غسان الرفاعي: فيفا زاباتا والعــولمــة
-1-
من المؤلم أن تنهار الايديولوجيات التي كانت تعدنا بالفراديس. ومن المحزن ان نعيش بلا أمل بفردوس أرضي مفترض.
إن الواقع الفظ يفترسنا ويجرحنا. ولكن لا مفر من التأقلم معه، وإذا أضحت الايديولوجيات محرمة علنيا فلا أقل من أن نجعل من الذرائعية أقل بشاعة. قال جارودي ذات يوم: (لقد صلب المسيح وقتل ماركس، فلنجعل بوش بلا مخالب، ولا أضراس..) وأتاه الرد من الكاتب الجزائري رشيد ميموني: (لن أختار بوش، ولو كان بلا مخالب، أفضل عليه طفل الحجارة الفلسطيني، الأول قاتل ولو أغرقني بالمساعدات، والثاني بريء ولو قتل جلاده..!).
كان يخيل إلينا في بداية هذا القرن الحادي والعشرين أننا سنحقق التقدم والازدهار، التقدم لأن التاريخ بدأ يتوجبه نحو الطريق القويم، والاستقرار لأن العالم قد توصل إلى التوازن الذهبي، بعد ان أنهى الاستقطابات والتوترات، ولكن جميع الدلائل تشير إلى أن بداية هذا القرن تتجه نحو ظلامية جاهلة جديدة أسماها الكاتب الفرنسي (آلان مينك) «القرن الأوسط الجديد». هناك دعوة إلى سيادة القوة السافرة على حساب الشرعية والقانون الدولي، وبروز جماعات متعطشة للاضطراب والفوضى، وظهور بنى اجتماعية رجراجة غير مستقرة، وتفشي الخلل والفساد في كل مكان، واطلاق العنان للطموحات الفردية والفئوية الخبيئة المكبوتة.
-2-
تطفو أوجاعنا على السطح لا على أنها شكوى رومانسية أو ذريعة لاستجرار التعاطف، وإنما على أنها جرح فاغر، يجمد الحركة ويغتال الطموح، نتذمر من (داء الحاضر) تماماً كما كانت الشبيبة الأوروبية تتذمر من (داء العصر). وفي حين نعيش داءنا كغياب انتحاري، ورغبة مأساوية في الهرب باتجاه الماضي، كانت الشبيبة الأوروبية تعيش داءها كهم يومي ورغبة في استشراق المستقبل، وواقع الأمر أن التغيير المتسارع المفزع هو الذي يسبب لنا الدوار، وهذا القسر على (الخيانة) المستمرة للذات يولد عندنا الغثيان، إن العدوان الحديث بالنسبة لنا، متمثل في الساعة: إنها تقزمنا، تهمشنا، تجوفنا. ومن الحاجة إلى إيقاف عقاربها وتثبيتها على تاريخ رمزي مقدس.
(القرون الوسطى الجديدة) لم تأخذ أبعادها بسبب تقوض الأنظمة الشيوعية فحسب، وإنما لأن كل الأنظمة الأخرى قد شاخت وترهلت ولم تعد قادرة على استيعاب التطورات المتلاحقة، إن الاضطراب العالمي الجديد أفدح من الاضطراب الذي أعقب تداعي الامبراطورية الرومانية وتفتت الامبراطوية العثمانية وهزيمة العسكرية الألمانية، ومرحلة ما بعد الشيوعية لا تتجلى في انتصار اقتصاد السوق، ولا في يقظة القوميات المسحوقة ولا حتى في الهيمنة الأميركية، وإنما في انعدام الوزن وغياب العمود الفقري للمجتمع العالمي الجديد.
-3-
القرون الوسطى على نحو مايراها (آلان مينك) هي غياب الاستقرار واختفاء المراكز الضاغطة على جداره، وبروز ثقافة زئبقية مؤقتة ومشوشة، وتكاثر المراكز الرمادية التي لا تخضع لأية سلطة حقيقية، القرون الوسطى الجديدة هي العودة إلى الفوضى والاضطراب كروتين يومي، والتمسك بالعصبيات الضيقة كنهج سياسي ولها سمات واضحة:
أولها: اختراق الحدود، حيث لم تعد الدول صغيرها وكبيرها آمنة ضمن حدودها المعترف بها دولياً وشرعياً، بدءاً من أكثر الدول هشاشة في أوروبا الشرقية وأوروبا الوسطى إلى دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة ذاتها، وكل الاحتمالات من تفتت وتشرذم مفتوحة دوماً باستمرار.
يقول مينك: «كل المعاهدات التي تضمن الحدود ومناطق النفوذ، من معاهدة فيرساي إلى اتفاقيات يالطا أصبحت لاغية، وسيف التقسيم مسلط على رؤوس الجميع، وقد لايكون بمقدور أية دولة مهما كانت متماسكة ان تنجو من التفتت والتجزئة.
وثانيها: البنى المتحركة، إذ لا توجد بنية اجتماعية، مهما كانت عريقة وصلبة، بمنحى من التمييع والحركة، وكل ما يقال عن ثبات هذا المجتمع أو ذاك هو نوع من التمني الافتراضي لا يعكس الواقع المعيش.
يكتب مينك: «كل القادة يفاخرون بانتمائهم إلى قومية موحدة متجانسة، وكم من حروب اندلعت بسبب هذا الانتماء القومي، غير أن القرون الوسطى الجديدة قد سلخت هذا الانتماء وأضحى الفرد يفاخر بانتمائه القلبي أو الطائفي أو حتى العائلي..»
وثالثها: سيادة الجماهير الغفل، كانت الثورات تعتمد على حزب طليعي منظم أو أقلية عسكرية متجانسة، ولكن الثورات اليوم تفجرها الجماهير الغفل غير المنظمة.
كانت الأحزاب الثورية انقلابية سرية، برامجها مطروحة علناً، وطرق التعبئة التي تعتمد عليها مكشوفة، غير ان الثورات المعاصرة تتفجر عفواً وليس لها برامج، هي تعبير عن العصبيات والخرافات والمعتقدات التي تعبر عن الضمير الجمعي المكبوت المحمي باللاشعور لا بالإرادة.
رابعها: تفتيت الوحدة الجغرافية، فكل الثورات التي شهدها التاريخ القديم والحديث كانت تستهدف الاطاحة بالنظام القائم واستبداله بنظام آخر، مع المحافظة على الوحدة الجغرافية للبلد، غير ان الثورات المعاصرة لا تناسب العداء للنظم الحاكمة، وإنما تستهدف الوحدة الجغرافية للبلد، الثوريون الجدد يحملون السلاح لسلخ مناطقهم عن الحكم المركزي، ولم يعد يكفيهم اسقاط الحكم ديكتاتورياً كان أم ديمقراطياً.
-4-
ولكن القرون الوسطى الجديدة هي قبل كل شيء «العولمة الأميركية» بما تحمله من استفراد وفجور وارهاب، هي: «الوباء الاصفر» الذي ينتشر في البلدان والقارات، جارفاً الخصوصيات القومية والتطلعات الوطنية والأصالات الحضارية، هي التنمية المزورة كما يجسدها البنك الدولي. وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية، هي السباق اللاأخلاقي إلى الفوضى الكونية، والتخلع الاجتماعي وتدمير البيئة والهوة الساحقة بين الثروات المنهوبة المتراكمة، والفقر الأسود الذي يلتهم الملايين من المنبوذين والمسحوقين، هي الاستيلاء على موارد الآخرين بصفاقة، هي خرق الاتفاقيات والمواثيق والتعهدات، هي شريعة السطو والتدمير والقتل، هي الكذب بلا حياء ولا وجل: هي تصنيع الشعارات والاحتماء وراءها للغزو والنهب والاستعباد.
هناك ثلاث كوارث تهدد العالم اليوم: الجوع والبطالة والهجرة، لها سبب لا يحلو للكثير الاعتراف به: إن المسافة بين عالم التخمة وعالم الاملاق تتسع باستمرار، وخلال الثلاثين سنة الأخيرة قفزت هذه المسافة من 30 إلى 150 ضعفاً، وثبت ان خمس العالم من المترفين الجشعين يستثمرون أربعة أخماس العالم المتبقية.
وأن هناك مالا يقل عن مئتي عاطل عن العمل، يعيشون حياة لا تليق بالحيوانات في أرض جدباء.
هاجس النمو السريع القائم على طوفان الانتاج وسرعة تصنيعه هو الذي يسكن اباطرة الاستفراد الأميركي ولا يعنيهم في شيء نوع الانتاج ولا فائدته، وقد يكون الانتاج المؤذي، بل والقاتل «المخدرات والأسلحة» مرغوباً فيه أكثر من الانتاج الضروري، ومن هذا المنظور ينحصر الانسان بين الانتاج الكثيف والاستهلاك السريع، وقد يتعذر عليه الخروج من هذه الحلقة المفرغة المزورة.
-5-
ولكن القرون الوسطى الجديدة -كما يراها الان مينك- هي «الزاباتية» نسبة إلى الثائر المكسيكي اميليانو زاباتا «1879- 1919» والتي جددها ماركوس عام 1994 حينما قاد ثورة الهنود على الحكم الاستبدادي المكسيكي.
قد يكون من المفيد أن نتحدث عن المشهد الأخير من رواية «فيفازاباتا» للكاتب الأميركي «جون شتيابنك» التي كتبها يوم كانت ألفاظه سياطاً تجلد الظالمين والفاسقين، لعلها تدخلنا في متاهات الثورة الزاباتية».. يدخل زبانية ديكتاتور مغتصب قرية هادئة مسالمة، ويبدؤون في تفتيش البيوت وسرقة الغلال واطلاق الرصاص ارهاباً، وفجأة يسقط طفل على الأرض مضرجاً بدمائه نتيجة اصابته برصاصة طائشة، فيتخبط بعض الوقت وكأنه دجاجة مذبوحة، ثم ينقلب على قفاه ويتجمد ولم تزل ابتسامة على شفتيه، ويتجمع عدد هائل من سكان القرية حول الجثة والغضب ينفر من وجوههم والدهشة تعقد ألسنتهم يريدون أن يفعلوا شيئاً، أي شيء لكنهم لا يعرفون، وفجأة يبرز شيخ من بين الصفوف ويرفع قبضته ويقول: «كان ينبغي أن نعرف انكم قتلة، كان ينبغي أن نعرف أننا جميعاً مرشحون لأن نكون ضحاياكم، كان ينبغي أن نكون ضدكم، وان نقاتلكم لا أن نبقى مشاهدين متفرجين» وتنطلق رصاصة من مكان ما، ويسقط الشيخ مضرجاً بدمائه وتبدأ المجزرة بكل بربريتها وهمجيتها بين جناة أعماهم الحقد الأهوج وسكان قرية اصبحت لهم قضية كبيرة.
-6-
ونعرف ما الذي حدث لـ «زاباتا» الثائر بعد ذلك، إذ أتى من يخونه ويبيع جلده إلى اعدائه ويقضي على التماعة الامل التي فجرها لدى «المسحوقين والملعونين في الأرض» وقد حدثت عدة انتفاضات بعده، مستوحاة من سلوكه واستبساله، ولكنها قمعت في بحيرات من الدماء، وكان علينا أن ننتظر عام 1994 لنشهد قيام تمرد «ماركوس» وانصاره من هنود الشيباس في المكسيك دوماً.
وتحول التمرد إلى حركة رفض عالمية، تقف بشجاعة في وجه «العولمة المتأمركة» وتعقد المؤتمرات الصاخبة في عواصم العالم للتنديد بالطغيان الذي تقوده «امبراطورية الشر».
لقد تفولذت الحركة الزاباتية وأصبحت قادرة على تنظيم المسيرات في كل أرجاء المعمورة، انها لا تدعو إلى الاستيلاء على السلطة، ولا إلى إسقاط الأنظمة القائمة، انها تسعى إلى إحداث التغيير بالطرق السلمية وتنادي بالعصيان المدني وتفاخر بما كتبه ماركوس حين بدأ تمرده: (ما الذي ينبغي أن نعتذر عنه؟ أنعتذر لأننا لم نمت جوعاً.. لأننا لا نتكتم على شقائنا وعذابنا.. لأننا لم نتحمل بتواضع وصبر الاحتقار والإذلال والقمع.. لأننا حملنا السلاح بعد أن فشلت كل وسائل الإقناع الأخرى.. لأننا لم نخضع لقانون الطوارئ التعسفي.. لأننا أردنا أن نثبت للعالم بأسره أن الكرامة الإنسانية مازالت موجودة.. لأننا من أصل وجذور هندية ولسنا ممن تجري في عروقهم الدماء الزرقاء.. لأننا نناضل من أجل الحرية والديمقراطية والعدالة.. لأننا رفضنا أن نبيع أنفسنا.. لأننا رفضنا أن نخون؟ من الذي ينبغي أن يعتذر ممن؟ هؤلاء الذين صبروا سنوات، ورفضوا الموت الذي يدق أبوابهم كل يوم، أم هؤلاء الذين يمارسون القمع والقتل والنهب والاغتصاب؟ هل نعتذر لأننا لم نعد نخاف ولم نعد نحتمل وقررنا أن نقول بشجاعة: «كفى، كفى»..؟!).
-7-
من سياتل إلى بورت الغري إلى بومباي، أخيراً يتنقل (الزاباتيون) من موقع حاملين معهم (رفضهم وبراءتهم وعنادهم) والإنسان الكامن في أعماقهم –كما يقول جوزيه بوفيه الفرنسي الزاباتي- وسيستمر مهرجان (مناهضة العولمة) خمسة أيام في مدينة بومباي الهندية، بمشاركة وفود من 130 دولة وبحضور أكثر من نصف مليون ناشط ملتزم، وسيكون من مهام هذا التجمهر الكبير ان يعطي لعودة القرون الوسطى معنى جديداً مضاداً لما يريده ويسعى إليه أباطرة المال والاستفراد والطغيان.
د. غسان الرفاعي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد