قصة شاعر بغداد
تروي جو تاتشل في «أغنية نبيل، قصة شاعر بغداد» الصادر عن دار سبتر قصة أسرة عراقية وسط الأزمات السياسية – العسكرية المتلاحقة منذ أول خمسينات القرن الماضي حتى اليوم. تاتشل التي ترعرعت في الشرق الأوسط تتجنب العاطفة وتعتمد حياداً لافتاً لكنها ترسم مع ذلك حياة مؤثرة لأفراد اختاروا الحرية والعقاب في نظام شمولي بدلاً من الصمت والنجاة. «أغنية نبيل» كتاب آسر حزين لكن أبطاله يبحثون دائماً عن مخرج أو طريق جديد، ويتمسكون بكرامة يرفضون الهزيمة معها. ظل صابرية يمتد فوق «الأغنية» على أن هذه الأم القوية لا تمتلك أسباباً كثيرة للغناء. أغنيتها التي يبدأ الكتاب بها حزينة أصلاً وإذ تغني وهي تعجن تحني رأسها وتوجه صوتها نحو الجنين في بطنها. هي أكيدة من حب الطفل الذي تنتظره أغنيتها بخلاف زوجها ياسين الذي يتذمر من حزن أغنياتها. بعد الخبز تكمل خياطة قميص وتبدأ بثلاثة سراويل، وتعين زوجها، بالخياطة، على إعالة أسرة كبيرة ستكبر لتشمل سبعة أولاد، وفي فترة ما شقيقها وابنيه وشقيقتها ووالدتها. دعت طفلها نبيل غير المألوف عراقياً بعد أن ربح شقيقها في اليانصيب مؤونة سنة كاملة من سجائر نابوليون فحورت الاسم الى نبيل. نشأ الطفل ثرثاراً متشبثاً برأيه، وأحب قصصها عن الملك فيصل الثاني وقصره الأزرق القباب الذي بدا مكاناً عجائبياً جديراً بالقصص الخرافية حول الوحوش والأباطرة الأقوياء. الطفولة اللاهية التي ينعم فيها الأطفال بأول تلفزيون في الحي واللعب قرب الثعابين تنتظرها انعطافة امتزج فيها الدم بالأمل. انقلب الجيش في صيف 1958 على الملك فيصل وقتله فصدم نبيل. رآه منذ اسبوعين يمر في سيارته: «ابتسم لي. كان لطيفاً». شقيقه جعفر القومي العربي شارك في إسقاط تمثال الملك المصنوع من الغرانيت الأسود وفقد فردة حذائه في المعمعة. شكا مع شقيقه جمعة الشيوعي من أن فيصل دمية الانكليز وتطلع الى قيام الوحدة العربية بقيادة جمال عبدالناصر. تحسنت أوضاع العراقيين في الريف والمدن، واقتربت الأسرة من الطبقة الوسطى. اشترت بيتاً جديداً في منطقة البياع نعم بالماء والكهرباء، واستأجر الأب محل قرطاسية بعدما خسر وظيفته في سكة الحديد بفعل حادث سيارة.
تبدأ رحلة نبيل السياسية في التاسعة عندما يرافق شقيقيه جمعة وجعفر الى احتفالات عيد العمال. يشتبك القوميون والشيوعيون بالسكاكين والعصي والحجارة فيفرح الطفل بأكثر أيام حياته إثارة. تبدأ عائلة ياسين بدفع ثمن خيارها السياسي مع مجيء البعث الى الحكم في 1963، يشاهد الأطفال إعدام قاسم بالرصاص على شاشة التلفزيون ثم يعتقل جمعة وهو يدرِّس في الصف. يضرب ويحرق بالسجائر ويجهل جريمته مثل كثيرين من رفاقه المعتقلين تحت ملعب كرة القدم. يعرف ان اللحام سجن لأنه تشاجر في الماضي مع زبون بات قيادياً بعثياً، ويسمع من مهندس ان «أحد كلاب الميليشيا» اغتصب فتاة لأنها رفضته زوجاً. يموت المهندس القلق على زوجته بالجفاف فيجعل طبيب السجن النوبة القلبية سبب الوفاة في وثيقتها. والي الذي عقد اجتماعاً للاشتراكيين في منزل والدته يعاقب بإطلاق القطط الجائعة عليه. استخدمت الثعابين أيضاً في التعذيب، وكان ما سمي «الحلوى» اغتصاب زوجة سجين أو شقيقته أو ابنته في الزنزانة المجاورة، أو تعذيب الأطفال لحضّ آبائهم على الاعتراف. يطلق جمعة في الخريف ناحلاً ضعيفاً وأصم في إحدى أذنيه. يعود الى وظيفته ثم يسجن مراراً لعله يشي برفاقه الأهم شأناً.
عندما استأثر صدام حسين بالسلطة تحول من «سعادة النائب» الى «سعادة الرئيس القائد عينه الله». كان أول قرار اتخذه إسعاد شعبه بشبابه الباسم فطلب من كل منزل تعليق صورته التي وزعت مجاناً على من لم يشترها. صلابة صابرية تظهر مراراً وتثير التساؤل عما إذا كان تمردها، ممزوجاً بتدينها الشيعي، سبباً رئيساً في اعتناق أربعة من أبنائها الخمسة عقائد سياسية تعارض البعث. كانت في الرابعة عشرة عندما أرسلت لتتزوج أرمل فوجئت ببياض شعره وتجاعيد وجهه. في الصفحة 67 تقول تاتشل ان الأم قوية والأب رقيق عاش حياته بلا سياسة لكنه لم يزجر أولاده بسببها. صابرية تخلص زوجها من الحرس الوطني عندما يعتقله بدلاً من جمعة الغائب، وتتحدى الشرطة برفضها تعليق صورة صدام. رأت البعثيين «أسوأ من كل الذين عرفناهم» وتركت أولادها «يسرحون على كيفهم» وفق شقيقتها التي لامتها على متاعبهم مع الاستخبارات. عندما عجزت عن الإنجاب بعد ابنيها الأولين وعدت الإمام الحسين بدم طفلها الثالث إذا رزقت به. بعد عشرة أشهر حملت نبيل الى عاشوراء حيث جرح رأسه بسيف من منتصف رأسه الى منتصف جبينه، وحول الدم القماش الأبيض الذي لفته به قرمزياً. لم تفكر في خطر محتمل على طفلها بل دعت ثلاث نساء عاقرات الى مس جرحه كي يحملن. سواء نبع تمردها السياسي من طائفتها أو لا، تقبل الأم خيار أولادها وعقابه الذي يمتد اليها وللأسرة أيضاً.
الوحيدة التي تتساءل عن نتائج خيارات جمعة وجعفر ونبيل وجبار هي أمل، أصغر الأولاد. تتعاطف معهم لكن البيت مفعم بالقلق الذي يظهر أثره في والدتها. كبروا لكنهم يسلكون كالأطفال، ومشغولون بثوراتهم الى درجة لا ينتبهون الى الخطر الذي يواجهونه. لا يسكنون قليلاً أصلاً ليغيروا شيئاً ويمضون النهارات بالجدل والتظاهرات وإطلاق الوعود الكبيرة. لا تستطيع نسيان منظر جمعة عندما أطلق من السجن وكانت في الثالثة. قلق أمها ولد فيها الذعر، وإذ ترسلها الى محطة الباص لتحذر نبيل من أن الاستخبارات ستعتقله تلك الليلة تتساءل ما إذا كان بقوة جمعة. ابنة الثانية عشرة انتظرت وحدها في المحطة أربع ساعات فكشفت المزيج الغريب من الأمان الأهلي الذي حماها والتهديد الرسمي الذي يتربص بشقيقها لسبب بسيط هو أحد حقوق الإنسان. درست الطب «المهارة الحقيقية العملية» لكنها عوقبت فعينت في أسوأ المستشفيات وأخطرها. وعندما حاولت إسعاف جرحى تظاهرة ضد صدام منعت تحت تهديد السلاح فهاجرت الى فرنسا حيث التحقت بجبار الذي تزوج فرنسية.
في أول عشريناته يصبح نبيل ياسين من أشهر الشعراء الشباب ويستفيد من هامش الحرية المتاح في مجلة «ألف باء» حيث يعمل. تبحث والدته عن سبب غير شخصي للومه وتجده في التاريخ والملامح الاثنية. العراقيون يحبون التراجيديا ويشتهون الشعراء والشهداء منذ زمن الإمام الحسين. خالط التاريخ الخرافة في شعره واتهمه أصدقاء جمعة بأنه شاعر بورجوازي يختبئ خلف الشعر بدلاً من أن يعارض صراحة. حرضوه وأوقعوه في الشرك. ذات ليلة خريفية في 1972 أحيا أمسية في مقر اتحاد الكتاب هاجم فيها القمع وتلا «الشعراء يهجون الملوك». ضربه ضابطان من الاستخبارات بهراوتين من الفولاذ ثم اعتقل وضرب مراراً وعطلت مكابح سيارته، وسئل في التحقيق عن وظيفة ابنه يمام الذي يبلغ السنة ونصف السنة وعما إذا كان شيوعياً مثله. يتهم بالتخنث لأنه يرتدي سروالاً واسعاً عند الكاحلين وتطارده شرطة أخلاق البعث كي تقص شعره. يستدعى لمقابلة طارق عزيز الذي أمر الاستخبارات المدنية بملاحقته، ومنع زوجته ندى من دخول وزارة الثقافة حيث تعمل من الباب الأمامي. كان عليها استخدام باب خلفي في حي يحفل بالمجرمين الصغار والعاملين في السوق السوداء. يطرده عزيز مع رئيس تحرير «ألف باء» ويعلنه «عدو الدولة» الى أن يتوسط الشاعر الجواهري فترفع التهمة بعد عام.
جرّد النظام الديكتاتوري النضال ضده من القضية وجعله خاصاً. طارق عزيز اعتبر الالتزام السياسي لأسرة ياسين انحرافاً عائلياً ووصفها بـ «الحثالة». وامتد التوجيه الرسمي ومعرفته حد كتابة «سعادة النائب» صدام حسين عموداً يومياً وظهوره في برنامج تلفزيوني كي يعلم ربات البيوت طريقة تحضير الرز واللحم. عندما يقع والد نبيل عن السطح ويتوفى يتهمه شرطي على حاجز بأنه قتله ويطلب فتح التابوت. لا يستطيع الاحتمال ويهرب. لا تبكي والدته عندما يودعها صباح يوم مشمس في شتاء 1982. يتشرد بين أوروبا ولبنان الى ان يستقر في لندن ويستعيد صوته بعد توقف عن كتابة الشعر. ترحل صابرية في 2001 من دون ان ترى أولادها المهاجرين ثانية.
مودي بيطار
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد