غسان الرفاعي: المثقفون المــلاكمـون الجــدد
-1-
يحاول جيل من المثقفين الذين يطلق عليهم في الأدبيات المتحذلقة اسم (الملاكمين) أن يمارس هواية (الحفر تحت التضاريس التاريخية) لاستخراج ما يمكن أن نسميه (الأمة الغربية). بحجة أن إنقاذ الإنسانية يتوقف على انتصار القيم الغربية أمام احتشاد البربريات الشرقية التي تزحف حاملة معها الهوس الديني والجنون الاثني والإرهاب الحضاري، وأن الدعوة إلى (الأوربة) أو (الغربنة) تجتاح اليوم الدول والأقاليم والكيانات في الغرب، في حين يتفسخ الشرق دولاً وأقاليم وكيانات، وتتصاعد الدعوة إلى رفض الآخر، بل إلى تصفيته أو محاصرته في (غيتويات) اسمنتية مسيجة. أليس من المذهل أن يسعى الجميع في هذا الغرب الذي ارتكب بعضه المجازر ضد البعض الآخر إلى التجانس وتذويب الفروق، في حين يتفانى الكل في الشرق إلى التشظي والتفتت قومياً وطائفياً وجغرافياً وتاريخياً؟
-2-
(الملاكمون) متخاصمون، متنابذون، يتعذر تعليبهم في صندوق متجانس واحد، ولا تنتظمهم إلا فكرة مرذولة واحدة ولدت في 11 أيلول 2001، وتقوم على ضرورة صياغة انجيل موحد لحماية الحضارة الغربية من مخالب بربرية حاقدة، وترفض العلمانية وتسخر من الديمقراطية وتتسلح بالارهاب، وتخوض صراع الحضارات متسلحة بالحزام الناسف، على أن هناك سمات متشابهة تجمع بين شتات مثقفي (الملاكمة).
أولها: الزعم بأن الغرب في حالة حرب وأن هذه الحرب بدأت ولا يجوز أن تنتهي إلا بالنصر الساحق. لقد انطلقت في ذلك التاريخ حركة عدوانية ضد الحضارة الغربية والقيم المسيحية – اليهودية، وليست القاعدة إلا الواجهة العلنية، في حين تختبئ وراءها قوى مستترة في العراق وفلسطين وأفغانستان والشيشان والفضاء الإسلامي الواسع في كل مكان. لقد استهدفت هذه الحركة نيويورك ثم مدريد ثم لندن وهي تستهدف باريس على أيدي (أوباش الضواحي) كما سماهم «ساركوزي» ذات يوم.
ثانيها: هناك طابور خاص متحالف مع هذه الحركة العدوانية هو اليسار التقدمي, أو ما تبقى من هذا اليسار, الذي نجح في تأجيج كراهية سوداء ضد الولايات المتحدة التي تزعم أنها تحمي الحضارة الغربية بكل شجاعة, غير مكترثة بالهيستريا التي يثيرها (المتخاذلون) في كل مكان وليس موقف المهادنة الذي ينادي به بعض زعماء العالم في الغرب والشرق الأقصى وأميركا اللاتينية, إلا تخاذلاً مرفوضاً لأنه (استقالة وطنية) وهروب من المقاومة, ولا يقتصر هذا الطابور الخاص على المهادنين بل لعله يجسد بشكل فاقع الجيل الجديد من المهاجرين الأفارقة والعرب الذين يحيطون بالمدن الأوروبية الكبيرة, وهؤلاء لا يخفون عداءهم للغرب والسامية, ولا يمكن امتصاص عدوانيتهم بالاندماج ولا بالمعاملة على قدم المساواة مع المواطنين الأصليين.
ثالثها: هناك (أغبياء نافعون) في هذه الحرب الكونية يتصنعون العطالة الذهنية (الملائكية) والإيمان الساذج بالإنسانية المفرطة وهؤلاء يرفضون أن يعترفوا بوجود هذا الشر البربري, لا يكترثون بخطر الشمولية والأصولية التي تفوق الشموليات الغابرة تطرفاً ورعباً وهولاً، هؤلاء لا يقدرون حق التقدير الدور الطبيعي الذي يلعبه المحافظون الأميركيون الجدد في قيادة هذه الحرب لقد دأب هؤلاء الأغبياء النافعون على نشر ما يسمى (ثقافة الاعتذار) بين جماهير الناس حتى تولد عند الجميع (الشعور بالإثم), يقول روجيس دوبريه: حينما تتلامح أمامي الجرائم التي اقترفناها في الجزائر وفيتنام والشرق الأوسط ورواندا, أشعر بالإثم وتستبد بي رغبة في أن ألتمس من شعوب هذه البلدان الصفح والغفران, كم هو مؤلم أن يصوت المجلس الوطني الفرنسي ضد حذف فقرات من كتب التاريخ تمجد الاستعمار الفرنسي وتعتبره مظهراً من مظاهر نشر الحضارة وتمدين المتخلفين، وكم هو مقزز أن يطرب مثقفو الملاكمة بما قاله ساركوزي حينما وصف شباب الضواحي بأنهم حثالة البشر وأوباش؟!.
-3-
الخطأ الفادح الذي وقع فيه الغرب في تعامله مع العرب وهم يخوضون معركة من أجل استرداد هويتهم هو إصراره على تقييم كل ما يصدر عنهم من منطلق غربي بحت دون احتساب لخصوصيتهم التاريخية, يقول المستشرق الفرنسي جاك بيرك: هوية أي شعب من الشعوب لا يمكن أن تكون إلا تاريخية, إننا إذ نعرف بأنفسنا لا بد لنا من مرجعية، وهذه لا يجوز أن تقتصر على الأرض أو العرق, وإنما على التجذر التاريخي. و المأساة هي أن الغرب يفسر التاريخ العربي من منظوره, ولم يسع قط إلى فهمه من الداخل وإذن لا بد من احداث ثورة كوبرنيكية تقوم على (دوران الغرب حول الشرق بدل المطالبة أن يدور الشرق على الغرب).
وتترتب على هذه الثورة ثلاث نتائج على غاية من الخطورة:
أولها: إنه لا يكفي نقل مواصفات الديمقراطية الليبرالية الجاهزة إلى العالم العربي لأنها قد تفاقم من الأزمة وقد تولد حروباً أهلية, وإنما ينبغي العمل على إنقاذ هذه الوصفات في صميم النسيج التاريخي للأمة العربية.
ثانيها: إن الحداثة القومية العربية قد توصلنا إلى ميثاق تعاقدي وكان من الممكن أن تحقق طفرة نهضوية, غير أن الغرب يسعى دوماً إلى اختراق هذا الميثاق وإفشاله بسبب إصراره على اعتبار الانبعاث القومي خطراً عليه وعلى مصالحه. إذا كانت التجربة القومية في اوروبا قد انتهت إلى الفاشية والنازية, فليس من الضروري أن تنتهي التجربة القومية العربية إلى المصير ذاته. الأولى كانت حركة يمينية تقوم على الهيمنة والتوسع في حين بقيت الثانية حركة تحرر وطني.
وثالثها: إن دولة القانون في أوروبا لم تنشأ بين عشية وضحاها وإنما هي تتويج لنضالات دامية مستمرة شاركت فيها الجماهير والقيادات السياسية والثقافية, ولهذا لا يجوز أن يقال بأن نموذج الدولة المملوكية هي النموذج السائد في الشرق العربي وأنه من العبث اسقاط الاستبداد الشرقي او سرايا السلطان الحاكم وبلاطه، ومن المكابرة الجزم بأن نظاماً ديمقراطياً حقيقياً يستحيل أن ينجح في أي مكان في الشرق العربي. إن العودة إلى ميثاق الحداثة والقومية أمر كثير الاحتمال, بل لعله الميثاق الوحيد للتملص من الكارثة, و هذا الميثاق يمكن – إذا حسنت النية وتغلب المنطق الوطني- يمكن أن يقضي على التناقض الدموي بين الأصولية والعلمانية, بين الخليفة الذي يحكم بأمر الله والرئيس الذي يحكم بموجب الدستور..
-4-
يتحدث أمين معلوف الذي أتحفنا بعدد من الكتب المثيرة في كتابه الجديد باللغة الفرنسية (الخلل في العالم) عن الشكوى العامة التي يجاهر بها كل المعاصرين والتي تتناول كل مظاهر الحياة الاقتصادية والاجتماعية, ولكنه يركز على الفساد الايديولوجي والثقافي والجيوسياسي. يكتب (الهوية التي يحملها الإنسان المعاصر هي تراكم عدة هويات متناقضة, متصارعة ولكنها متساكنة) والمطلوب هو فك هذا التساكن والانحياز إلى نموذج متكامل وإلا فقد الإنسان هويته وأصبح ترسانة للهجانة والاختلاط.
وفي قناعة أمين معلوف – الشرقي اللبناني الذي اغترب مرتين, مرة حينما غادر وطنه ومرة أخرى حينما هجر لغته وأصبح يكتب بالفرنسية- (إن الحضارة الغربية قد وصلت إلى تمام امتلائها وهي مرغمة على تجاوز حدودها واختراق قوالبها والتحول إلى العولمة). ولكنها تنفي نفسها بنفسها حينما تتعولم وتصبح عدواً لذاتها, وإذا كان المطلوب هو ليس التخلي عن قيمها, أو تلونها بغير ألوانها, وإنما احترام هذه القيم و تطبيقها على الآخرين بنزاهة واستقامة يكتب في عصبية: (ليس المطلوب من الزعيم الغربي أن يرتدي ألبسة حضارية مستوردة من الآخرين, وإنما أن يكون في مقاس ارديته الأهلية, ليس المطلوب هو أن يتمشرق الغربي كيفما يكون مستقيماً, وإنما أن يكون صادقاً مع استغرابه أو تمغربه..)
-5-
ثمة ثلاثة نماذج مطروحة في الوطن العربي: النموذج التراثي والنموذج الغربي الحداثي والنموذج التلفيقي. وهذا التصنيف مطروح منذ النهضة العربية حين تبلورت ثلاثة تيارات: التيار الأول هو الرجوع إلى السلف الصالح الذي قدم لنا حضارتنا الإسلامية والقومية، والتيار الثاني هو الليبرالي المستغرب الذي يرى أن الحضارة الغربية هي الطريق إلى المعاصرة والحداثة، وأما تراثنا الديني والقومي فهو شيء ينتمي إلى الماضي, والتيار الثالث يحاول التوفيق أو الجمع بين هذا الطرف أو ذاك. ولكن تبين أن هذه الاتجاهات لم تنجح في حل الإشكال. لقد ظلت النهضة عائمة تطرح نفسها بهذه الصورة أو تلك وكان لا بد من عملية تجديد من الداخل أي من داخل التراث, المطلوب هو أن ترتبط بالعصر لا بالاندماج فيه وبشمولية كاملة لعلها أمر من الامبريالية, وإذا كان علينا أن نستفيد من منجزات الحضارة والتكنولوجيا فلا يمكن تحقيق هذه الاستفادة على الوجه الأكمل إلا بإعادة بناء حياتنا القومية كهوية, كدين, كتاريخ, كحضارة.
غسان الرفاعي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد