, كما يحدث على سبيل المثال في " رشوة " اللجان المختصة بشراء الكتب في المعارض العربية لصالح الجامعات والمؤسسات الرسمية. لكن أزمة تراجع النشر موجودة, فخارج تصريحات هؤلاء الناشرين المتكسبين من الجهل في مجتمعاتنا, فإن هناك إشكالية حقيقية تتمثل بشكوى الناشرين من عدم قدرة السوق على استيعاب وتصريف عناوين بألف نسخة, بعد أن كان يُطبع سابقاً من العنوان الواحد ما يزيد على ثلاثة آلاف نسخة. والبعض أخذ يشكك بجدوى الاستمرار بعملية النشر أمام اجتياح العصر الإلكتروني بمنظوماته السمعية ـ البصرية. ويزيد من أزمات الكتاب في العالم العربي الرقابة البالية في عصر اختراق كافة الحدود من قبل الفضائيات التلفزيونية وشبكات الانترنيت, إضافة إلى العوائق الجمركية ومشاكل التسويق والمعارض العربي, التي تقف اتحادات الناشرين عاجزة عن فعل شيء أمامها.
إن بناء السياسات الصحيحة والعملية لاتحاد الناشرين ترتبط بمعطيات دور النشر من العناوين المطبوعة وعدد النسخ من كل عنوان ومدى تسويقها, وبالتالي فإنها لا تقوم إلا على الإحصائيات الدقيق المنظمة بطريقة علمية. ولكن الإحصائيات العربية في مجال النشر غير دقيقة بسبب غياب المناهج العلمية والباحثين المؤهلين لمثل هذه الأعمال,  وما هو موجود حتى الآن يتسم بالعشوائية وتداخل المصالح الشخصي بإدخال أرقام عالية غير متناسبة مع الواقع لرفع سمعة ناشر على آخر بأسس وهمية. وغياب السياسات القائمة على دراسة واقع الكتاب والأعمال الإحصائية العلمية تعد من معوقات نهضة الكتاب العربي وتطوير مهنة النشر.
4 ـ بعض مظاهر أزمة اتحادات الناشرين العرب
تتبدى بعض مظاهر أزمة اتحادات الناشرين العرب التي تنعكس على حل مشاكل وأزمات مهنة النشر وتطويرها بما يلي:
1 ـ غياب أخلاقيات المهنة التي من الممكن أن تجمعهم على أهداف مشتركة في إطار نشاطهم العام.
2 ـ نقص الدراسات العلمية والإحصائية في موضوع الكتاب العربي, والمتعلقة بمعرفة توجهاته ووسائل إنتاجه وطرق تسويقه.
3 ـ ضعف الخطط من أجل الإعلان والترويج للكتاب, مما يزيد من أزمة الابتعاد عن الكتاب.
4 ـ عدم القدرة على مواجهة إشكاليات الرقابة الرسمية والدينية في البلدان العربي.
5 ـ غياب الخطط الناجحة التي تعترض مسيرة الكتاب, وخاصة في انتقاله من بلد عربي إلى آخر, من قوانين التصدير والاستيراد والضرائب الجمركية.
6 ـ عدم القدرة على حل مشاكل الاحتيال والنصب والتزوير وسرقة حقوق النشر من قبل الناشرين المتطفلين, وخاصة مع غياب القوانين والضوابط الرادعة والإشهار بحق المخالفين.
5 ـ أزمة القراءة عند المواطن العربي
لماذا لم نعد نقرأ ؟
قيل قديماً: سمي الكتاب كتاباً لاجتماع الحروف فيه, كما سمي العسكر كتيبة لاجتماع الجند فيها.
إن أزمة الكتاب في العالم العربي تنبع من الأزمة الثقافية العامة, وهي مظهر من مظاهر الأزمة التي يمر بها على كافة المستويات. فقد أسهمت الأنظمة القمعية في تعميق هذه الأزمات بعسكرة المجتمعات العربية, سواء كانت بأشكال سلطات العائلة أو القبيلة أو العشيرة, مما كان يعني تغييب العقل تحت سلطة الخوف.
ويمكن تحديد أزمة القراءة الحالية في العالم العربي بعوامل عدة, منها:
1ـ نظام التلقين والحفظ والمطبق في المدارس والمعاهد التعليمية والجامعات, والذي يتعرض له الأفراد منذ طفولتهم إلى انتهاء دراساتهم الجامعية. وبنتيجة هذا فإن نسباً عالية من خريجي الجامعات لا يقرأ بعد انتهاء دراساتهم الأكاديمية, ومنهم من يتبوأ مناصب رسمية في الدولة وفي مواقع اتخاذ القرار.
2 ـ ضعف السياسات الثقافية في البلدان العربية, مما يؤدي إلى توليد الأزمات الثقافية المستمرة. والمسؤولون عن تنفيذ هذه السياسات غالباً ما يكونون إداريون بيروقراطيون لا يملكون رؤية سياسية واجتماعية لما تعانيه المجتمعات العربية من أزمات ثقافية, وهم يستلمون مناصبهم عادةً بسبب انتماءاتهم إلى العائلة أو القبيلة أو الطائفة أو الحزب الحاكم, مما يعد تكريماً لولائهم, ويسهم بالتالي بتخريب المؤسسات الثقافية وتلك المفترض أنها تدعم الحركة الثقافية العامة، ويستبدل مفهوم إدارة الثقافة إلى مفهوم " ثقافة إدارة الفساد".
3 ـ ثورة الاتصالات والمعلومات التي تحولت في العالم العربي إلى مظاهر استعراضية دعائية لتجميل الوجوه الجديدة للأنظمة العربية. والدخول على الإنترنيت في العالم العربي ليس هو دخولاً معرفياً بقدر ما هو محولة لخرق المحرمات والممنوعات التي تتيحها المواقع الإلكترونية, بالرغم من المحاولات التقنية من قبل السلطات لحجبها.
4 ـ الأزمات الاقتصادية الطاحنة التي يعيشها معظم أفراد المجتمعات العربية, والتي تنعكس على تحديد الحاجيات الضرورية في حياتهم, ويتراجع فيها الكتاب إلى مواقع كمالية.
5 ـ تحول الفرد في العالم العربي من " مواطن " إلى " مستهلك " بالارتباط مع ثقافة الاستهلاك التي يعيشها بصرياً ونفسياً وعقلياً.
6ـ  انهيار الطبقة الوسطى في المجتمعات العربية اقتصادياُ وروحياً المنتجة الأساسية تاريخياً للإبداع والفعل المعرفي والثقافي, وذلك نتيجة سياسيات الإفقار لها وثقافة الفساد التي تحاصرها.
7 ـ انهيار وإخفاق " المشاريع الثورية " التي ارتبطت بالأحزاب الراديكالية, مما أدى إلى توقف الحراك السياسي وتوجه الشباب إلى " المعابد الدينية " كحالة تعويضية.
        8-    مشكلة تراجع القراءة ليست مرتبطة بمشكلة غلاء الكتب وحسب وإنما بتغير  المفاهيم والقيم التي تسود المجتمع في تحولاته إلى العلاقات السطحية والنفعية والانتهازية السريعة في إطار ثقافة الاستهلاك وإن المشكلة ليست في الأفراد، وإنما في علاقات اقتصادية واجتماعية فرضها تخلف سياسي تاريخي وبنية بطريركية عصبوية قمعية، تعمّقها أنظمة الحكم باسم الإله والوطن وتكريس هوية الخوف من القمع، مما جعل لهؤلاء الأفراد متنفساً في ثقافة الاستهلاك التي حققت لهم المتعة الخيالية.
9-التيارات الدينية الجديدة التي تخلت بتياراتها عن مشاريع عصر النهضة التي أعلنها مصلحو القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين باعتدالية واضحة وبدأت تأخذ منحى التوجه نحو السلطة وامتلاكها بالعنف، متقوقعة خلف مراجعها السماوية، "لأن أغلب الشباب العربي روحاني وقد شدّه المد الديني"، مستفيدين من إخفاق المشاريع القومية والماركسية التي وصلت إلى طرق مسدودة في نهاية القرن السابق.
10-تحول المثقف الماركسي والقومي إلى يوم الجمعة ويوم الأحد، مما أدى أيضاً إلى تفريغ الحياة السياسية من الهوية الثقافية.
11-تحول غالبية النخبة المثقفة إلى أداة بيد الأنظمة السائدة، وأحزابهم، غدت تابعة للنظام بدلاً من أن تكون حراك سياسي ثقافي فعّال.
12-السلطة البطريركية العشائرية التي تحكم في العالم العربي تحت مسميات الحزب وتنظيمه، بحيث يصبح زعيم القبيلة "القائد الملهم" بوجهيه العسكري المسيطر والأيديولوجي المتواري خلفه، لأنه الحاكم باسم الإله على الأرض.
13-الثقافة العربية الآن، تعيش على مصطلح فلسفي جديد أسميته الأيدزلوجية، وهذا المرض الذي نعيشه، ونألفه- كان  جزءاً من تراثنا الثقافي العربي -    وصار جزءاً من حياتنا اليومية الحديثة والمدنيّة، وهو فقدان المناعة  المكتسبة  في عقولنا التي أغلقنا عليها أبواب القدر، وصرنا بها نقعي على مؤخراتنا كالفقمات،  مصطلح جديد يُضاف إلى ثقافتنا. 
14-عزل كتّاب جادين عن مسرح الكتابة بتهمة أنهم دعاة للثقافة الغربية ويهددون السلم الأهلي، والاطمئنان المعرفي .
15-تحول الناشر إلى مجرد وسيط تجاري بين المؤلف والمطبعة ، وانعدام القوانين المشتركة والأخلاقية بين الناشرين ورقابة الكتب في المعارض.
على هذا النحو تحولت المؤسسات الثقافية العربية إلى مراكز تعبئة وتجييش للدفاع عن الواقع القائم الرديء للاستمرار في كراسيها حتى الموت، وكأن هدفها إنتاج "لا ثقافة" (تجهيل) ورفض حق الاختلاف.
فمشكلة الثقافة العربية لا يمكن حلها إلا بعودة الطبقة الوسطى، وإعادة الاعتبار للمناهج العقلانية والرؤى الإنسانية، لأن العالم العربي الآن محكوم بكتب الغيب وخلافات تراثية فقهية لا تقدم، ولا تؤخر ولكنها فقط تؤدي إلى ضياع للوقت لإنهاك الثقافة العقلانية واحتلال مواقعها التي نحن بحاجة إليها كالهواء.
المطلوب الآن حراك ثقافي حقيقي وفعال، يعيد إلى الحياة الثقافية ألقها وقوتها بعد غياب طويل، لأن الثقافة اليوم تحتاج إلى أعصاب تمنحها رعشة جديدة. وتجسيد هذا الحراك يتمثل في تفعيل المؤسسات الثقافية ومجلاتنا وصحفنا التي تبدو وكأنها بلا جذور أو إرثٍ ثقافي يعرفه العرب. لا تبدأوا من الصفر، لا تُعيدونا إلى الوراء، رجاؤنا الوحيد أن يتولى مسؤولية الثقافة من هو قادرٌ على النهوض بها والانطلاق من النقطة التي بلغتها بدلاً من الرقص حولها والنقيق كالضفادع ..

الجمل

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...