محمد ملص: سينمائيّ الفقدان وصيّاد الذاكرة المشتهاة
كان علينا أن نصعد تسعين درجة في السلّم الحجري القديم للوصول إلى بيته على سطح بناية ضخمة في حي «الطلياني» في دمشق. نسأله بعدما نلتقط أنفاسنا «بماذا تفكر وأنت تصعد الدرج كل يوم؟». بعد صمت طويل، يجيب محمد ملص «في هذا العمر، بدأ يشغلني هاجس يتكرر كثيراً. ماذا لو توقّف القلب فجأة خلال رحلة الصعود المتكررّة يومياً؟ ثم أواسي نفسي بالقول: هذا الشكل من الموت أفضل من أي موت آخر، قد تُنتهك فيه كرامة البني آدم بسبب تشبّثه بالحياة».
يختار صاحب «أحلام المدينة» تاريخاً مفصليّاً في حياته هو 1952، العام الذي افتقد فيه الأب. وبمراجعة بسيطة لشريط مسيرته السينمائية، سنكتشف أنّ هذا المخرج اشتغل على موضوعة الفقدان في أفلامه كلها. الفقدان هنا يتّخذ طابعاً رمزياً: من فقدان الأب وهو في السابعة، إلى فقدان مدينته القنيطرة والنزوح إلى دمشق، وفقدان الطفولة التي ما انفك يستعيدها من شريط إلى آخر. يفسر هذا الاهتمام قائلاً: «ربما يتعلق الأمر بالبحث عن الصفاء، وعن شفافية لحظة مفتقدة، إضافة إلى مكاشفة الذات في مراياها البعيدة. ولعل المسألة لا تتعلق بالطفولة بحد ذاتها، بقدر ما تتعلق بتفصيل اجتماعي وسياسي ملحّ. فيلمي الأخير «عش الورور» عن حياة الأطفال في الشوارع، وهناك إشارات إلى مصير أطفال معتقلي الرأي بغياب الأب وأثر هذا الفقدان على نشأتهم».
كان محمد ملص من أوائل السينمائيين السوريين الذين دشّنوا «سينما المؤلف». سينما تنبش ما هو سيروي، وتمزجه بالشأن العام وأحوال البلد. هكذا جاء فيلم «أحلام المدينة» ليضيء أحوال طفل تتفتّح عيناه على دمشق الخمسينيات، أيّام كانت تعصف بالبلاد رياح التظاهرات والانقلابات العسكرية والتطلع إلى الوحدة. شريط يشتبك مع حلم طفل سيجد نفسه في فيلم آخر «الليل» يروي سيرة العائلة قبل مغادرتها القنيطرة، كأنّ محمد ملص أراد التوغل أكثر في الزمن ليستعيد طفولته الموؤودة، ويسترجع أباً غائباً في ما يسمّيه «الذاكرة المشتهاة».
هذه المراجعة في دفاتر السيرة الذاتية ظلت تشتغل على هموم عمومية، ولم تقارب مناطق أكثر خصوصية وحميمية، كأن قدر المبدع العربي أن يزيح السيرة المضمرة جانباً ويدفنها في الأدراج، عدا تجارب قليلة واجهت مجتمعها بمكاشفة تقترب من الفضيحة العلنية: يوسف شاهين في السينما مثلاً، ومحمد شكري ورشيد الضعيف في الأدب؟ «لا أخفيك أنني أعيش حالة قلق مستمر من عدم إتاحة الفرصة في الدخول إلى عوالم تجعلني أنسى أنني سينمائي في بلد عربي، وفي مجتمع يفتقد حرية التعبير، والقدرة على استيعاب صدمات من هذا النوع. المكاشفة العميقة والبوح الحقيقي يدخلان في باب المحرّمات، في السينما على نحو خاص، فالصورة أكثر سطوة من غيرها. لذلك تجدني ألجأ إلى الكتابة أحياناً للتعويض عما افتقده في الصورة، أو ما لم أتطرّق إليه في أفلامي بسبب وجود رقابة صارمة تمنع مرور قبلة، فما بالك بمكاشفات أخرى».
يشير محمد ملص إلى أدراج مكتبه ويقول: «هناك مشاريع كثيرة مؤجلة، وصراحة لديّ حنين لإنجاز فيلم يتناول مكاشفات شخصيّة في الحب والعلاقة بالمرأة بشكل فضائحي، لكن هذا الأمر مستبعد الآن». ويستدرك متحمّساً «هذا لا يعني أن أخون ما كنت قد بدأت به، أقصد ذاكرة الفقدان. هذه الذاكرة هي مونولوجي اليومي، وقلقي الدائم في استعادة ألفة مفتقدة: كيف أعبّر في فيلم واحد عن «زهق» العاطفة في الحضور، ولوعة الغياب». نذكّره بمشروع فيلم «سينما الدنيا» الذي لا يزال يقبع في الأدراج منذ سنوات، بعدما منعت لجنة الرقابة في المؤسسة العامة للسينما إجازة السيناريو. قيل وقتها إنّ المنع بسبب اعتراضات «عائلية» يطال السيناريو خصوصياتها. يجيب بمرارة «هذا مثال آخر على السينما الموؤودة، لكنه لم يصبني بالإحباط، إذ إنني انتقلت من دون حسرة إلى مشروع آخر هو فيلم «باب المقام». وقد وجدته أكثر راهنية في تناول قضايا ساخنة وملحّة، فالشريط بشكلٍ ما، يرصد التحالف بين الاستبداد السياسي وسطوة التيار الديني المحافظ. هذا التحالف الذي ينهي حياة امرأة لمجرد أنها تهوى الغناء».
«سينما الدنيا» كان من المفترض أن يكون بمثابة ختام ثلاثية الفقدان: مدينة بشوارعها وناسها وسينماها الوحيدة. أراد هذا السينمائي أيضاً أن يوجّه تحية لمخرجين تركوا بصماتهم على ذائقة ملص السينمائية، من أمثال كيروساوا، وبازوليني، وبرغمان، وآيزنشتاين... إضافة إلى توفيق صالح، إذ كان يعتزم تضمين الشريط مشهداً من «المخدوعون». لكن المشروع أجهضته البيروقراطيّة. إجهاض المشروع لم ينس محمد ملص «القنيطرة». فهو رغب على الدوام في «الانتقام من الهمجية التي تمحو الذاكرة»... أراد بناء المدينة بيتاً بيتاً، وشارعاً شارعاً، انتهاءً بقبر الأب. وستبقى الأحلام المادة الخام في تشكيل أفلام ملص، للتعرف إلى «دهاليز النفس وسبر عوالمها الداخلية».
من أحلامه الشخصية انتقل إلى رصد أحلام الآخرين، حين عاش في مخيم للاجئين الفلسطينيين في لبنان، فكان شريطه التسجيلي «المنام». هناك التقط منامات الفلسطينيين وأحلامهم المجهضة في وطن مؤجّل على الدوام، لكنّه مقيم في الذاكرة، وعصيّ على النسيان. كأن السينما ـــــ في نهاية المطاف ـــــ محاولة لترميم الذاكرة بصورة مشتهاة، وأرشيف لمنامات غير قابلة للمحو.
الرحلة الطويلة من القنيطرة إلى موسكو لدراسة السينما، علّمت محمد ملص كيف يتخلّص من إثم الذاكرة بكتابتها، مرة إثر أخرى، خوفاً من الفقدان. وهذا الإصرار على تكرار الصورة من زوايا مختلفة أوصل كاميراه إلى ما يشبه الشطح الصوفي، في رقصة دائرية تسعى من دون هوادة إلى الارتقاء نحو النشوة البصرية. في بداية فيلم «الليل»، تقول الأم للابن «شفتك اليوم بالمنام. الصورة... كانت صورتك أنت، بس الصوت، كان صوت أبوك الله يرحمه!». لعل هذا المشهد يختزل العلاقة بين منام الأم ومنامات ملص اللاحقة التي حاول تظهيرها، واختبار ألغازها ومقاصدها الجمالية، في بلاغة مكثّفة وصورة مشبعة بالحنين. الحنين إلى طفولة بعيدة، ما زالت تغذّي الذاكرة باحتمالات جديدة عن مدينة مهدّمة في الواقع، لكنه ظلّ مصرّاً على إعادة ترميمها في المخيّلة الفنيّة. يقول قبل أن نغادره: «الفن ليس مؤامرة تحاك في السّر». ننزل السلّم ونتأكد من عدد الدرجات. إنّها تسعون درجة فعلاً.
5 تواريخ
1945
الولادة في مدينة القنيطرة
1968
هجر دراسة الفلسفة في جامعة دمشق، وغادر إلى موسكو لدراسة السينما
1984
فيلمه الروائي الطويل الأوّل «أحلام المدينة» الذي نال إحدى عشرة جائزة عربية ودولية
1996
تكريمه في «أيام قرطاج السينمائيّة»، المهرجان التونسي الذي فاز فيه مرّتين بالتانيت الذهبي (عن «أحلام المدينة» و«الليل»)
2008
فيلما «المهد» و«عش الورور»
خليل صويلح
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد