غسان الرفاعي: مقبرة «عصر الأنوار»
ـ 1 ـ تدهشنا المفارقة، وقد تسبب لنا الحيرة والارتباك، على الرصيف الأيمن من نهر السين، حيث تطل المكتبة الوطنية، طوابير من الشيوخ، تنتظر دورها لزيارة «معرض عصر الأنوار» والتفتيش بين مقابر الكتب، والملفات، والمذكرات القديمة عن بقايا النار المقدسة التي أشعلها مفكرون كبار ك«فولتير» و«جان جاك روسو» و«ديدورو». فأحرقت مكونات استقرار موهوم، وأحدثت أكبر شرخ في حياة الناس، لا في فرنسا وحدها، وإنما في أوروبا بأسرها. وعلى الرصيف الأيسر من السين مسيرات حاشدة لشباب وشابات في عمر الزهور يهتفون «الموت للطغاة»، ويطالبون بحفر القبور، ودفن قوانين جديدة، صيغت باسم «عصر الأنوار». يقول مؤرخ لا يخلو من خفة الدم: «يتشرب المراهقون فلسفة الأنوار في مدارسهم، وحين ينضجون يكسرون الأبواب والنوافذ!» إن «عصر الأنوار» الذي أضاء الفضاء في القرن الثامن عشر لم يعد قادرا على إضاءة التحديات الجديدة: العولمة، الأصولية الدينية، عورات الديمقراطية الليبرالية، الطغيان الأميركي.
ـ 2 ـ
قصدت الرصيف الأيمن، وانضممت إلى طوابير الحزانى الذين يقدمون التعزية لشهداء العقلانية ورواد الحرية الفردية، والمساواة، وحقوق الإنسان، ومؤسسي الحداثة والمعاصرة، وأنا أشعر بالحصار، والضيق، وخيبة الأمل، لقناعتي بأن الإنقاذ لن يأتي عن طريق إحياء التراث، مهما كان جليلاً، وأنه لابد من نار طازجة مستوحاة من أتون المجابهة الحالية، وكانت عيناي مسمرتين، طوال الوقت، على المشهد العاصف في الرصيف الأيسر، وأنا أتلهف، لا للاندساس بين الصفوف فحسب، وإنما للمشاركة في الصخب أيضاً، وأنا أعرف أن براءة التحرك لا تكفي، وأن طواغيت الظلم والقهر والطغيان قادرة على نشر «الطاعون الأسود» وأنه لابد من المجاهدة والمعاندة.
ـ 3 ـ
المتحمسون لإيحاء «عصر الأنوار» من المفكرين الغربيين والعرب يعترفون بأن بعض منطلقات هذا العصر قد أضحت صالحة للعرض في «سوق الخرداوات» ولكن لابد من التذكير بأن الحداثة ـ في معناها المطروح حالياً في الأدبيات مازالت تركز على «إفرازات عصر الأنوار» العلمانية في مواجهة السلفية البدائية، الديمقراطية في مواجهة الاستبداد والتسلط، الحرية الفردية في مواجهة الخضوع القطيعي للنمذجة الاجتماعية العسكرية، العقلانية في مواجهة الاستلاب الخرافي، ولكن المبادئ الكبرى قد تتحول إلى مقبرة للنيات الحسنة، ولا تصلح للتداول إلا في الجحيم، والاعتماد على العقل قد يقودنا إلى تبرير الظلم والطغيان، وإلى استجداء الاحتكام إلى القوة والبطش.
ـ 4 ـ
أذكرهما بغصة، وشعور بالذنب، فقد غمطناهما حقهما جهلاً واستهتاراً، ولم نقدر ما قدماه لنا بكرم وتواضع، وقد اختفيا من فضائنا الثقافي دون ضجيج، وبقي التراث الذي تركاه لنا مهجوراً في زوايا المكتبات، لا يفتش عنه إلا بقايا جيل عاش الكبرياء الوطني، ومازال يتحسر على الفرص التي أضاعها. إنهما يجسدان «عصر الأنوار» على طريقتهما القاسية، الأول «زكي الأرسوزي» وكان ينتحي زاوية في مقهى الهافانا وحوله مريدوه وتلامذته، يهيب بهم أن يلفظوا رواسب التخلف والجهالة المدفونة في أعماقهم، وأن يستحموا بأنوار الحضارة الحديثة، وأن يكونوا طلائع جيل جديد ينتمي إلى «عروبته» ويفاخر بحضارته القائمة على الحرية والمساواة والكرامة. والثاني «أنطوان مقدسي» وكان رهين المحبسين في منزله، يوزع حكمته وتطهره الثقافي، وشرارة انتمائه الوطني، بصمت وكبرياء. رفض الانحناء والصمت، وظل يحمل مشعل «الأنوار» بعفويته وصلابته. وكان الاثنان معاً، بمنهجين مختلفين تماماً، يعرضان أفكار عصر الأنوار، ويطمحان إلى أن تفجر أفكار الأنوار «الصحوة التاريخية» للإنسان العربي، وهو يشق طريقه إلى مناهل الحرية والمساواة والكرامة.
ـ 5 ـ
ظلت صفة «مثقف» ملازمة «لليساري» لأكثر من ربع قرن، وكان يجب على غلاة الرجعيين أن يرشوا عقولهم بعطر يساري، حتى يقبلوا في فردوس الثقافة، ولكن، حدث في السنوات الأخيرة ما يمكن أن يسمى الانقلاب المفاجئ، إذ أصبح اليساريون يهرعون إلى قلاع الرجعية للحصول على «براءة ذمة» ثقافية، والمفارقة المذهلة هي أن «الرجعية الثقافية الجديدة تبرر انقلابها بالحرص على الصراحة والنزاهة، والرغبة الصادقة في قبول الحقيقة، والحرص على مجابهة كراهية الغرب، وانتشار الإرهاب والعنف.
إن المثقفين الرجعيين الجدد متخاصمون، متنابذون، يتعذر «تعليبهم» في صندوق متجانس واحد، ولن تنتظمهم إلا فكرة مرذولة واحدة، ولدت بعد 11 أيلول 2001، وتقوم ضرورة صياغة إنجيل جديد لحماية الحضارة الغربية من مخالب همجية حاقدة، ترفض العلمانية وتسخر من الديمقراطية، وتتسلح بالإرهاب، وتخوض «صراع الحضارات» كما تنبأ «صموئيل هنكتون»، على أن هناك بعض السمات المتشابهة التي توحد شتات الرجعيين الجدد.
أولاً: الزعم بأن الغرب هو في «حالة الحرب» وأن هذه الحرب بدأت في 11 أيلول 2001، ولا يجوز أن تنتهي إلا بالنصر الساحق. لقد انطلقت في هذا التاريخ، حركة عدوانية ضد الحضارة الغربية، والقيم المسيحية ـ اليهودية، وليست «القاعدة» إلا الواجهة المعلنة، في حين تختبئ وراءها قوى مستترة في العراق وفلسطين، وأفغانستان، وباكستان والشيشان، وتايلاند، والفضاء الإسلامي الواسع في كل مكان. وقد استهدفت هذه الحركة نيويورك، ثم مدريد، ثم لندن، وهي اليوم تستهدف باريس على أيدي «أوباش» الضواحي.
ـ 6 ـ
ثانياً: وهناك طابور خامس يتحالف مع هذه الحركة العدوانية هو اليسار التقدمي الذي نجح في اتخاذ قرارات معادية للصهيونية الفاشية في دوربان، كما نجح في تأجيج كراهية سوداء ضد الولايات المتحدة التي تتزعم حماية الحضارة الغربية، بكل شجاعة، وليس «موقف المهادنة» الذي تتستر وراءه دول الاتحاد الأوروبي إلا تخاذلاً مرفوضاً، لأنه «استقالة وطنية» وهروب من المقاومة الشريفة.
ثالثاً: ولكنْ هناك «أغبياء نافعون» في هذه الحرب الكونية، يتصنعون البطالة الذهنية و«الملائكية» والإيمان الساذج «بالإنسانية المفرطة» وهؤلاء يرفضون أن يعترفوا بوجود هذا «الشر البربري»، ولا يكترثون بخطر الشمولية الأصولية التي تفوق الأصوليات الغابرة تطرفاً مرعباً. لقد دأب هؤلاء «الأغبياء الغامضون» على نشر «ثقافة الاعتذار» بين جماهير الناس، حتى تولد عند الجميع «الشعور بالإثم». وكما قال «رجيس دوبري»: «حينما تتلامح أمامي الجرائم التي اقترفناها في الجزائر وفيتنام، ورواندا، والشرق الأوسط أشعر بالإثم، وتستبد بي الرغبة في أن أطالب شعوب هذه البلدان بالصفح والغفران.
ـ 7 ـ
رابعاً: السمة التي تجمع بين هؤلاء المتنابذين هي قناعتهم أن السياسيين «الأغبياء والمنافقين» الذين يرفضون المجابهة ويصرّون على «حوار الحضارات» هم واجهة تخفي مصيبة أوسع، إنهم يعملون بتصرفهم الجبان، على وضع نهاية للتقدم والازدهار في الغرب، ويفسخون القيم الغربية، ويتآمرون على الديمقراطية، ويحولونها إلى فراغ تقود الغرب إلى الانحطاط.
ـ 8 ـ
يحاول هذا الجيل الجديد من «المثقفين القراصنة» في الغرب، أن يسطو على الفضاءات والمنابر، وأن يمارس هواية «الحفر في التضاريس التاريخية» لاستخراج ما يمكن أن نسميه «وحدة الغرب» بحجة أن إنقاذ الإنسانية يتوقف على انتصار الغرب أمام «البربريات الشرقية» التي تزحف في كل مكان، حاملة معها الهوس الديني، والجنون الإثني، والإرهاب الحضاري.
وفي حين يتفسخ «الشرق الغامض» دولاً وأقاليم وكيانات وتتصاعد في أرجائه الدعوة إلى رفض الآخر، بل إلى تصفيته، أو محاصرته في غيتوتات إسمنتية مسيجة، تتلامح «وحدة الغرب» بعد صراعات ونزاعات دامية استهلكت شعوبه، وتجتاح الدعوة إلى الوحدة، دولاً وأقاليم وكيانات. أليس من المذهل أن يسعى الكل في هذا الغرب إلى التجانس، وتذويب الفروق، على الرغم من اختلاف اللغة والخصائص التاريخية، في حين يتفانى الكل في الشرق، في التشظي والانقسام والتفتت، قوميا وطائفيا وعرقيا، على الرغم من وحدة اللغة والرؤية والتاريخ؟.
د. غسان الرفاعي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد