'سحابة صيف: عمل درامي ينتصر للفن ويتنافس مع واقع مهزوم

19-09-2009

'سحابة صيف: عمل درامي ينتصر للفن ويتنافس مع واقع مهزوم

قال لها 'عماد الناجي': 'لك إنت والله طيبة ما بكي شي ليش سويت بحالك هيك؟
فردت عليه بائعة الهوى: 'اسأل اللي بوزع الأرزاق' !
لا يعتمد هذا العمل الدرامي في نصه على بناء الحدث برؤية قدرية تماما كما تجد في الكثير من الاعمال الدرامية العربية على سبيل المثال، رغم أنه لا يتخلى عنها أيضا، فهي حاضرة بشكل سري لا يعلن عن نفسه الا بايحاءات مبطنة غير صريحة مما يعزز ايمانك بالقدر كسر ثانوي، وهي رؤية فنية استطاعت تجاوز العامل القدري كبطل درامي يتحكم بمجريات الحدث . فحتى وإن كان توزيع الارزاق يتم بارادة عليوية إلا أن الإرادة الدرامية لها الدور الأكبر بقسم تلك الأرزاق حسب ما يتطلبه النسج الإبداعي الذي أجادت إيمان السعيد حبكه بشكل يفوق الروعة.
إنك لا تتابع حدثا منفصلا عن النص فالنص هو دليك الذي تهتدي به الى سير الحكاية، وإن كانت ذاكرتك البصرية ستعتمد بالدرجة الاولى على المشهد الا ان المشهد لا بد ايحاء ينبثق من صلب الحكاية. وإلا فأية ذاكرة بصرية تلك التي يمكن لها أن تكون دون الاستناد الى نص يبني لبناتها المشهدية وينهض بها؟!
مروان بركات كان وفيا للحكاية الدرامية بحيث أضاف إليها بعدا إبداعيا رديفا برع في تشكيل منظومة بصرية أشبه بلوحة متحركة الشخوص لا تستقر على جدار بل تتنقل بك من نكبة الى نكبة بما ان النكبات بلاد وأمكنة وطرقات لها أقدام شائكة وجسد وعر!

هي قصة المساكن العشوائية تلك التي تقوم على اطراف العواصم فتقترب من شريط التماس مع مدن لا تنام الا بصعقات كهربائية حادة، تنتقل عدواها الى اولئك الذين هاجروا من الريف او من المخيمات حتى، ومن أمكنة مجاورة تعرضت لنكبات سياسية واقتصادية واجتماعية مريرة فتوافدوا أفواجا، وتزايدت أعدادهم تبعا لظاهرة النمو الحضري ومعدلات الزيادة الطبيعية التي تشهدها المدن النامية، والتي لم تستطع حتى الان ان تتكيف مع هذا الوضع، أو أن تعمل على وضع استــيراتيجية تنموية لتلبية احتياجات السكان في تلك المناطق وتنهض بالمستوى الصحي المتردي لهم، بل أنها عاجزة عن تعزيز وجودها الأمني هنالك وقد تحولت تلك البؤر السكانية إلى أماكن مغلقة يصعب السيطرة عليها في بعض البلدان العربية، مما احالها إلى ما يشيه الأوكار التي تؤوي الجريمة وتصدرها الى المجتمع، فتتفاقم المشاكل الاجتماعية والبيئية والاقتصادية طالما انها لا تتقيد بقوانين ملكية الأراضي بل إنها لا تعتبر أصلا ضمن نطاق الخدمات الحكومية.
مشكلة لم يتم طرحها دراميا بهذه الجدية وهذا التوسع والوضوح، رغم انها من احدى أهم المشاكل التي تعيق تطور المجتمعات العربية، بل انها كانت احد اهم القضايا المركونة في سلال المهملات الدرامية، ربما لانها تعبر عن واقع عربي مغبون بسبب الفساد الاداري المتفشي والاعتماد على المحسوبيات التي تقف حائلا آخر امام اي اجراء رسمي ممكن ان يتخذ في سبيل الحد من هذا الطاعون المجتمعي .
استطاعت إيمان السعيد ان تخترق كل الحواجز حينما اقتحمت ذلك العالم في عملها الرمضاني الذي يبث على عدد من الفضائيات العربية، فرسمت شخصياتها بدقة متناهية مستندة الى وعي سياسي عميق له الاثر البين على التنامي العاطفي والتطور السيكولوجي المحسوب لكل شخصية هي نتاج نكبتها التي أفرزت وجودها داخل ذلك النطاق العشوائي.
النسج الابداعي يوشج العلاقات بين عناصر الحكاية دون ان يلجا إلى إي إقحام أو تلقيح اصطناعي يلغي تلقائية ذلك التواشج ويخل بتوازنها، لذا فإن العلاقات كانت تتناسل بشكل طبيعي بحيث يرافقها القدر الدرامي الذي تحدثت عنه في مستهل هذه الكتابة ضمن تصاعد عام في الرؤية والحدث والتوترات المشحونة بانفعالات هي محصلتها بالتالي ابنتها الشرعية وليست افتعالات عاطفية بالتبني. وهذا ما يخلق حبكات تتفتق من رحم بعضها بعضا فيمسك بزمام التشويق الدرامي على طول الخط .
الأداء الحقيقي الحساس ليس هو ذاك القادرعلى التقمص فقط، فتلك مهارة تتحول مع الدربة والمراس الى عامل مهني وليس ابداعيا، الابداع يكمن بالاحساس بمكنون الشخصية حتى يوقعنها على الشاشة بعيدا عن تقمصها المجرد، الاحساس بها درجة الانصهار بتفاصيلها: هندامها، لهجتها، حركاتها، سلوكها، مزاجها، اضطراباتها النفسية غير المرئية، ثقافتها الشعبية الخاصة بهويتها المحلية، حضورها المكرس في أمكنة غائبة، أفراحها الصغيرة التي لا ترى بالعين المجردة، آلامها في العتمة، كلها بواطن لايمكن لغير الابداع الحقيقي ان يكشف عنها .
بسام كوسا، كان ذلك العجوز الفلسطيني النازح منذ النكبة الى ذاكرته التي هي عيونه المركبة للوراء، فهو لا زال ابن ماضيه، عزة نفسه وانتماؤه لجذور مترفة تدفعه لرفض واقعه، وعدم قبول معونات الاونروا لانه صاحب ملك غبر ...
شخصية ديب العجوز هي الشخصية الرافضة المتمردة الانيقة جدا الحميمة القاسية، بعلاقاتها المركبة مع من حولها، ترفض الشفقة وتمد يد العون للمحتاج وتعلن لحظة سقوط التمثال امام الشاشات ان نكبة بغداد ليست سحابة صيف اخرى كتلك التي مرت بفلسطين ولم تنقشع بعد ..
هذا العجوز الذي يرفض قطع ساقه كي يموت واقفا كاشجار محمود درويش، يواجه هزيمة أخرى امام السكري ويمشي بدرب مستعارة، مغالبته للضعف، لهزائم متوالية انعزاله بعد البتر، تمنعه عن الطعام كلها مظاهر مقاومة يائسة لهزيمة الروح امام جبروت الجسد !
شخصيته الصارمة مع اسرته كأغلب اولئك الفلسطينيين الذين اعرفهم ما هي الا نوع من التعويض عن ذلك الخسران الكبير للمقدرة على التصدي لمن سلبوا كرامتهم وبيوتهم وارضهم .
خسران تعززه محاولات التعويض عنه، إنه لعب مع الحياة مخادعة متبادلة بين البطل والذاكرة، والا ماذا تسمي تكراره لشتيمة عزيزة على قلبه: 'يلعن أبو تاريخك' فالتاريخ لعنة ولكنه أيضا ملعون !
سمر سامي الحجة الفلسطينية لم تكن اقل روعة من ذلك العجوز، نديتهما، لحظاتهما الحميمة، مشاكستهما، أسرارهما، فراش نومهما، حوارهما السري، قدح شايهما، كلها أشياء عبرت عن شكل آخر للنضال الفلسطيني، عبرت عن ماساة اللاجئ في الدول العربية، وهي مأساة لم يتطرق اليها من قبل أي عمل درامي آخر، بل تجلت براعته بشموليته ومقدرته على استيعاب وضم كل عناصر المجتمع السوري من اهل الريف والمدينة والمهاجرين اللاجئين الفلسطينيين والعراقيين والدروز والبدو، فسجل سابقة في تاريخ الدراما العربية، لعمقه البعيد كل البعد عن الشعارات والاستعراضات النضالية والثورية التي تكتفي بالهامش ولا تنتقل مع المأساة وراء الجدران والغرف الموصدة.
لهذا النص خصوصية مختلفة فليس يسعى الى تناول النكبة كحكاية مستقلة بذاتها، إنما يأتيك بالنتيجة ضمن واقعها الحالي المندمج بجغرافيا اللجوء الراهن.
وخذ مثالا آخر لشمولية ذلك العمل، فالدرزي الذي يتزوج بحبيبة تنتمي لذات المذهب يعبر لك عن مأساة الدروز بين الجولان وراء الأسلاك الشائكة وبين الشام، ذلك العرس الذي حضره العجوزان الفلسطينيان كرس لديهما مرارة الذاكرة وهما يشاهدان العلم الاسرائيلي مرفرفا فوق ارض عربية تم فصلها كقومية مستقلة عن القومية العربية ضمن سياسات 'فرق تسد' .
هذا ليس عرسا ضمن نشرة اخبارية على قناة الجزيرة، انما هو حدث درامي يعبر عن معاناة الدروز في ظل االاحتلال مما يعكس شتاتا آخر هو نتيجة ذلك التاريخ الملعون ذاته !
أما الواقع العراقي فوطأته طازجة بطزاجة ألمه، فهاك الثارات اللاجئة مع اهلها اللاجئين، وذلك المقعد الذي يطلب من زوجة ابنه ان تريحه من الحياة لان الحياة عبء ثقيل بعد بغداد.
ثم تلك المجنونة، التي يصحبها الى السينما احد صبية الحارة، بحيث تنقلهما الصدمة التي واجهتها مجرد التعرف الى ذلك الكائن العجيب نقلة مرتدة الى واقع ليس اقل صدمة: الجنون.
احدثك عن ماذا وماذا عزيزي القارئ، عن بطولة مطلقة لواقع ابداعي ؟

هذا عمل أطاح بكل الدراما العربية في رمضان تفوق بجدارة ليس لان ساحة المنافسة كانت خالية أمامه بل لان منافسه الحقيقي كان الواقع المستمد منه، وما أصعب ان تنافس الحقيقة! فهل ستكون أكثر صدقا وواقعية وحقيقة منها ؟ هنا التحدي الابداعي !
لن اقول أن سحابة صيف تفوق على الواقع كي لا يكون في الحكم شطح خارج عن اطار المنطقية انما ساقول انه أكمل الواقع اذ عراه ونقله بكل تلك الخفة الى شاشة ربما كانت عمياء لم تستطع من قبل سحابة صيف أن تبصره جيدا !
لن اقول ان سحابة صيف كان مجهرا ولن اقول صورة ولن يكون بالتالي انعكاسا انما ساقول انه عمل ابداعي متكامل اشبه بالصحوة الفنية الواقعية الانسانية تضافرت فيه جميع عناصره لمصلحة تميزه بجدارة تليق باحساسه ومصداقيته النابغة فالصدق وحده لا يكفي، انك تحتاج الى نبوغ يعزز المصداقية كعامل ابداعي .

كيف تميزت تلك الحياكة المتقنة للعلاقات بين الشخوص؟
ساوضح بالامثلة ...
كاريس بشار الممرضة الفقيرة التي تعيش في نفس الحي ارملة لها ابنة وحيدة، يتحرش بها جارهم الشاذ، فتقوم الام بطعنه ينقل للمستشفى وتزج هي في السجن، كيف تلتقي ببطلة العمل الاخرى نادين؟ يلتقيان في السجن في الحلقات الاخيرة من المسلسل، ما العلاقة بينهما؟
ان المحامي الذي سيتسلم قضية كلاريس، هو نفسه من رشحه بطل العمل عماد الناجي للدفاع عن المسجونة التي تكون صديقة احدى موظفاته، وهو نفسه حبيب نادين القديم، وهما والدا الفتاة التي يتزوجها ابن العجوزين الفلسطينيين .
تامل كيف تلتقي العلاقات والابطال كيف ينتمون الى ذات النسيج كيف تلتقي خيوط النسج بذكاء فائق لا يشوبه اي حمق او سخافة او عبث و'لت حكي' فالنسيج ليس مثقوبا حتى تتساقط منه الحكاية وتتبعثر وتتشتت او تختلط فتتشوش ملامحها. بنيان عاطفي متماسك سينتمي الى راهنه ولن يعتاش على ذاكرة الالم وحدها، رغم ان الالم بطله الرئيسي، إنه فلك دائري من العلاقات الانسانية تفضي الى بعضها لتنتهي الحكايات المهزومة كلها بنصر تموز/يوليو كما سيتضح لاحقا، فهل سيكون ذلك النصر كافيا لغسل كل اثار النكبات ومحوها ام ان هزائمنا جزء منا لن يسهل علينا ان نصدق غيرها او نصاحبه كذاكرة ونرثه كحاضر طازج؟

لينا أبو بكر

المصدر: القدس العربي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...