لورانس.. «أعمدة الحكمة السبعة» ولغز الإهداء (.S.A) وشبكة التجسس «NILI»
توضح هذه الدراسة أن التاريخ ليس دائماً – كما يزعم البعض – روايات تافهة وقصصاً عبثية، وأنه «يعيد نفسه» ولا فائدة منه، إلخ... قلنا في دراستنا السابقة «تراثنا اللغوي الأبجدي... واللبس العبري»... «إن التاريخ علم خَطِرٌ».
نعم !!... وقد يغدو سلاحاً ماضياً في يد المؤرخ الحاذق النبيه... وإلى القرّاء وطلاب التاريخ، هذه الدراسة النموذجية ذات الفوائد الجمّة، وبصفةٍ خاصة للباحثين في علوم التاريخ والسياسة والصحافة وغيرهم...
نلفت انتباه القارئ إلى ما يلي:
أ- ( ) ما بين قوسين هلالين لشرحٍ إضافي.
ب- () قوسان لتوضيح من قبلنا ونضع حرفي (م.م./ محمد محفل) في النهاية.
ج- الأرقام فوق نهاية جملةٍ تشير إلى مصدر أو مرجع، وهي مذكورة تسلسلاً في نهاية الدراسة.
د- يأتي ذكر المصدر أو المرجع بحرف داكن أسود أو تحته خط.
هـ- ما تحته خط أسود في المتن لاسترعاء انتباه القارئ.
(1) لورانس «العرب» وأعمدة الحكمة السبعة
قد لا يُدرك بعض القرّاء المعاصرين مغزى رموز عنوان دراستنا. نوضّح بادئ ذي بدء، أن لموضوعنا وشخصياته علاقات وثيقة ومباشرة بفصول ووقائع الحرب الكونية الأولى (1914 -1918)، وما ترتّب عليها من نتائج: الثورة العربية، اتفاقية سايكس- بيكو، وعد بلفور، انهيار الدولة العثمانية، الاحتلال البريطاني – الفرنسي لبلاد الرافدين والشام، بتكليف من عصبة الأمم، التي موّهت الحقيقة، فكان نظام الانتداب...
اقترن إعلان الشريف حسين من مكة «الثورة العربية الكبرى»، بتاريخ 2 حزيران 1916، بصعود نجم شخصية لورانس، ذلك البريطاني الذي وصل إلى بلاد الشام، منذ مطلع القرن العشرين، ليعمل كطالب تاريخ وعالم آثار في حفريات قرقميش (جرابلس على الفرات). لورانس هذا الذي أطلق عليه بعضهم «لورانس العرب»؟! لم يكن إلا جاسوساً، وليس كغيره من الجواسيس. كما قلنا في المقابلة التي أجرتها معنا المحطة الفضائية البريطانية (B.B.C) في أوائل عام 2009، ونقلتها بعد ذلك (محطة الجزيرة الوثائقية)... لقد لعب هذا الضابط البريطاني/ الصهيوني الدور الأكبر في تخطيط وتنفيذ العمليات العسكرية لقوات الأمير فيصل ابن الحسين، التي انطلقت من مكة شمالاً، فراحت بتخطيط من لورانس، تدّمر سكة حديد الخط الحجازي، وتلاحق الجنود العثمانيين. قبل أن تدخل دمشق في (1تشرين الأول 1918).
لقد كرّس لورانس كتابه «أعمدة الحكمة السبعة» (انظر صفحة عنوان الكتاب بالفرنسية الشكل ذا الرقم (1)) للوقائع وأعمال القتال التي شهدتها ساحات الحجاز وبلاد الشام خلال سنتين ونصف تقريباً (2 حزيران 1916 – 1تشرين الأول 1918)، ونحن لسنا بصدد سردٍ تاريخي لتلك العمليات والحوادث، فليس هذا قصدنا... بل ما ننشده هو أمرٌ آخر، ألا وهو لغز الإهداء (س.أ S.A.) وشبكة (نيلي) ودورها الحاسم في إخفاق حملة قناة السويس التي قام بها الجيش العثماني الرابع، بقيادة جمال باشا.
لقد زعم الكتّاب الغربيون، وما زالوا، أن حرفي (س.أ.) يشيران إلى شاب بدوي تعرّف إليه لورانس عندما كان يجري حفريات أثرية في منطقة (قرقميش القديمة)، في العقد الأول من القرن الماضي (1903 – 1913)، وقد سرت شائعات وكَثُر لغطٌ حول علاقات جنسية شاذة، بين لورانس وهذا البدوي... ولنا عودة إلى ذلك لاحقاً...
يجب أن نشير إلى صلة عنوان «أعمدة الحكمة السبعة» بنص من أحد [أسفار العهد القديم، م.م. وهو (سفر الأمثال، الاصحاح 9- الفقرة1): «الحكمة بنت منـزلها ونحتت أعمدتها السبعة... يجب أن نعترف بأننا كنّا كالآخرين حيارى أمام لغز العنوان والاهداء، ومع الأيام وبعد دراسات مقارنة، أصبح الأمر أكثر وضوحاً، ومن هنا بعض ما جاء في مقدمتنا لكتاب «سارة المرأة التي هدمت الامبرطورية العثمانية» (1)، وهو الكتاب المترجم عن التركية، وقمنا بمراجعته اعتماداً على النسخة الانكليزية، ووضعنا، مقدمته مع التعليقات والحواشي... وكان ذلك منذ سنة 1995، عام صدور الكتاب عن دار طلاس...
(2)من هو /هي (س.أ . S.A) ؟!.
مازال الكتّاب الغربيون، على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم، ومنذ صدور نسخة أوكسفورد البريطانية عام 1922، ثم الطبعة الأولى التجارية عام 1935، بعد مقتل لورانس بعدّة شهور، نقول مازال هؤلاء يكرّرون القول إن حرفي (س.أ. S.A) يرمزان إلى (س /سالم – أ/ أحمد)، ذلك البدوي صاحب لورانس وقرينه، كما جاء معنا أعلاه... ولكننا نعلم أن أهل المنطقة قد عرفوه باسم «داهوم» الذي أطلقته الأم على ابنها، لجلده الأدكن...
ووقعنا على كتابٍ صدر في عام 1995 بعنوان: قَرْن إسرائيل Le Siècle d < . (2) الرقم ذا الشكل [انظر>
كان ذلك منذ خمسة عشر عاماً، وبعد مطالعته وتدقيق بعض ما جاء في باب (نيلي، الذهب والدم Nili l>or et le sang ) (ص.ص 179- 189)، تأكدنا من صحة ما جئنا به في مقدمتنا لكتاب «سارة، المرأة التي هدمت...» المذكور أعلاه، وكتاب «سارة...» صدر قبل «قرن إسرائيل» بنسخته الفرنسية بحوالي خمسة شهور، كما نلاحظ من تاريخ الإصدار في الهامشين (1/2) . ولا يفوتنا أن نشير إلى خطورة وحساسية ما جاء في كتاب «قرن إسرائيل» من وثائق، لم نكن نعرفها أو على علمٍ بها.
هذا ما جاء في مقدمتنا لكتاب سارة. [انظر صفحة عنوان الكتاب في الشكل ذي الرقم (3) م.م: «وقد لعبت شبكة التجسسّ الصهيونية والشهيرة باسم «نيلي» وعلى رأسها سارة آرونسون عشيقة جمال باشا – بحسب – رواية أكدوغان – ومركزها مستعمرة عثليت، جنوب حيفا، نقول لعبت هذه الشبكة دوراً كبيراً في إخفاق حملة السويس، وذلك بتسريب خطط وأسرار الهجوم التركي للسلطات الإنكليزية في القاهرة. كانت الشبكة الصهيونية للتجسّس على علاقة وثيقة بالانكليز وعملائهم في مصر والحجاز، وعلى رأسهم «لورانس»، صديق العرب المزعوم»، لورانس هذا الذي لعب دوراً كبيراً في ثورة العرب على الأتراك، هو نفسه الذي أهدى كتابه إلى شخصية غامضة، لم تكن معروفة، قبل معرفة بعض الوثائق السرية المتعلقة بالحرب العالمية [الكونية الأولى م.م. ونتائجها...
يبدأ لورانس إهداء كتابه «أعمدة الحكمة السبعة» بالآتي:
«إلى س.أ .S.A»
«لقد أحببتُكِ، ولذلك جذبتُ بيدي هذه الجموع من الناس مسطرّاً إرادتي بالنجوم عبر السماء، كي استحصل لكِ على الحرّية، المنـزل الجدير بكِ، منـزل الأعمدة السبعة [انظر أعلاه سفر الأمثال م.م.، لعلّ عينيكِ تشعّان من أجلي عندما نجيء...» [وضعتُ حركة التأنيث على الضمائر المتصلة م.م..
وأضفت: «لم نكن نعرف الشخص المُشار إليه بحرفي (س.أ.) قبل فترةٍ من الزمان – قبل إفشاء الأسرار – وهنا نعود إلى عنوان كتاب لطفي أكدوغان: (س/سارة) (أ/آروسون)...
فمن له آذان فليسمع! ومن له عيون فليشهد! قبل فوات الأوان... لورانس هذا هو صهيوني قبل أن يكون إنكليزياً... هو وجميع مَنْ كانوا على شاكلته... نعم جذب «بيده هذه الجموع من الناس» (العرب من قلب الجزيرة العربية) «كي استحصل لكِ على الحرية» (وعد بلفور)، المنـزل الجدير بِكِ منـزل الأعمدة السبعة (الوطن القومي الصهيوني لدولة اسرائيل)، ولا ندري حقاً؟! ... من هو الأحمق من بني يعرب الذي أطلق عليه لقب لورانس العرب)؛ هكذا!... (انتهى).
عندما صدرت ترجمة كتاب «سارة» مع مقدمتي عام 1994، كانت الضجّة الشهيرة... استنكر البعض وتساءل الآخر وصمت كثيرون... أما الأوساط المطلّعة على دراساتي وأبحاثي، فقبلت ما أعلنته بحذر... ومرّت الأيام وكنتُ أتابع مختلف الدراسات، ذات الصلة بالموضوع، الصادرة شرقاً وغرباً... ويلخص موقفهم القديم، كتاب صدر بالفرنسية بعنوان:
لورانس بلاد العرب (3) Lawrence d < الرقم (4)). (انظر>
عن دار النشر الفرنسية المعروفة (فايار Fayard) عام 2000 للكاتب (اندِرِه غِيُّوم André Guillaume).
يأتي الكاتب على ذكر (سالم أحمد/داهوم وحرفي س.أ. S.A) ويلمح إلى العلاقات الجنسية المريبة بين لورانس وداهوم، ويظن أن الحرفين (س.أ) يشيران إلى داهوم.
والملاحظ أنه لا يأتي على ذكر (سارة آرونسون) على الاطلاق .
ثم جاء الفرج... فمنذ شهرٍ جاءنا الزميل الأستاذ الدكتور عبد الكريم رافق، أستاذ التاريخ العثماني بالكتاب المنشود... وكان قد أنبأني قبل مغادرته الولاية المتحدة ، حيث يلقي محاضراته منذ سنوات، بصدور كتاب يضمّ وثائق جازمة، تؤكد ما توصّلتُ إليه منذ خمسة عشر عاماً، وعنوان الكتاب هو لورانس وآل آرونسون (4) Lawrence and Aaronsohn ويقع في (512 صفحة)، للمؤرخ رونالد فلورانس R.Florence.
(3)سارة/ شبكة نيلي Nili ولورانس
في الصفحة الثانية من الكتاب، يذكر رونالد فلورانس ما يلي:
T.E.Lawrence, Aaron Aaronsohn and the Seeds of the Arab – Israeli Conflict .
نترجم ت.أ. لورانس وهارون هارونسون (أرونسون) وأصول الصراع العربي – الإسرائيلي. (انظر الرقم (5)). اسم صاحبنا الكامل هو (ت/ توماس أ/ ادوار لورانس) ولقبه هو (نِدْ Ned) واسم الأسرة الأصلي هو (شابمان) واسم والده (توماس رُوبر شابمان).... وبعد أن هجر والد لورانس قريبته وزوجته (يهوديت سارة هاملتون) التي أنجبت له 4 بنات، ترك الزوجة والبنات وفرّ مع مربية بناته وهي (سارة جُوْنِرّّ)، وهنا اتخذ اسما عائلياً جديداً هو (لورانس). وأنجبت (سارة جونر) خمسة صبيان، وبكرهم هو صاحبنا (توماس إدوار لورانس). وحيث إن زوجته الأولى رفضت الطلاق، فمعنى ذلك، بحسب الكنيسة الإنجيلية، أن البكر لورانس وأشقاءه الأربعة: أرنولد، فرانك، روبر، ووليام هم أولاد زنى (غير شرعيين).
أما هارون هارونسون (آرونسون) فهو ابن المهاجر الروماني (أفرايم آرونسون فيشل) وهو البكر ثم سارة وآلكس ورفقة /رِبِكَا. وقد أنشأت الأسرة المهاجرة مخبراً زراعياً في عثليت، كما ذكرنا سابقاً، وذلك بين رأس الكرمل والطنطورة- وقد تحوّل هذا المخبر الزراعي لاحقاً إلى مركز للجاسوسية، خلال الحرب الكونية الأولى، تحت إشراف هارون آرونسون. وبعد مغادرة هذا الأخير فلسطين إلى القاهرة فبريطانية، حلّت سارة محل أخيها في إدارة أمور الشبكة. ظنّ بعضهم في أول الأمر أن لاسم (نيلي Nili) علاقة بوادي النيل والقاهرة حيث كانت القيادة الإنكليزية التي تصدر الأوامر للشبكة الجاسوسية عثليت... وتبيّن لاحقاً أنها قراءة خاطئة... وقد سَاْعَدَنا ما جاء في كتاب: قرن اسرائيل (5) في حلّ لغز اسم نيلي Nili الذي يتكوّن من أربعة حروف لأربع كلمات من (سفر صموئيل أول 15/29): «ن/نصَح؛ ي/ يسرائل؛ ل/لا؛ ي/يَشَقّر) [ن ي ل ي = نيلي Nili م.م.، الترجمة «بهاء اسرائيل لا يكذب/يخدع».
ضمت شبكة (نيلي) في صفوفها حوالي (200) عنصرٍ) من فلسطين والأردن ولبنان وسورية، ومركز قيادتها في فلسطين (عثليت). حيث تتعاقب تقارير العملاء التي ترسل إلى قيادة القاهرة بوساطة الحمام الزاجل ووسائل أخرى، قبل أن يُكْشَف أمرها مصادفةً، عندما وقع حمامٌ زاجل في يد قائممقام قيصرية الفلسطينية، ما أدى إلى تيقّظ المسؤولين العثمانيين في جبهة فلسطين، لاسيما بعد انتشار ليرات ذهبية انكليزية، جديدة السك (عام 1916)(6)، ما ساعد على كشف بعض أعضاء الشبكة، ثم إلقاء القبض على سارة، التي انتحرت بعد خمسة أيام من توقيفها... كان ذلك بعد فوات الأوان، إذ كانت المعلومات الخاصة بمواقع القوات العثمانية وأسلحتها وخططها الاستراتيجية إلخ... قد أصبحت في يد المسؤولين البريطانيين في القاهرة، عن طريق شبكة (نيلي) والحمام الزاجل ووسائل أخرى... وصرّح الجنرال (كليتون Clayton) ، مدير مكتب الاستعلامات البريطاني والمسؤول عن (المكتب العربي) في القاهرة للورانس، بعد دخول القوات البريطانية إلى مدينة القدس، التي انسحب منها جمال باشا دون قتال، وذلك في 9 كانون الأول 1917، قال (كليتون) معلّقاً على دور شبكة (نيلي) التجسسيّة: «إليها يعود الفضل في إنقاذ حياة 30 ألف جندي بريطاني»(7).
هاهنا نذكر بعض الأرقام «الناطقة» المفصليّة، التي غابت عن أذهان رجال الثورة العربية الكبرى ، الذين لم يحسنوا الربط فيما بينها، أو لم يعيروها انتباههم...
-1 تشرين الأول 1917: إلقاء القبض على سارة ومعاونيها.
-6 تشرين الأول 1917: هارون آرونسون وحاييم وايزمان يفاوضان لورد بلفور لإعلان الوعد، في لندن، وكانت أخته سارة تنـتحر بعد انكشاف أمرها.
-26 تشرين الأول شرقي / 8 تشرين الثاني 1917 غربي: إعلان انتصار الثورة البلشفيّة، وبعد بضعة أيام أذاع لينين بنود سايكس بيكو السرية.
-2 تشرين الثاني 1917: وعد بلفور
-4 حزيران 1918: لقاء العقبة: فيصل /وايزمان / لورانس.
إن الربط بين هذه الأرقام «الناطقة» المفصلية لأمر مذهل، ومن هنا دور المؤرخ «المعلم والنبيه». وها هي بعض الملاحظات؛ بل علامات الاستفهام :
-ما هي الأسباب والدوافع التي جعلت بعض رجال «الثورة العربية الكبرى» يهملون تحذيرات عثمانية، حول نيات انكلترا وفرنسا بعد فضح أسرار اتفاقيات سايكس - بيكو التي تنص على تقسيم المشرق العربي إلى مناطق نفوذ بريطانية - فرنسية.
-كيف قبل الأمير فيصل بلقاء وايزمان في العقبة بعد انكشاف دور شبكة (نيلي) ولورانس، الذي مدحه وايزمن في كتابه «التجربة والخطأ» قائلاً: «إن صلة لورانس بالحركة الصهيونية كانت ايجابية للغاية برغم كونه مؤيداً للعرب (هكذا م.م.)(8) وقد تصوّر الناس خطأ أنه مناهض للصهيونية...»
-لماذا أهمل المؤرخون العرب ما جاء من غموض في مقدمة لورانس، لاسيما ماهية شخصية (س.أ) وسكتوا عنها منذ صدور كتاب «أعمدة الحكمة السبعة» وحتى أواخر القرن الماضي.
لقد نطقت الأرقام ساطعة «... وجاء الحق وزهق الباطل...» ... نتوجه إلى طلاب التاريخ ... لا تحفظوا الأرقام كالببغاء... لا تثقلوا الذاكرة بأرقام عبثية... ففي علم التاريخ نحن بحاجة إلى الأرقام، ولكن أحسنوا انتقاء الرقم الضروري والمفيد... نعم التاريخ «علم خطر» وفي أغلب الأحيان لا يعيد نفسه. من المفيد والضروري أن نمعن النظر في تحذيرات هذا العربي الذي غاب عن أذهان الكثيرين وسميناه (نجيب عازوري)، ذلك اللبناني الذي أصدر كتابه: «يقظة الأمة العربية» في عام 1905 بالفرنسية، قبل ترجمته إلى العربية في مطلع تسعينيات القرن الماضي... يقول (نجيب عازوري): «إن ظاهرتين هامتين متشابهتين في الطبيعة، بيد أنهما متعارضتان، لم تجذبا انتباه أحد حتى الآن تتضّحان في هذه الآونة في تركيا الآسيوية، أعني يقظة الأمة العربية وجهد اليهود الخفي لإعادة تكوين مملكة إسرائيل القديمة [كذا م.م.. على نطاق واسع، ومصير هاتين الحركتين هو أن تتعاركا باستمرار حتى تنتصر إحداهما على الأخرى، وبالنتيجة النهائية لهذا الصراع بين هذين الشعبين [كذا م.م. اللذَيْن يمثلان مبدأين متضاربين يتعلق مصير العالم بأجمعه....»(9)
جاءت أقوال نجيب عازوري هذه منذ قرن وأكثر... فهل كان يتنبأ؟!... أم كانت تخمينات وتقديرات منطقية بعد قراءة الوثائق التاريخية بشكل صحيح... نكرّر قولنا: التاريخ علمٌ وليس قصص وروايات عبثية... منذ عدّة سنوات، وبعد قراءة وثيقة، أو بالأحرى أخبار نشرتها صحف الكيان الصهيوني، تهاجم اسحق رابين، قبل اغتياله بعدّة أيام، قلتُ لمسؤول رفيع المستوى (ن.ق.) «متى استلمتم هذه الوثيقة» فأجابني: اليوم صباحاً، ولاحظ هو ومسؤولٌ آخر أنني اتمعن في الوثيقة واكرّر قراءتها ... فقال لي الأول: ما بك؟!.. فأجبتهما بهدوء: لقد حكموا بالإعدام على اسحق رابين... لاحظت دهشتهما قبل انصرافي... وبعد بضعة أيام فقط، حدث ما توقعته. وفي اليوم التالي من اغتيال اسحق رابين، قال أحدهم، بين الجدّ والهزل، نعرفك مؤرخاً لا عرّافاً... أو من أهل التنبؤ والكشف... فقلت: لا هذا ولا ذاك، بل ما جاء في الوثيقة كان واضحاً جلياً... كانت عصبة تدور حول منـزل اسحق رابين وتمطر عليه وابلاً من اللعنات: شتموا والده، نسبوه إلى أمّه وشتموها، اتهموه بأنه يتنازل عن أرض الشعب المختار للأعداء، أبناء اسماعيل... حرموه من عائلته وماله... إلخ هذه كلها لعنات أهل الخناجر القدامى، والقاتل من القباليين... ولنتذكر ما قاله للمحامي، الذي يدافع عنه أمام القضاء، إذ ادّعَى أن مُوَكله القاتل مختل العقل... فكان جواب هذا الأخير للمحامي: أنت مختل العقل... ولو بُعث رابين وعاد حياً لقتلته من جديد.. ولنتذكر المشهد، فكأن رجال الأمن المحيطين باسحق رابين قد يسروا مهمة القاتل... فهل كان بعضهم من القبّاليين؟!وانقسم القباليون إلى فرقٍ وشيع تجمعها شعارات: الشعب المختار /أمة الروح/ الأرض المقدسة... ومن كتبهم الزوهار والبهير وهم صوفيو اليهودية ويؤمنون بالتفسيرات الرقمية والسحر... ومن المعروف أن سلاح استمطار اللعنات كان شائعاً وما زال في الكيان الصهيوني، كما حدث في انتخابات الكنست عام 1988. حيث راح بعض الحاخامات يستمطرون اللعنات على كل من لا يدلي بصوته لمرشحهم.. فكان أن صدر قرار في كيانهم يمنع استمطار اللعنات أثناء المعارك الانتخابية.
لا نعرف الكثير عن عدوّنا، الذي يعرف الكثير الكثير عن تاريخنا الماضي.. طَالِعوا أسفار مؤرخهم القديم (فلافيوس يوسفوس 37-100م) المولود في القدس، وله مؤلفان «حرب اليهود» و«عاديات يهودية». فبعد أن قاد قومه ضد الرومان وكان الانكسار فتدمير الهيكل (70م)، خان قومه والتحق بالرومان، وغادر فلسطين إلى روما، حيث قضى بقية أيامه حتى وفاته... والغريب أنه انتسب في الاسم إلى أسرة فلافيا الأمبراطورية وعاش في كنفها، مع أن أحد أفرادها القائد فالامبراطور تيطوس هو الذي شتّت قومه ودمر هيكلهم... يُدهش المرء من هول صراعات الفرق اليهودية وعدد القتلى فيما بينهم... أما الاغتيالات السياسية فكانت مألوفة، على يد مهووسين، اشتهروا باسم «حملة الخناجر Sicarii»... هذا في القديم، أما في أيامنا، فلنطالع الكتاب الذي ذكرناه مراراً أعلاه وهو «قرن إسرائيل» بنسخته الفرنسية، فالأمر لا يختلف كثيراً عن الماضي... فالعشرات من زعمائهم السياسيين والنقابيين كانوا ضحايا العصابات الإرهابية حتى أن أنصار سارة آرونسون قد سلمهم يهود إلى السلطات العثمانية، وتخلوا عنهم بعد افتضاح أمر شبكة (نيلي).. وساعدوا العثمانيين في إلقاء القبض عليهم...
هكذا، فالتاريخ سلاح ذو حدين، من أحْسَنَ استعماله، كان من الفائزين.. فهلا استفدنا من علم التاريخ... كما فعل خصمنا؟!...
لنتذكّر ما جاء ذكره أعلاه في الصفحة الثانية من كتاب (لورانس وآل إرونسون: ت.أ. لورانس وهارون (هارونسون /آرونسون) وأصول الصراع العربي – الإسرائيلي، نقرأ ما يلي في خاتمة باب (نيلي، الذهب والدمّ)، الذي جاء ذكره سابقا: «أتاحت هذه العملية الجريئة، التي نفّذتها حفنةٌ من الأغرار، للاستراتيجي في أعمال التجسّس، أن يساهم في عملية المفاوضات مع السيد (مارك سايكس) المبرمج والمخطط الأول للسياسة الامبريالية البريطانية، بشأن النظام الأساسي للوطن القومي اليهودي، الذي تمّ إعلانه في 2تشرين الثاني 1917، باسم (وعد بلفور).
لا نعتقد أن حاييم وايزمن ومتفجراته كان أكثر أهمية من دور (آل آرونسون) التجسّسي التخريبي في حثّ الأوساط الامبريالية البريطانية على إعلان (وعد بلفور)...
كنّا ضحايا خداعهم... كانوا دهاةً وكنّا أغراراً... كانوا يغوصون في الماضي ويمحصون وثائقنا التاريخية، وكنا نتغنّى بماضينا التليد،... أهملنا تاريخنا واقتصرنا على تمجيده... فكنا ضحية التاريخ... يغفر الله لأولئك الذين صدّقوا وعودهم عن جهل أو حسن نيّة: «لورانس العرب» الحريّة، الاستقلال، وحدة العرب إلخ ... فكان «وعد بلفور، سايكس- بيكو، الاحتلال والاضطهاد، إلخ....»
أمين سرّ لجنة كتابة التاريخ (سابقاً)
رئيس تحرير مجلة (دراسات تاريخية) جامعة دمشق
عضو مجمع اللغة العربية (دمشق)
المصادر والمراجع
1-لطفي أكدوغان، سارة، المرأة التي هدمت الامبراطورية العثمانية، ترجمة دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، تقديم ومراجعة الدكتور محمد محفل، دمشق 1995، انظر ص ص 7-20.
2- Jacques. Derogy, Hesi Carmel, le Siècle D une épopée, 1895-1995, Fayard, Paris 1995,p.p179ff.
3- André Guillaume, Lawrence d>Arabie, Fayard. Paris 2000, pp.45-47, 280,282.
4- Ronald Florence, Lawrence and Aaronsohn, U.S.A .2008, Passim.
5- Le Siècle d < 184-185. p.p>
6-سارة المرأة التي هدمت ... صفحة 275 وما بعدها.
7- Op.cit.,p.187.
8-الدكتور محمد محفل، من اجتماع العقبة إلى معركة ميسلون، القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة، الإدارة السياسية، الندوة الفكرية، دمشق 24/7/2001 ص ص 41-42.
9-العنوان بالفرنسية Le réveil de la Nation Arabe ترجمه إلى العربية الدكتور أحمد بو ملحم، بيروت صفحة 41، دون تاريخ.
أ. د. محمد محفل-تشرين
إضافة تعليق جديد